أنس الرشيد - يدٌ عليا تكتبُ نصًا في غرفةِ الإنعاش

  • همسات إلى (مها الرشيد) بعد عَامٍ من موتها.

هَمسةٌ أولى:

قيل يا مها إنَّ اللهَ وضعَ أسرارَه في أعماقِ المحيطات منذ ملايين السنين، وكلما خرجَ كائنٌ حيّ من الماءِ إلى اليابسة خرج معه سر...!،
وليس للإنسانِ كي يَكشِفَ السِرَّ إلا أن يَغوصَ في أعماقِ تاريخِ قلبِه العتيق، ذلك الذي عاشَ حيواتًا متعددة، وأخذَ العهودَ والمواثيقَ؛ كي يتعلّق بالحضارات ويتخلّق بالسموات.
وما كانَ الله ليذر الأرضَ بلا لطفٍ خفيٍّ من ألطافه، يُوازن بها كفةَ العالم، وكلما أغوص في أعماقِ القلبِ أرى اللهَ يبعثكِ على رأسِ كلِ خمسين سنة إلى جهة أخرى في عوالم الكون، لتَسُدّي نقصَ الجمال فيه، وتبعثي طاقة اللطف فيه، فأنتِ من قال الله لها: "كُونِي اللطفَ" فكنتِ ونَزلتِ مِن السَماءِ إلى الأرضِ على هيئةِ أجمل امرأة.

همسة ثانية:

يا مها؛ رأيتكِ أثناء حلمٍ وقد لبستِ فيه جَلالَ الحبِّ، ذلك الذي رسمتيه في لوحاتكِ وأشعاركِ ونظرتك الحالمة للحياة...،
كنتِ تمشين كما تمشي قوافلُ المَلأ الأعلى في السموات، تُلوّحين لي بأنَّ في نصوصِ الحب ثغرة، قلتِ لي: "تعالَ، اقترب، التصق بي؛ كي أحدثك بالسرديةِ الكبرى التي وعدتك بها وأنتَ صغير...!".
اقتربتُ لكن لم أستطع أن ألتصق بكِ، ثمةَ ما يمنعني، كان سوادًا من كوكبةِ الأطباءِ الذين أحاطوا بغرفةِ الإنعاشِ وهي تضطرب لموعدكِ المشهود بين السماء والأرض...! كأنهم يُخفون عني سرَ أسراركِ، نصكَ الذي كتبتيه في غرفة الإنعاش، أو نصّ الأبديةِ الذي كُتِبَ من أجلكِ يوم تَخلُّق المحيطات.
سأراكِ في حلمٍ آخر، وألتصق بكِ، وأسألكِ عن النَّصِ الذي لم يكتمل في غرفةِ الإنعاش، فخللُه لا يُغتَفر...؛ فبأي آلاءِ الحبِّ واللطفِ تغيبين إلى عالمٍ آخر، كسماءٍ بمحضِ إرادتِها اختفت؟
نعم كما هو العهد الأزلي اكتمل قمركِ خمسين سنة في عالمنا، وحانَ موعدكِ موعدِ اللطف في مكانٍ آخر، لكننا لم نتخلّق باللطفِ والجمالِ بعد، فما زلنا بحاجتك، لكن ماذا نستطيع أن نقول إلا: ولله في لطفه شؤون...!

همسة ثالثة:
يا مها؛ يا امرأةً خلقها اللهُ من زهرةِ (الديدحان) التي وُجِدت في أولِ قطرةِ ماءٍ على كوكبِ الأرض...، ها هي زهرتنا عطشى من رحيلك.
وها أنا أتذكّر لوحدي ذلك المقطع الذي تُحبينه من قصيدة
(يقول من عَدّى على رأس عالي):
"متى تربّع دارنا والمفالي، وتخضَر فياضٍ عقب ما هِي بيبّاس
ونشوف فيها الديدحان متوالي، مثل الرعاف بخصر مدقوق الألعاس"


يا مها، بحقِ زهرةِ الديدحان كيفَ يَموت النصُ الإلهي هكذا دونَ أن يُطمئِنَ الأطباءَ بأنَّهم عَرفوا كيف تَموتُ الجبال؟ لكن هكذا هم الأطباء يَحتارون ويضطربون ويتساءلون عن سر موت النص الإلهي، ثم يعودون كأغبى مخلوقٍ نسيَ ميثاقه مع اللطف والجمال...،
لا لا، ربما ظلمتُ الأطباء، فلأُعَمِّم: هكذا هو الكائن المتناهي، يَخسر الجمالَ كله من أجل متعةِ النظرِ إلى موتِ نصٍّ سَاحرٍ قَصير، اشتاقَ لدفترِ الأبدية.

همسة رابعة:

ثم ماذا...يا مها؟!
أين أنتِ الآنَ؟ أين حَلّ اللطفُ من وجهِ السموات والأراضين وعوالم الأزهار والبساتين؟ أين حَلَّ وهو أقرب إليَّ من حبل الوتين؟

يا مها،
ليتَ لي عَينٌ وراءَ قبركِ؛ كَي أراكِ وقد لبستِ ثوبكِ الأزلي، ثوبَ الحكايةِ الأولى...،
وحين تنتهين من الكلمات،
سأسألكِ مَرّاتٍ وكَرّات عن:
١/ اليد العليا التي كتبت النَصَّ في غرفةِ الإنعاش؟ أأنتِ هي، أم خُلقتِي على صورتها؟ أم هي اليد التي خاطت دفترَ الأبديةِ بكِ، ولما أرادت أن تُغلِقه استعانت بكِ مرة أخرى؟
٢/ نص النصوص، وكيف استطعتي أن تخبِئه في دفتركِ دون أن أراه؟

همسة أخيرة:
عام مضى يا مها على حَياةٍ بلا شِعر، ولا أغنية.




..

١٧ أيَّار المعظّم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى