إبراهيم عواد خلف - العريشة*

مقدمة لنص مقدس لاحق:
أي قدر ذاك الذي ربط حبلك السري إلى خيمة لا تأوي نفسها؟
مستقبلك محشورٌ في أحشائها، طريقك لا يزيد عن حدود أطنابها، ثمة وترٌ في وسطها ليس لتجارب فيثاغورث، ولا لمؤازرة أعصابك الرخوة، بل لتعزف عليه مقام شقائك ربما.
ثمة متسعٌ للموت متجمداً " كما فعلت عائشة"، متسعٌ للتعليب في فضائك الضيق، وآخرٌ لاختبار عجزك في كل شيء، عاجزٌ أنت حتى عن اختلاس لحظة حميميّة ينقشع غبارها عن خيبةِ عنّين، أو بداية التكوين لجنين نازح! وإداك ستحار كيف تقطع حبله السري المخيط إلى رواق الخيمة ، مازالت الشمس تتلصّصُ من شقٍّ جديد على سقفك الواطئ ، وما زال المطرُ يغسل أوزارك من جميع الجهات ، وما زالت سلالُ المعونات تحملها الذئاب إلى جدة ليلى ، لتنقضَّ عليها بالصور والمناشير ، ومازلتَ قادراً على الشهيق ، الشهيق فقط دون الزفير !
سِفر الولوج :
هنا وعلى هامشٍ ما ، وفي غفلةٍ عن الزمن أفرغت السيارات و " التريلات " ما في بطنها من بشر، قذفتهم إلى معتقلٍ كبير على ضفاف السد ، هربوا جميعاً من حربٍ ابتدأت ولمّا تنتهِ ، في نهارٍ قائظ اقتربت فيه الشمس من رؤوس البشر، ينتظمون في طوابير طويلة أمام الطاولات ، نساءٌ وأطفالٌ وعجائز ، والكلُّ يحمل في ذاكرته الطازجة صور البيوت الطينية التي تتوسد سرير الفرات ، والبقر والدجاج و الخراف التي تركوها وراءهم ، أو بيعت بثمن بخس لأول مقامر !
قبيل الغروب انتصبت خيمة صغيرة من " شراشف " رثة ، يتوسطها وتدٌ خشبي معوج ، ثم راحت تتكاثر شيئاً فشيئاً كالحصبة ، مؤذنة بولادة مخيم للوافدين، أطلق عليه الرواد اسم القرية التي تجاوره : العريشة !
لكنها لم تكن عريشة عنب ، بل دالية حصرم مر ، سيتدلى على رؤوسهم، يدخل أفواههم ، ثم يترك مرارته على لهواتهم إلى الأبد.
ادخلوها بسلام آمنين كانت الخيمة تشبه القنطرة ، جدرانها الأربعة أروقة واطئة تكسو قضبانَ حديد مسودّة ، لا تعلو فوق الرأس بشيء، مصنوعة من قماش سميك تنحدر أرضاً لتنطوي صوب الخارج ، تثبتها حجارةُ كبيرة تصطف بعشوائية بينما يحيط بها نؤيٌ صغير على شكل ساقيةٌ لتدفع المياه عن دخول الخيمة ، يطلقون عليه ههنا اسم الوني ولطالما تناشدوا المثل الشعبي الذي يقول :
الـ ما يونّي يغرَكـَ ومن أحد الجدران الرواقية شُقّ بابٌ ضيق مستطيل بالكاد يتسع لشخصٍ واحد، وفوق القضبان الحديدية تتقوس أعصابٌ صدئة تنهض بسقفٍ من النايلون المشمع أزرق اللون تصلبه الحبال الغليظة باتجاهات شتى ، زرقته الغامضة لن تعوضكم يوماً عن قبّة السماء ، ولن تتخايل وأنت تلج الخيمة للمرة الأولى بقدمك اليمنى أنك ستفترش الأرض حتى تتحصّلون على الحرامات والحصران ، ثم تتبعك زوجتك الحامل وآمنة وابتسام ..، ولم تتوقع كذلك أنّ السقف الأزرق سيتفتق بعد أيام لتصفع الشمس رؤوسكم من خلاله في قيظ الصيف ، وتدلف السماء خلاله خارورها البارد في زمهرير الشتاء، ولكن هل سنشهد تعاقب الفصول في هذا المخيم ؟ تساءلت في نفسك ، وسرعان ما راحت الخيم تتوضع يميناً وشمالاً ، توشك أن تلتصق ببعضها، حتى يُخيّلُ إليك أنك تسمع أنفاس جيرانك أحيانا، ثم تنحسر الخيام عن طريق ترابية تتوسطها، لتؤدي فيما بعد إلى خزانات الماء الأسطوانية الحمراء ، ودورات المياه في الحمامات المشتركة للجميع ، وأخيراً ثمة أغطية صوفية رقيقة فضية اللون وزعت على عدد الرؤوس في كل خيمة ، ستفترشون بعضها ، وتتوسدون بعضها الآخر، ثم تسلمون أرواحكم إلى إغفاءة طويلة لا أحلام فيها ولا ذكريات ، وربما كانت محاولة للهرب من واقع مستجد صادم !
لن تشعروا بشعور النازح حتى تجربوه، حينما تتركون كلّ التفاصيل الجميلة و الأثيرة وراء ظهوركم ، ولا تحملون إلا أجسادكم المنهكة و أطفالكم، وتطلقون أقدامكم للريح والدروب بحثاً عن النجاة، ثم تسلمون أنفسكم للحواجز والتفتيش، من هالكٍ لمالكٍ ، ومن شاحنةٍ لأخرى لتجدوا أنفسكم في اليوم الآتي تقطنون ثآليل على بشرة الأرض، قرب بحيرة السد.
عيناك لا تغمضان ، الكلُّ نائمٌ ، وأنت عاجز عن التفكير، بصرك متسمّر في السقف الأزرق، توحّدتَ معه لبرهة، الحبال تشلخه في كل اتجاه ، والأفكار تتنازعك دونما سمت !
حتّامَ تبقى مكبوساً في هذا الصيوان الصغير، أنت وزوجتك وابنتاك ، ستنامون هنا وتأكلون هنا وتموتون ....!!
هل ضاقت الأرض عليكم لتحشروا في حظيرة ٍ ضيقة ؟
هنا ستتحطم قوانين كثافة السكان وقوانين الإحصاء ومواثيق حقوق الإنسان !
هنا ستعيشون لكي لا تموتوا فقط ، وسيندم إقليدس على نظريات الهندسة المستوية فلا انفراج ولا مساحاتٍ ولا أقطار ، أنتم في الزوايا الحادة والضيقة والمظلمة وستنعدم كذلك قوانين الفيزياء في حساب الحجم والكتلة ، وعلى سيرة القوانين :
هل تتناسب كتل أجسادكم مع الحجم الفراغي للخيمة ؟ السؤال للفيزيائيين.
أم هل تتناسب مع حصص الطعام من العدس والحمص ؟
أم هل ستعود " آمنة " إذ تخرج لتملأ الماء آمنةً إلى الخيمة ؟!
والسؤال هذه المرة لأرباب الحقوق.
نعم ، ستخرج مساءً بأعوامها الثلاثة عشر ، تقف على دور الخزان لتملأ سطل الماء، تتوحل قدماها في الطين ، أمام شعارات الأمم المتحدة ، يتحرش بها من يقف خلفها ، يضحك الحاضرون، تجفل كقطاة ، يتحرشُ بها آخر ، فتلقي بالسطل المعدني ، تترك حذاءها المطاطي في عهدة الوحل ، وتعود حافيةً بلا ماء !
- لن تخرجي بعد اليوم ، فالطريق ليست آمنة .
- والماء ..؟
- أنا سأملأ الماء
- والحمامات ؟
- قلت : لن تخرجي من الخيمة وكفى .
- أبي !
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
سِفر التثنية :
وجاء تشرين ، وما أحيلاه تشرين إلا إذا دهمك الشتاء مبكراً وأنت في المخيم ،وإلا إذا ماجت الأرض ، وفاض السد ، وطافت المياه ، وهاجمت أقنان القماش الواهية ، وتفجرت من تحت الفرش والأقدام ، وراحت الشقوق تدلق قِربَ الماءِ فوق الرؤوس ، وراحت الأصوات تتعالى وتولول في الخارج .
الجميع يتراكضون في المخاضة بكلّ اتجاه ، سقطت خيمتان ، سيختنق طفل تحت العازل المطاطي الهابط ، ولن تشعرَ ببرودة الطين، ولا ببرودة المياه وهي تجرف الأروقة وتفلت الحبال ، وتجرف معها الصحون والطوس والطناجر ، والريح الشديدة تساعدها في الاقتلاع والابتلاع ، هناك من يصيح بكم :
فكوا خيامكم واسحبوها إلى المرتفع ، ابتعدوا عن البحيرة ، كان المشهد يتراءى في الظلام كالمحشر !
أيَّ إثم اجترحناه لتقوم القيامة في العريشة ، ويفور التنور من قلب البحيرة ، فيطمي على الرجوم والحماد ؟ كنت تتساءل في نفسك وأنت تعكف على حل الحبال و انتزاع الأوتاد ، وترفع الحجارة الثقيلة لتحرر أطراف الرواق ، بينما اصطفت آمنة وابتسام بجوارك ، ورحتم جميعاً تجرون الخيمة المنقوعة بالماء والطين إلى الناحية الجنوبية ، كلُّ القاطنين راحوا يسحبون ما تبقى من خيامهم ، بينما كانت أم آمنة تلملم ما تبقى من أوانٍ تحملها على رأسها ، وفي يديها الأغطية ، وفي بطنها جنينٌ آثرَ على نفسه إلا أن يولد متشرداً !
لن تصلوا الضفة الأخرى حتى الفجر ، ومع نموم الصباح كانت الخيم الناجية من الغرق قد انتصبت مجدداً في مخيم بديل، وكان لزاماً عليك أن تختار أسرةً بلا خيمة لتتشارك معها القبر الجديد الرطب والموحل والمظلم ، زيدان ابن قريتك المعاق اخترته وأسرته الصغيرة لتكونوا وإياهم ضيوفاً على الموت في المسكن القديم الجديد، في تثنيةٍ لم تكن بالحسبان، وستجدون أنفسكم بعد ليلةٍ بألف ليلةٍ تتحلقون وأسرة زيدان حول مدفأة الكاز فوق عازل رطب، وبصمات الطين تركتها أحذيةٌ بكلِّ المقاسات على السقوف و الجدران و الملابس و البطانيات و الوجوه ربما !!
هي ليلة موثقة وممهورة بأختام الطين والبرد والشقاء..
سِفر أشقياء :
قبل أن أتوسد ذراعي لأغفو مجدداً ، بدأت مراسم الولادة المبكرة لمولودنا الثالث ، ذاك الذي أغراه اتساع الخباء ليولد نازحاً، ويبصر النور في صلصاله الأول ، لن يختلف الجوّ كثيراً عليه بعد الولادة ، فالضيق والظلام والدبق الذي كان يسبح به هو ذاته ههنا ، سيخرج اليوم للحياة الجديدة ، وسيدرك لاحقاً – إن استطاع النجاة – أنه استعجل المجيء ، ثم يسجل في قيود المخيم كذلك، ويطالب بحصته في الحليب والحفّاظات ، ويتعرّشُ مثل سابقيه بغصنٍ للحياة في عريشة المنفى !
خرجتُ وزيدان خارج الخيمة ، بينما تعالت صيحات أمّ آمنة ، وكأنها تستصرخ وليدها ألا يتسرّع بالخروج !
عبرةٌ كفيضان البحيرة تفجرت من عيني ، ورحتُ ألوب بين الخيام التي انتصبت حديثاً ، بينما تجمّع البعضُ يحفرون قبوراً صغيرة في طرف المخيم ، أوّلُ قبرٍ شق َّ كان للرضيعة عائشة التي تجمّدت ليلة الأمس ، ماتت برداً أو صبراً لا أعلم ، ولم يكن لها من اسمها نصيبٌ ، ثم فقعت قبورٌ صغيرة إلى جوارها كمزرعةٍ للفطر، ولم تكن ثمة مراسم للتشييع والدفن، فالكلُ متعبٌ وصامتٌ ، والبكاء ظلّ حبيسَ الصدور!
أي قدر ذاك الذي جمعني وأسرتي بكلّ هؤلاء الشقاة ؟!
نازحون أبرياء هاربون من الموت والنار، مهرِّبون وقوادون ومتشددون ومدمنون، وعناصر منظماتٍ تبلبلت ألسنتهم ، جاؤوا من كلِّ بقاع الأرض، لا يجيدون إلا التقاط الصور والاستجداء على ظهورنا !
بلا زغاريد ، وبلا سكاكر وُلد نازح بصمت ، كما ماتت عائشة بصمت ، هكذا أسميتهُ ، ودافعتُ عن اسمه على مضض ، مهاده غطاء رأس آمنة، وفراشه حِرام فوق حصير ٍ بال.
سِفر الخروج :
وحين خرجت آمنة مساءً حاسرة الرأس، قابلت من تحرّش بها في الحمامات ، عادت تركض ، يسبقها لهاثها ، وظلت تبكي طيلة يومين دون أن تخبركم بالسبب ، ثم يزورك خاطبٌ سبعيني العمر ، يكبرها بخمسة عقود ، يخطب آمنة، والمغريات كثيرة :
- أمتلك المال ، سنستلم معاً خيمة خاصة بنا، سأتنازل لكم عن معونتها، سأحميها وأدافع عنها، ولا علاقة لها بزوجتيَّ الأخريين..
- أنت متزوج من اثنتين إذاً ؟
- نعم ، امرأة لا تأكل امرأة ، ولم يعد ثمة شباب في المخيم ، والشرع ...
- أشاورها إذاً .
والغريب أن آمنة لم تمانع زواجها ، أعني انتحارها من الرجل، والأكثر غرابة أنني لم أتفاجأ البتة ، بل وفرحت أمها بالخبر ، ولأنّ خير البر عاجله استعجلت الرحيل إلى سجن الزوجية ، وعلى مرأى ومسمع كل المشرفين على حقوق الطفولة ، آمنة التي كانت في الأمس تكسو صليباً من الأعواد ثيابَ أنثى ، وتزفها عروساً لقطعة حجر ، زُفت اليوم زوجةً ثالثة لرجل ٍ عجوز .
بمهر عائشة اشترينا غرفةً من الصفيح ، وتركنا الخيمة لعائلة زيدان ، اشترينا فرشاً وأوان ٍ جديدة ورأسين من الغنم..، هي مقايضة ليست عادلة بالتأكيد ، ولكن هنا يبدو ميزان العدالة بكفةٍ واحدة ، إذ انقطعت سلسلة الكفة الأخرى ، والتفت على الأكفّ والأرجل والأفواه ، كل الأيادي مغلولة إلى الأعناق ، عدا يدين زرقاوين في شعار المنظمة التحمتا من السبّابتين على شكل خيمة ، أو غطاءٍ واهٍ لا يكاد يستر رضيعاً ، وتحيط بهما سنبلتان من زقوم !
لم تكن أم آمنة سعيدة كما هي اليوم ، وصارت تطرب لصوت المطر وهو يطرق السقف المعدني، كما تطرب لثغاء النعاج قرب الجدار ، ولن تتذمر إذا ما تحمصّت جلودنا بالفرن الساخن في نهار قائظ ، المهم نحن مستورون ..، وكفى !
سِفر الأسفار :
لو لم تقع الحرب في البلاد ، ولو لم تتكالب الأمم فوق أرضكم ، ولو لم تتكاثر الأعلام والرايات ، وتأكل الفصائل بعضها ، ولو لم تُبنَ قراكم على بحر ٍ من النفط والغاز ، فيغزوكم اللصوص وتجار الآثار ، ولو لم يحج إليكم الباحثون عن معراج ٍ إلى الجنة ، ومن يريدون خلافة الله في أرضكم ، ولو لم تصطبغ دوركم وملابسكم وذقونكم بالأسود ، لتهاجمكم طائرات الغرب بحجارة ٍ من سجيل ، فتحرق البشر والحجر، ولو لم تفروا شمالاً بأرواحكم وأطفالكم ، ولو لم يجمعكم هذا المعتقل الكبير في قيامةٍ مبكرة ، ولو لم تهاجمكم مياه السدّ على حين غفلة ، ويولد " نازحٌ " مواطناً على قيود المنظمات ، وغريباً في وطنه !!
لو..، لولا ، المهم لا تنتظر جواب الشرط ، فلا أجوبة ستهجع الطفل اللجوج بداخلك، فمهماز روحك لا يركن أو يستكين ، ومكبرات الصوت في المخيم لن تحمل بشرى الخلاص كما تمنيت ، كان صداها ينداح داخل غرفة الصفيح ، فترتجّ التوتياء في الأعلى ، حتى طفلك الرضيع سكت صراخه وأصغى السمع ، هي حاسة الأمل بالخلاص ، حاسّة ثامنة اكتشفها الصغير في يومه الثامن ، ولولا أنّ شبّ حريقٌ في الخيمة المجاورة لغرفتكم ، لما خرجت زوجتك النفساء من مخدعها، وحملت الرضيع قبل أن يتحمص ، ولما استطعت أن تسمع بوضوح ٍ صوت المكبر وهو يؤذن أنَّ : الطريق بات مفتوحاً للوراء ، فمن شاء العودة إلى قريته المدمرة فليعد ، ومن شاء البقاء في المخيم فليستمر ، وسيتم نقل الأجانب إلى مخيم الهول.
ياللهول ، أنت الآن مخيّر بين نارين ، العودة إلى أرض محروقة ، أو البقاء محترقاً في صفيحك الساخن ، ولأول مرة منذ اندلاع الحرب ستشعر أنك مخير في قرارك ، وفي تحديد مصيرك .
آمنة ستزفّ إلى أطلال القرية ، عروساً للخرائب ، وأنت ستقفُ على الأعراف طويلاً ، لتختارَ أي الجحيمين سيكون مستقراً لكم .

إبراهيم عواد خلف / سوريا



* القصة القصيرة الفائزة بالمركز الأول في جائزة الدكتور ناجي التكريتي الدولية للإبداع القصصي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى