ناجي ظاهر - الرجلان...

.. فعلًا هما الرجلان مع أل التعريف، وليس.. رجلين نكرتين.. بدونها. فقد ملآ مكانهما في كل مكان حلّا فيه، وبدوا كأنهما نجمان نزلا من سمائهما المنيرة العالية ليتخذا من مقعدين مميزين مجلسًا لهما. وكنّا نأتي اليهما نحن الاصدقاء في الثمانينيات، فيرحبان بنا، ويفيض كلٌّ منهما بما لديه من محبة للوطن، الاهل وكل ما هو انساني ونبيل. كل شيء كان يثيرهما ويدفعهما حينًا إلى التحدث وآخر إلى الصمت. كانا مسكونين بأحلام يراها بعضنا بعيدة وعصيّة على التحقق، وبعضنا يرى عكسها، اما هما فقد ارادا ان يكونا لنا قدوة ومثالا في محبة الارض والوطن. فكان لهما ما ارادا.
احمد حبيب الله- ابو هشام ومحمد ابو حسين- ابو علي، الأول كان يسرى في اصباح الثمانينيات إلى مطعم الصداقة، كلٌ يأتي من بلدته، أبو هشام من عين ماهل المتربّعة على رؤوس شغاف جبل سيخ وذراه القِممية وابو علي من رمّانة المسترخية في سهل البطوف حاضنة بطيخها وقثاءها، فيستقبلهما صاحب المطعم ومديره الرجل المثال الرائع مصطفى اسعيد وبيده فنجان قهوة عربي اصيل، يقدّمه لكل منهما بكل ما فاضت به نفسه من كرم وبكل ما جادت عليه عروبته من طيبة. أما عندما كان كل منهما يتخذ مجلسه المطل على الشارع القريب من عين العذراء، فقد كانا، خاصة ابو علي، يبحثان عن صحيفة "الميثاق" الفلسطينية الوطنية، وكان أول ما يفعلانه هو ان ينظرا كلٌ بطريقته إلى الصفحة الاخيرة من الصحيفة ليمتّعا اعينهما بالتمعن في رسمة ناجي العلي الجديدة، وليشحنا نفسيهما بأمل لا يخبو له اوار، ويريد ان يستمر بقوة الدفع رغم كل المنغصات.. النكبات والهزائم.
تعرفت على الرجل الأول ابي هشام قبل سنوات من تلك الفترة، في حانوته لبيع الملابس في مركز قريته عين ماهل، كان يفيض وطنية وناصريةً وكان يميزه ذلك الحماس الذي يتصف به الانسان في شبابه ورغم انه كان يكبرني بسنوات، ويلاوح عمره الخامسة والخمسين، على ما اتذكر، فقد كان يتدفق املًا واكاد اقول تسرعًا، وعندما سألته ذات لقاء لي به عن سبب تسرعه هذا، غرس عينيه في عيني وقال: إن الوقت يمرّ بسرعة هائلة.. لا وقت لدي للتروي، لقد تأنينا كثيرًا فماذا افادنا تأنينا؟
في فترة تالية، أسس الاخوة من "ابناء البلد" صحيفة "الراية"، وانتدبوني كصديق صدوق لهم، للعمل فيها. يومها تدفّق هؤلاء الاخوان رجا اغبارية، عوض عبد الفتاح، سليمان ابو ارشيد، عمر سعيد المحاميان واكيم واكيم واخوه سليم واكيم.. اضافة إلى آخرين برز من بينهم العديدون، وهنا يصعب علي ان اتذكر الاسماء لكثرتها ولبعد الشقة عن تلك الفترة، فاعتذر لمن لم اذكر اسمه، وكان من بين هؤلاء الرجلان الفاضلان محبوبا المطعم الشعبي، أبو هشام وأبو علي، وقد بقينا في صحيفة "الراية" إلى أن اغلقتها السلطات الاسرائيلية بسبب ما حفلت به من كتابات واراء سياسية تحررية، الامر الذي دفعهم للسعي إلى اصدار صحيفة "الميدان"، معتمدين على ترخيص لها كان الاخ الصحفي محمود ابو رجب قد حصل عليه.
كانت مكاتب هذه الصحيفة تقوم في عمارة حسني الفاهوم، وكانت تعج بالزوّار اليوميين، في مقدمة هؤلاء رجلانا المحبان المحبوبان، أبو هشام وأبو علي، وعندما خطرت للإخوة في حركة ابناء البلد فكرة تأسيس جمعية تعنى بشؤون الاسرى السياسيين واهاليهم (جمعية اصدقاء المعتقل والسجين)، وقع الاختيار على أبي هشام ليكون مديرها وموجّه دفتها. عَملُ أبي هشام في هذه الجمعية تواصل حتى ايامه الاخيرة في الحياة، وكان من نتائج عمله هذا، وقد رافقته متطوعًا، ان اطلق المحيطون بنا، بمن فيهم الاسرى واهاليهم لقب: أبي الاسرى.
الآن وانا اعود إلى الماضي، يغمرني الحنين إلى أبي هشام، فأراه كيف يحوّل بيته في عين ماهل ألى مضافة مشرعة الابواب يستقبل فيها الوفود الوطنية الزائرة من شتى انحاء البلاد ومن الهضبة السورية المحتلة، مرحبًا فائضًا شهامة عروبة وكرما. وعندما تنتهي الزيارة يشيعهم بنظرات حافلة بالحلم والامل إلى ان يعتلوا سياراتهم لتحملهم وتعود بهم من حيث وفدوا. وليستعد ابو هشام بعدها للانطلاق إلى الناصرة، وكثيرًا ما كنت اتصوّره، كما كتبت عنه، يقف في احد المرتفعات النصراوية، ليطلّ على المدينة شاعرًا انه يمتلكها بعينيه وروحه، رغم انه لا يمتلك فيها اصبعا من الارض.
بقي أبو هشام، يرافقه قريبه وبلدياته ابو سامي حينا وانا كاتب هذه السطور حينًا آخر، يجمع التبرعات من شتى المناطق الاماكن والناس الذين احبوه ورحبوا به ليوزعها على الاسرى وعائلاتهم، إلى ان جاءت المفاجأة القتّالة. لقد مات ابو هشام اثر حادث سيارة وقع له في شارع" الموفيل"، قرب بلدة كفر مندا. وكان لا بد ان نتوجّه جميعنا إلى بيته لمواساة اهله وابناء واسرته، ولنكتشف بعدها اننا انما توجهنا الى هناك لنواسي انفسنا المكلومة.
***
اما أبو علي فلا اتذكر كيف تمّ تعرفنا عليه، فما ان التقينا به برفقة رفيق خندقه ابي هشام حتى راقت لنا افكاره فسعدنا بمنطقه، وانتابنا شعورٌ باننا نعرفه منذ ازمان سحيقة بعيدة موغلة في البعد. وكان يلفت انظارنا بكوفيته المسترخية على رأسه الاشيب وكتفيه، وبلهجته البطوفية، نسبة إلى سهل البطوف، لا سيما عندما لا يعجبه حماس صديق عمره أبي هشام، فينتهره قائلًا: اسكت يا ختيار. ويردف متوجهًا إلى بقية الحاضرين خاصة الصديق العزيز، منصور طاطور مرافقنا ومجالسنا الدائم، قائلًا: ماذا رسم ناجي العلي اليوم. فما كان من منصور إلا أن يشرع امامه الصحيفة ليتجمع الحاضرون وليستمعوا إلى أبي علي، وهو يعلّق على هذه الرسمة او تلك، واذكر انه كان معجبًا شديد الاعجاب برسمة تقول فيها فاطمة لزوجها وهي تنظر الى القمر قائلة ان قمر عين الحلوة هو الاجمل في العالم، فيرد عليها زوجها المهجر قائلًا ان قمر فلسطين احلى. وما زلت اتذكر وهل انسى؟.. يوم ارسل نظرة متمعّنة إلى مقاتل فلسطيني ممن اضطروا لمغادرة بيروت بعد حرب 82 وقد القى بنفسه من السفينة ليعوم عائدًا إلى بيروت وعلى لسانه كلمة: اشتقنالك يا بيروت. يومها رفع صوته هاتفًا بالجميع. هذا هو الفلسطيني لا يتنازل عن حقه ويصرّ على انتزاعه.. في اللحظة والآن. وتابع يقول: يحيا البطن اللي جابك يا ناجي. قاصدًا ناجي العلي.
حرص أبو علي طوال لقاءتنا تلك وايامها الطيبة العذبة، على ان يتابع وسائل الاعلام الوطنية خاصة، عبر الصحافة المكتوبة والمسموعة وقد زرته في بيته الُرمّاني- نسبة الى قريته رمانة- اكثر من مرة، برفقة ابناء اسرتي الصغيرة، وكنت ما أن ادخل عليه في غرفته الكبيرة الفارهة، حتى يهرع الى استقبالنا مخلفًا فرشته المنتظرة المسترخية وراءه ومرحبًا بنا، وكان لا يلبث ان يكر عائدًا إلى قعدته العربية، ليتخذ كل منّا نحن زواره مقعده العربي الاصيل، وليلفت نظرنا الى ما تبثه اذاعة القدس الوطنية التي كانت حينها في ذروة عطائها، لافتًا اهتمامنا إلى ما لفت اهتمامه من اغانٍ وطنية ومن شعارات رفعتها تلك الاذاعة في مقدمتها شعار: "بناء الانسان اولًا".
كان أبو علي رغم مشاعره الوطنية الجياشة، وربما بسببها يفضل الصمت على الكلام، وقد ردّد امامي وامام آخرين اكثر من مرة يقول إن العمل اهم من الكلام، واننا شبعنا كلامًا، وحان لنا ان نؤمن بان العمل اولًا وقبل كل شيء. من اعمال أبي علي التي لمستها حينًا لمس العين وآخر استمعت إليها من آخرين انه كان كريمًا معطاء يجوب البلاد طولًا وعرضًا ليعطي محتاجين الكثير من القليل الذي امتلكه، وكأنما هو يريد ان يقدّم للآخرين درسًا في الوطنية والعطاء، وقد دفعني لان اتذكر قصيدة للشاعر اليهودي اليهودي يهودا عميخاي قمت بترجمتها الى العربية آنذاك، لا سيما عندما يقول فيها: ما قيمة الوطن اذا تركتك حبيبتك وحيدًا ولم يقف الى جانبك احد. ما قيمة الوطن اذا سقطت ولم تجد من يأخذ بيدك ويقيلك من عثرتك.
لقد مضى ذلك الرجل قبل سنوات في طريقه الابدي تاركًا امانة وحلمًا كبيرين لدى كل من عرفه والتقى به في هذا المكان او سواه من امكنة بلادنا الحبيبة.. مضى بالضبط مثلما مضى صديقه ورفيق دربه النضالي ابو هشام، مضى الاثنان مخلّفين وراءهما ذكريات ودرسًا لا ينسى في الوطنية، الحب والتضحية، فليخلّد ذكراهما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى