أنس الرشيد - إخلاصٌ يَرقص

فِي مَقهَىً صَغيْرٍ، لَم يتَّسِع لِخَطواتِها...؛ نادتِ النادلَ مِن خَلفِ الزجَاجِ...! لم يَنتَبِه لهَا...؛ فأشَارَت بالمَدى، كأنَّها تَدعونِي..؛ أو.. هَكَذا تَمنَّى مَداي. خرجتُ إليها...؛ قلتُ: هل طلبتِينِي؟ نظرَت إلَيَّ بأعينٍ حِداد؛ كأنَّها مَلَكُ المَوتِ، مُتَعجّبًا من بَقائِي حَيًّا.
دَخَلَتِ الْمَقهى، وأخذت تَذرَعه كأنَّها ستشتري العقار...، حَتَّى وصَلَت لِطَاولتي، فَرفَعَت الكتابيْن، اللذَيْنِ أحمِلهما: الأول: [كتابي الأول [الكتاب الذي أتمرد عليه كأبٍ متضايقٍ من عفن ابنه، ويتمرد هو عليَّ كابنٍ ضال، لكني مع كل ذلك فأنا كائن متناقض؛ أحمِلُه معي فِي كُلِّ مكانٍ؛ كأنَّه طِفلٌ يَتَعوَّد الحياةَ مع أُمِّه. أو كأنَّه بصيرٌ يَقوده أعمى كلّ نهارٍ نَحوَ اللاشيء، كما قالَ ابنُ بُردٍ:
أعمى يقود بصيرًا لا أبا لكم/ قد ضَلَّ من كانت العميان تهديه.
والثاني: كتاب (الحِصَار. ثلاثُ مسرحياتٍ فلسطينية). حملتُه معي؛ لأنَّي رأيتُ حُلمًا يُحاصِرني، حَتَّى نَفَدَ زادي، فاستسلمتُ له:

[رأيتُ كأنَّي في رَوضَةٍ تُشبِه (التنهات)، في يومٍ نادمتْنِي فيه الشمسُ، فنَسيَتْ أن تَغيْبَ في أوانِها...، وظَنَنْتُ أنَّهَا تُحَاصِرني، كَيْلا أتَعرَّى بِقُدومِ اللَّيلِ، لكنَّي تَعرّيتُ تحتَ ضَوئِها فِي الروضَةِ -كما ولدتني أمي-، فغابت. وظللتُ عاريًا، حتى خَرجَت امرأةٌ شَعثاءَ الشَعَرِ القرمزي، طويلةَ مَهوَى القِرط، كَفَلقةِ القَمر، نحيلة الخِصر، تَجُرُّ عَربةً فيها بَقايا من جِذعِ شَجَرةٍ، مُغَطَّى بِوَبرِ جَمَلٍ...؛ فَشَقَّت لي مِنه صُوفًا أتَغطَّى به، وأخذت مَلابِسِي. وقالت: (انتظرنِي)؛ سأعيدها إذا خَرجَ النهار].

تَكَرّرَ الحلمُ ثلاثَ مراتٍ، وفِي كُلِّ مَرةٍ يَقِفُ عِندَ هَذا الحَدّ، ويَتّصِلُ بحلمٍ آخر؛ [وهو أنَّ جاريَ الّذي يُشَاركُني (الكهرباء) يَطرقُ بابَ بيتي باضطِرابٍ...، صارخًا: "لابدَّ أن نَكشِفَ عَن الكهرباءِ قَبلَ أن تَقعَ الكارثة". فأقولُ بِهدوءٍ غَيرِ معهودٍ: يا جاري، إذا تَعطَّلت (الكهرباء) فأينَ يَقضي وقتَه (النور)؟]

حين رأيتُ فَتاةَ المَقهَى، شُبِهَ لي أنَّها صاحبةُ الشَعرِ القرمزي الأشعثِ في الحلمِ، جاءت لتردَّ لي ملابسي، بعد أن صيَّرَتها كَفَنًا، أو جاءَت لتقولَ شيئًا عن ميعادي معها...؛ فَكادَ القلبُ يَخرج مِن بَيْنِ أقفاصِه:
(كيف للحلم أن يَتصوَّر بمشهدٍ مهيب؟)

قلتُ: "هو حلم داخل حلم"، لكنِّي تيقّنتُ من فيزياء الواقِع، ومنطقِيَّته، فزال الشكّ. ثم قلتُ: "لا، ليست هي، بل امرأةٌ مُضطَربَة أرادت أن تَستَفزّني فَحسب". ثم استعدّتُّ التَشابُهَ بين الحلمِ وما تَفعَله هذه الفتاةُ العجيبة:
(فَمَا مَعنَى نَظراتِها التي سَلقتنِي بها؟ وما مَعنى أن تُوقِفَ ذَرعَ المَقهَى؛ لتَتأكَّدَ مِما كُنتُ أقرؤه؟ وما معنى أن تقول لي -بعد أن وضَعت الكِتابَيْن ولمِست فَنيْلَتي من وسَطِ القَفصِ الصدري-: "صُوفُ فنيْلتك من وبَرِ جَمَلٍ نادر؟ وما معنى تَحديدًا لمسها القفصَ الصدري؟! ألأنه يحمي القلبَ من أن تَنْتَزِعهُ؟ وما معنى أن تسألني عن رأيِي في إضاءةِ المَقهى؛ وتقول لي بابتسامةٍ حاقدة: "لن تَختَفِي الكهرباء، ما دامت أسلاكُها مِن انتظارِك"؟)
.
ما أنا مُتَأكّدٌ مِنه، أنها أعطتنِي ظهرَها، واتَّجَهَت للبابِ مُغادرة...؛ ناديتُها فلم أرَ.. إلا زوالها.
عُدتُ إلى الطَاولةِ، فَلَم أَجِد الكِتَابَيْنِ، ووجدتُّ دفترًا أزرقَ اللونِ...، على أطرافِه بَقايَا خَمرة؛ كُتِبَ في أوّلِ صفحاتِه:
[قال الإخلاصُ:
لو رأيتَ العِشقَ مُنْذُ البِدايةِ، لَمْ يَبْقَ لَك ْ عَمَلٌ يَومَ القيامة]
عاهدتُ نفسي -التي أغدر بها دائما- أن أقرأ كل يوم سبع وصايا حِكْميّة في المقهى ذاته، ثم أختم الجلسة بكتابة شذرة تكمل الدفتر؛ زعما مني أنها (رُقيَة) ستجلب الفتاة مرةً أخرى.
حاولتُ أن أجعلَ الشَذرات تُشبِه بِسَاط رَوضةِ التنهات حين تلتقي في الشَفقِ مع رِمَالِ الْدّهَنَاء الحَمراء. هذا اللقاء الذي يُشبِه شَعرَ الفتاة. كأنَّها أعطتنِي قَبسَ الشَذرة، ومطلعَ الوصيَّة؛ لأكمِلَ سبيلَها طَوعًا، أو كَرها. أو كأنَّ اللهَ أمرهَا بتأجيلِ قَبضِ روحي، حتى أُكمِلَ مقاصِدَها. عَطيّةً جَعَلتنِي أتعَرّقُ اضطِرابًا، وأستَحضِر كيفَ نَفَّذَت هَذِه الفتاةُ مُهمّتَها وغادرت...؛ كيفَ مَثَّلَت الإخلاصَ لِمَن أرسلَها...؛ وكأنَّ الإخلاصَ خُلِق مِنها، ثُمَّ زُرِعَ فِي الناس. وكأنها لمَّا وَضَعَت يَدَها عَلَى صَدرِي، كانت تَنْزِع قَلبِي؛ لِتَغسِلَه بِطَسْتٍ، يُشبِه سورةَ الإخلاص.

ظَلَّ الرعبُ مِن طَيفِها يَملكُنِي حَتَّى تخلّصتُ مِنه بالشذرات الشعرية. وقد أسميتها شذرات (الهُنَا هُناك).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى