خالد جهاد - ليل على كتف عصفور

إلى هند..

ماتت عصفورتي البارحة.. فارتدت دموعي إلى الداخل، شعرت بطعمها في حنجرتي ومددت يدي أتحسسها.. ريشةً بعد ريشة وذكرىً تلو الأخرى.. انفجرت في صدري غزةٌ جديدة ولم أعرف كيف أحزن.. سلبنا البشر كل ما نملك.. أخذوا منا مشاعرنا وتركوا لنا بعض الكلمات الجوفاء.. بعض الخطابات والقصائد والأغنيات التي لا طعم لها أمام موتٍ متكرر، تذكرت أننا لا زلنا نملك صمتنا وبعضاً من ذاكرتنا وأحلامنا المبتورة كساق شهيد..

نمت إلى جوارها وأخبرتها بأن الصغار يحلمون بأن يصبحوا عصافيراً.. حكيت لها الكثير عن أطفال غزة ولم أنتظر منها جوابًا.. مرت الساعات ثقيلةً كنشرات الأخبار التي لا نهاية لها.. صدى السنوات يتردد في أذني.. يقف الشريط عند مشاهد لا يراها أحدٌ سواي.. كم عصفوراً رحل آخذاً معه شرفتي وغدي ولياليّ التي لن تعود؟ بات حلمي هو ملجأي الوحيد من الإنسان.. منفاي الإختياري من أكاذيبه التي يغلفها بأكاذيب أخرى لتبدو أكثر أناقةً.. حيث لم يعد لدي من حبٍ أعيشه معه أو حكايةٍ أصدقها فأنصت إليها.. عدت معه إلى المربع الأول وكأنني سأمحو كل ما عرفته خوفاً من كذبةٍ تقض مضجعي.. فما نفعها الأزهار على قبرٍ من تمنى نظرةً يشعر معها بالسكينة.. وما جدوى التغزل بجثةٍ قضت حياتها دون حياة..

وحده القطار.. الغروب.. ووحشة ليلٍ تلقيه على كتف عصفور يحضنك بعينيه قد ينقذك من ذاتك وذكرياتك وأسئلتك وخيباتك.. من طفولةٍ بعيدة وحبٍ خرج ولم يعد.. من وطنٍ لم نعش فيه وصديقٍ لم يفي بوعده يوماً.. من خيانةٍ بلا جسد وغربةٍ بلا حقائب.. من كوكبٍ لا زال (يخترع) الأساطير ويبيعها لزبائنه من المثقفين.. كتمثالٍ قرر ذات ليلةٍ أن يترك مكانه في وسط المدينة ليركض خلف ملذاته تحت جنح الظلام..

دفنتكِ يا عصفورتي في قلبي قبل تربتي.. كتبت على (الشاهد) هنا قبر حبيبتي.. هنا ضحكة ودمعة.. هنا لغةٌ شاسعة الأبجدية تخطو فوق الرموز وفوق الحروف.. هنا سرٌ من أسرار الروح.. هنا براءة تكتسي بلون الثلج.. وسلام في عالمٍ يقيم أعراساً للدم.. أخذتي معكِ ما تبقى من ضوءٍ ونثرته بين النجوم.. كتبتي بريشتك.. هنا يضحك الأطفال كغيمةٍ بيضاء.. يحلمون بأجنحةٍ لا يهزمها خوف.. ويعزفون بحنانٍ لفجرٍ لم يبزغ وعاطفةٍ ذبلت في صدر صاحبها قبل أن يتلاشى معها أثره..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى