هشام العطار - بحيرة التوت...

كان الخبير الأمريكي جاكوب يجلس بجواري في سيارة الادارة عندما كنا نتفقد تلك البقعة الصحراوية من الارض فإذا به يصيح .. قف .. قف هنا
اندهشت من ردة فعله المفاجئة فأوقفت السيارة وأشار بيده لأعود للخلف قليلا .. فلم ألاحظ إلا صخرة تبدو كجزع شجرة ضخمه منحوتة بتجاعيد الزمن محاطة بأرض مترامية الاطراف كطبق من البلور الصناعي.
انها أرض ساحرة لا ينقصها إلا بعض اللافتات الارشادية المدعومة بالصور كدليل للسائحين فيأتوا لها من كل بقاع الارض ..
عزمت على أن أقدم مقترحا لمحتوى تلك اللافتات لعرضها على المدير العام في الاجتماع المقبل .
في اليوم التالي عدت اتفحص المكان فعثرت على كوخ عتيق في تلك الصحراء القاحلة على بابه كلب باسط ذراعيه في هدوء و عندما اقتربت قام و رفع ذيله و أخذ ينبح لينبه ساكن الكوخ بحضوري فخرج من داخلة رجل في العقد الثامن من عمره فقلت له مبتهجا:
- معذرة علي الازعاج يا سيدي .. انا "باهر محمود" من إدارة تجميل الصحراء .. وإني أبشرك بأننا سنزود تلك الأرض بلوحات إرشادية تحكي تاريخها حتي تتحول تلك المنطقة إلى مشروع سياحي استثماري ضخم يسعد به الجميع. فإذا أخبرتني بقصة هذا المكان سأكون لك من الشاكرين.
تأمل الرجل الثمانيني عيناي فظهرت على وجهه ابتسامة يائسة وقال :
- اسمع يا بني .. سأنبئك بخبر هذا المكان لعلك تعي من الامر شيئا فانتبه لكلامي وأنصت جيدا.
في وسط هذا السهل الفسيح نزل بعض المطر فولدت شجرة توت مورقة مثمرة نضرة . و عندما ازدادت غزارة الامطار تجمعت المياه في أخدود الارض الجدباء فشقت نهرا حتى فاض وملأ السهل فصار السهل بحيرة عذبة وشجرة التوت تقف في وسطها فسميت "بحيرة التوت" واعتاد الناس أن يرتادوها فيرتوون بمائها الفرات و يغسلون اجسادهم فيها فيستشفون و كلما شربوا منها أو سبحوا فيها أنارت الحكمة عقول الشيوخ و امتلأ الفتيان فتوة و قوه و سرى الحسن في اجساد الفتيات و عيونهن كما أن الاشجار المثمرة تكاثرت حول البحيرة حتي تشابكت أفنانها فأصبحت حدائق غناء.
وقف الغرباء الطامعون بالقرية يتربصون و لكن لا يستطيعون الاقتراب من ثمارها و يهابون اختلاس النظر الى جمال فتياتها خوفا من بأس الفتيان .
فشلت كل حيل المترصدين لاغتصاب أسماك البحيرة وأيقنوا انهم لن يقدروا على نهب ثمار أشجارها ولا النيل من حسناواتها الا بإفساد ماء البحيرة فهي مصدر حكمة شيوخها التي تغذي فتوة الشباب.
كان صيادو القرية يغشون البحيرة عند الشروق فيصطادوا ارزاقهم و يغادرونها عند الغروب .
أما الفلاحون فكانوا يرتادوا حديقة أشجارها بعد الشروق ليجمعوا الثمار فيبيعوها ليطعموا الشيوخ و الاطفال .
و ذات ليلة عقيمة حيث كانت البحيرة خالية أفاق أهل القرية على اصوات موسيقية صاخبة و أضواء تلمع علي سطح الماء ليجدوا رجلا يطير فوق البحيرة بحذاء نفاث يعلو و يهبط به من فوقها كيف يشاء فاندهش الشاب وصرف انتباههم عن حراسة البحيرة و سألوه
"من أي الامصار أتيت ؟" فأخبرهم أنه أتى من بلاد الآلات الرقمية التي لا يتكسبون فيها من الأنشطة التقليدية كصيد الاسماك و ري النبات وسقيا البشر و الطير و الحيوان و الاستشفاء و الاستحمام و لكن مكاسبهم كلها بالوسائل الرقمية الحديثة.
أهداهم الرجل عشرين حذاء نفاث و قراطيس ملونه و قنينات عطور.
و عرض عليهم آلة ضخمة توقف تدفق مياة النهر و تجفف البحيرة لتحولها الى ساحة العاب متطورة ذات أرض مصنوعة من البلور ليتمتعوا مع فتياتهم بالتزلج على طرائقها المغناطيسية و الطيران بالأحذية النفاثة في سمائها فتحمس الشباب للفكرة و دقت قلوب الفتيات ابتهاجا و فرحا.
جفت البحيرة وبكت شجرة التوت فأصابتها التجاعيد حتى استحالت الى صخرة متحفيه ذات نقوش صلبه.
بعض الصيادين تركوا الصيد و نزحوا الي بلاد الآلات الرقمية و البعض الاخر ارتحل الي المدينة مع الفلاحين لاستزراع حدائق أزهار بنفسجية.
أما الفتيان و الفتيات فصاروا شيوخا و عجائز و التحقوا بالمهاجرين و المرتحلين ولم يبق في المكان سوي الصخرة ذات النقوش تلمع في شمس صحراء قاحلة.
وهكذا انتهت الحياة هنا يا ولدي .. فاذهب الي حال سبيلك و اتركني مع كلبي لننام.
امسكت بقلمي افكر بالكلمات التي ستكتب علي اللافتات و عندما هممت بتصوير الصخرة لأدمج صورها في اللافتات تذكرت كلمات الرجل التسعيني ساكن الكوخ و تمثلت لي البحيرة التي جفت و شجرة التوت التي نحت الزمن على بشرتها تجاعيده الغائرة فألقيت القلم الرصاص جانبا و أمسكت بقلم حبر أسود فكتبت
" السيد مدير إدارة تجميل الصحراء ..
تحية طيبة و بعد ..
ارجو من سيادتكم قبول استقالتي لظروف خاصة ..
و تقبلوا وافر التحية ..
الاسم ..
التوقيع ..
باهر محمود"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى