جعفر الديري - أبو الحكايات... قصة قصيرة

لا تزال الذاكرة محتفظة بصورة البيت الكبير، بـ "حوشه" الواسع، غير المسقوف، يرفع عينيه للسَّماء فتبادله النظر دون حاجز، كذلك تبدو الغرف الأربع المتلاصقة، بأبوابها الخشبية ذات الألوان الزاهية، قريبة من العين كأنّما تشاهدها السَّاعة. إنَّ ثُغاء المَاعز، ورفيف أجنحة الحَمام، مختلطة بكلام الناس، أصوات تصْنع في ذهنه شكلاً موازيا لحياته اليوم.

كان يقبل عصر كلّ يوم، كما هو شأن أطفال الحي، ليستمع لأبي الحكايات. كان باب غرفته مفتوح على الدوام، وكان يجلس ببشته البنِّي، مُسندا ظهره لمسند تراثي قديم، غرفته البسيطة بساطة صاحبها، كان بها شبَّاك خشبي، وسرير ومروحة لا تكفَّ عن ضجيجها، وثلاثٌ من الحصر الكبيرة تفترش أرضها.

يدخل الأطفال الغرفة ذات الطلاء المُتهالك، فيستقبلهم بالترحاب أبو الحكايات، ويشير إليهم بالجلوس، فيتحلَّقون حوله، ويبدأ حكاياته، فتسرح خواطرهم إلى حيث يشاء.

كان هذا الشيخ، معروف لأهل الحي، وكانت الأمّهات لا يجدن بأسا في إرسَال الأبناء إليه. كانت حكاياته لا تنتهي، يزعم أنه عاشها كلُّها، لكنَّ الجيران يؤكّدون أنُّه سمعها، وربما عاش بعضها إلاّ أنَّ مخيلته المدهشة كانت تفضي له بكثير من التفاصيل الرائعة.

هناك كان يجلس، مَادَّا قدميه أو مقرفصَاً أحيانا، سعيداً بمتابعة الأطفال، كان يحكي عن شبابه وكيف قضاه في الأسفار، وعن أهوال البحر الذي عرفه منذ نعومة أظفاره، عن رجال أشدّاء التصق بهم فكان كأحد أبنائهم، وتعلّم منهم الكثير، عن الحاج عبد الله، الرجل الشهم الذي أنقذه من الغرق.

كان يفخر باتخاذه قرار تعلُّم القراءة والكتابة، رغم استهزاء أصدقائه به، وكيف أنُّهم ندموا أشد الندم بعد ذلك.

غير أنّ ملامحه تتغيُّر، حين يواصل بألم:

- استطعت العمل في شركة كبيرة يا أولادي بفضل اتقاني القراءة والكتابة، لكنَّ لئيما حاقداً دسّ لي عند المسؤول الأجنبي، فطردني من العمل.

يسأله ولد لحوح:

- ماذا كانت تهمتك؟

يجيبه بغيظ:

- ادّعى أنني سرقت طابوقة!.

يضج الأطفال بالضحك، فيبتسم لضحكهم ويقول:

- كان الطابوق وأدوات البناء مرتفعة الثمن وقتها يا أبنائي، واتهام مثل هذا يمكن أن يشوّه سمعة الإنسان، وقد حدث ذلك بالفعل، فلم أجد عملا بعدها.

ويسأله طفل آخر:

- وماذا فعلت بعد ذلك؟

يجيب:

- هاجرت، عملت مع إحدى شركات التنقيب عن النفط في الصحراء.

ويسرد لهم عن الصّحراء مترامية الأطراف، وعن كثبان الرمل، والجِمال والنوق التي شاهدها تعبر الصحراء، عن لياليه الرائعة قرب الخيمة، وقد أشعل النار ليتدفّأ بها عن البرد الزمهرير.

ويسأله الأطفال ذاهلين عن أنفسهم وخيالاتهم تسافر بعيداً إلى هناك:

- لكنّ الشمس حارّة جدا في الصّحراء، فكيف يكون الطقس بارداً؟

ويخبرهم أنَّ هناك مواسما تكون فيها الصحراء شديدة البرودة، كما كانت عندما التحق بالعمل. كان من المقرَّر أن يسكن مع العمَّال، غير أنَّه عاش مع أسرة أجنبية صغيرة، ربُّها كان مسؤوله في العمل، اقترح عليه أن يسكن معه ومع زوجه وابنته الوحيدة، وكان يعرف غايته من هذا العرض السخي، فهو يخاف من البدو، ووجود شابٍّ قوي معه، مصدر اطمئنان كبير له ولأسرته، عدا عن قيامه وليس مسؤوله بتحمّل مشقّة الذَهاب للسوق، وهو طريق طويل، يستغرق عدّة ساعات، ومحفوف بقطّاع الطرق، من هؤلاء الذين يرتكبون حماقة كبيرة فتتبرَّأ منهم قبائلهم، أو يعتدون بالقتل فتلاحقهم قبائل المغدور به، فلا يجدون وسيلة للعيش سوى سلب المسافرين والعابرين في الصّحراء.

وقبِل عرضه، غير أنُّ المسؤول غدر به، وطرده بعد مدّة يسيرة، ليس لسبب سوى تعلّق ابنته به، ورغبتها في الزواج منه، عندها كشَّر الملعون عن أنيابه، وتقدّم ببلاغ كاذب إلى الشركة، فصل على إثره.

وعندما حكى الأمر لأحد رجال البادية، ممَّن توثَّقت علاقته بهم، عرض هذا عليه الزواج من ابنته بكلّ بساطة، مقابل مساعدته في الرعي، فقبل وعاش معهما حياة سعيدة، لولا أن ذئبا افترس عمَّه، بسبب عِناده الشديد، حين تراهن مع آخر على النوم خارج الخيمة رغم سماعه عُواء الذئاب.

مات وماتت معه ابنته – زوجته، التي كانت حُبلى تأثُّرا بموت أبيها، وكانت شديدة التعلُّق به، فخسر عمّا طيب القلب وزوجة محبّة صالحة، وطفلا كان يمكن أن يعينه على مشقّات الحياة.

ويبدو عليه الحزن، فيسكت الأطفال بانتظار الجديد، لكنه يصمت فيمضون متأسفين لبيوتهم. ثم يعودون إليه في الغد، فلا يبخل عن حكاية ما يدهش عقولهم، إلى أن جاء ذلك اليوم، الذي وجدوا فيه غرفته مغلقة فسألوا وبكوا حين علموا أنه مات، مات بعد أن أودع حكاياته في ذاكرتهم.

المصدر : جعفر الديري: صحيفة الأيام البحرينية: الجمعة 07 يوليه 2023, 11:57 م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى