نهى الطرانيسي - قرص الذهب الساخن...

حذاء أسودُ برباط أنيق، يطرق الأرض بثبات وانتظام، قميص أبيضُ يليق باللقاء، لون واضح رسمي يدعو للوقار، يكاد قلبي يثِبُ من مكانه.. لحظة حلمت بها ونَسجتُ لها سيناريوهات مختلفة، لكنني أرجو لها نهاية سعيدة.
أقلِّبُ القهوة المختلطة بالحليب، ذاك اللون البني الطيني ودورانه حول محوره، ذكّرني بأرضي الحارة حين كان يجيء موسم الجفاف، فتنحسر المياه على عجل، مُخَلِّفةً - على استحياء- ماءً أقرب إلى الطين.
ما أسرع الماء في الهروب والانحسار! لا يترك فرصة حتى للأغنام لتلحق الرمق الأخير منه، لم يبق لنا ماء أو حليب. أجساد ملقاة صرعتها حرارة الشمس تحت وطأة شحّ المياه داخل تلك الأجساد، لا تدري - إلا إذا اقتربت منها - أكانت من البشر أم من الأغنام التي لم يقوَ جسدها على المضي قدمًا لأقرب حافة للماء المتبقي.
تظل أشعة الشمس مُصْلَتة كالسيوف على رؤوس مَن بقي من الأحياء الذين ألقتهم حرارة الشمس على جنوبهم، يطوف حول أجسادهم الذباب الذي تعدد لونه، ممددين فوق الأرض المتشققة التي تتشوق مثل تلك الأجساد للماء؛ لتعيد وصل أجزائها المتنافرة.
نعدو بالدِّلاء بعيدًا للبحث عن بئر، وإن عثرنا على بئر مهدمة، فلن نبصر ماءها من رؤوس الخلائق المتصارعة من الأمهات والأطفال، وصياحهم لقنص بعضه داخل دلائهم، وانتهاز تلك الفرصة لإلقاء بعضه على أجسادهم من أعلاها، أو على رؤوس الصغار عسى أن يرتوي ذلك الجسد الصغير ويهدأ، ليستعيد بعض قوّته ويصارع من أجل البقاء. ينجح بعضنا فيعود حاملًا دلو ماء غير واضح ما إذا كان ماءً أم سائلًا آخر كدِرًا مجهولًا! لم تكن فقط حرارة الشمس من سلطت سلاحها علينا، بل كانت تلك القوي المتنافرة في البلاد أشد وطأة علينا!
خطى متجاورة أو متوالية بين العجائز والأطفال الباكين السائرين أو المحمولين على أكتاف الأمهات، ورجال منكسو الرؤوس لا يعلمون إلامَ تقودهم الخطوة القادمة؟!
كنا نتعثر بمراكز المساعدات الدولية التي تناثرت هنا وهناك، ليطلّ علينا ذوو الوجوه البيضاء بملابسهم الموحدة.. كنت أطيل النظر إلى أحذيتهم الرياضية التي لم تتأثر بالغبار والطين، كم تمنيت أن يكون لي حذاء يحمي قدميّ حتى تخلد الشمس إلى مخدعها في المساء.
كانوا يقبلون علينا بقبعاتهم التي تحدّ من وطأة حرارة الشمس عليهم، لكنّها أبت إلا أن تترك أولى بصماتها على وجوههم، كانوا يساعدوننا بما لديهم من وجبات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، كانوا يسعفون بعضنا فوق حاملات خشبية يحملها المتطوعون، يدركون من وصل جريحًا، أو من أصابه مرض الكوليرا أثناء النزوح، يستقرون داخل خيمة طبية، وبعض منّا ما زالت تدب في عروقهم بعض العافية، ينتظرون موعد الوجبة التالية، يُمنُّون أنفسهم وصغارهم بالشبع القادم.
أحيانًا في المناطق المجاورة كان يأتيهم مطر من نوع آخر؛ طائرة تسقط ما بداخلها من أكياس الغذاء والطعام المعلب، وعلى من بقيت له قدرة بعد الجفاف، أن يقتنص منهم شيئًا ليعود به للصغار.
الصغار يملكون طاقة للسعادة والزهو والضحك بشكل مفرط، كانت رؤية فراشة تحفزنا للعَدْو خلفها، أو وجود عصا ملقاة نراها حصانًا أو عربة نزهو بقيادتها، كنا نضحك، وها أنا الآن أرسل ابتسامتي من وراء البحار لتلك الأيام وتلك الأرض، أبتسم وأعجب من تلك الطاقة؛ فبالرغم من وجود أصدقاء لنا داخل المخيمات يصارعون الكوليرا، وأصدقاء جحظت أعينهم ونفرَت عظامهم، تحملهم الأمهات في أسى وصمت، وقد تبخرت كل حيلة لديهن، تحاول كلّ أم دفع ملعقة من الدواء داخل جوف طفلها، فلا يجد سبيلًا للانزلاق، كأن سوء التغذية الطويل قد أطبق بعض أعضائه على بعض، ومهما سعى الدواء في جسده فلن يخفي الدمعة الأخيرة على وجنتيه، حتى الأمهات أنفسهن هاجم الوباء جزءًا تلو الآخر من أجسادهن النحيلة، ينقبض قلبي حزنًا، ولا أدري ماذا أفعل، فأهرب خارجًا إلى صخب الرفاق الآخرين.
على حرارة الشمس أذكر أني صباحًا حين الشروق كنت أصيح للشمس: "مرحبا يا قرص الذهب الساخن"، سألتني أمي بوَجَل: "ماذا تعرف عن الذهب؟" ضحكت مخبرًا إياها أنّي رأيته أثناء حفر أعمامي هناك في الجبل، فالشمس كالذهب لكنّه حار للغاية يا أمي!
طرقات عصفور على الزجاج تحملني إلى اللحظة الحاضرة بعيدًا عن الذكريات والشرود، ما أراد ذاك العصفور إلا بعض الحنان أو بعض الدفء الذي افتقده في صفحة السماء الضبابية التي اكتفت لنفسها بحرارة الشمس وضوئها، وضَنّت بها على الأرض، التحف الشتاء بعباءته الرمادية، ودثّر الأشجار بجبال الثلج، فلا تكاد ترى أقدام السائرين صباحا من النساء والشباب والأطفال، كلّ يمضي إلى طريقه متعثرًا بكتل الثلج التي تغطي السيارات والقطط وتزاحم عتبات البيوت...
مبنى هندسي شامخ، جدرانه زجاجيّة، ليست الجدران الزجاجيّة هنا لغرض جمالي فحسب، بل عسى أن ترتشف تلك النوافذ أيّ شعاع متسلل من السماء، فتشرق الأماكن، وتبعث فيها ألوان الحياة بعيدًا عن الألوان الرماديّة الغامضة.
أصوات في الممر، تقترب رويدًا رويدًا، أستطيع تمييز الحديث، ومعرفة المتحاورين من قبل رؤيتهم، إنّهم أفراد الفريق الذي أنتظر الاجتماع معهم في الموعد المحدد بعد قليل.
بدأ الاجتماع وطال الشرح والأخذ والرد، لم أشعر بالتعب أو الرهق الذي تملك لساني لكثرة الرد، وهل يشعر بالتعب من يقترب من تحقيق حلمه؟! تناسيت كلّ شيء وكأنّي عدت في تلك اللحظة طفلًا ثانية، تناسيت، لكن الذكريات تأبى النسيان... رحلة شاقة ودروب شتى قدرها لي القدر تقديرًا، هل أنسى تلك السفن التي ألقت بنا في أرصفة الشواطئ الباردة؟! أم أنسى تلك الحافلات التي تدفع بنا من بلد لا يعترف بنا إلى بلد آخر يُنكر وجودنا؟! أم أنسى تلك القدم وطئِت كل شبر في تلك البلاد الغريبة عن وجهي ولوني ولساني؟! حتى استقر بنا المقام هنا حيث وافقت ألمانيا بقبولنا ضمن اللاجئين الذين فروا من تلك الحروب الطاحنة التي تدور في الصحراء.
كانت (برلين) بلدة (بِرّ) و(لِيْن) حقًّا، كما يطلق عليها بعضنا... لقد احتوت ذلك الأسمر النحيل الذي دفعت به الأقدار نحوها، فصارت له أمًّا! واعترفت بما درسه في مدارس الصحراء، فألحقته بجامعة برلين الحرّة، تخصص (هندسة المواد) ... في زاوية دافئة تشرق فيها الشمس بين الحين والحين كان يجلس هذا الفتى الأسمر النحيل يراود فكرته التي زارته ذات صباح في تلك الزاوية الدافئة عندما تسلل إليه شعاع الشمس، فأمسك بتلك الفكرة التي ألقى بها ذلك الشعاع وفرّ هاربًا! وكم ودّ لو أمسك بذلك الشعاع الدافئ أيضًا!
ذكريات عبرت في ثوانٍ معدودة.. أفقت على صوت النقاش من حولي، أصمت لأترك مساحة ليتشاور الفريق فيما بينهم، أعود من ذكرياتي بين الحين والحين، فأصغي لحديثهم الذي طال على ضوء الشاشات الإلكترونية.
- Congratulation!
كاد قلبي يثِبُ من بين أضلاعي على وقع تلك الكلمة التي مَحَتْ أعوامًا من الشقاء، تلك الكلمة التي طوَت صفحات طويلة من الألم والترقب، وفتحَت الباب إلى عالم جديد من الأمل!
انتهى الاجتماع وما زلتُ جالسًا في مكاني أعيد وَقْع تلك الكلمة على سمعي.. أقلام مُلقاة على الطاولة.. أوراق تضجّ بالرسوم البيانيّة والهندسيّة.. ملاحظات بخطوط متباينة؛ بعضها مقروء وبعضها لا تستطيع تمييز حروفه المتداخلة، كلّ ذلك يختصر أشهرًا من العمل والدراسة لموقع المشروع وكيفيّة تنفيذه.
لفحات الشتاء تتسلل من الوشاح الداكن الساكن حول رقبتي، أسرع الخطو كالجميع، الأكف في سباتها المؤقت داخل المعاطف.. أدلف إلى سفارة بلادي، لم أصبر إلى الغد، ستوافق السفارة لا شك على إقامة مشروعي المنتظر هناك.
"تستطيع القدوم غدًا واستلام كافة الأوراق بعد تصديقها".
كان صوت موظف السفارة دافئًا دفء اللغة العربيّة التي تحدث بها كلمات مرت عبر الاتصال من السفارة، ضحكت أم صرخت لا أذكر، أو ربما قفزت أيضًا.. أخذت عيني تصافح المشهد من النافذة، الأشجار على الرصيف المقابل تبادلني الابتسامة بأوراقها المتراقصة بنعومة على هديل النسيم.
سعيًا حثيثًا لم يثقل كاهلي أو يئِنّ منه صبري، بالعودة لرحاب الأرض الحارة التي لفظتني خوفًا عليّ كأم موسى، بابتسامة الأمل لي وللأطفال بأن تتحقق بعض أحلامي لتلك الأرض القاحلة.
عدت مع الشركاء لتنفيذ مشروع (تكثيف الماء من الهواء الرطب) اعتمادًا على طاقة الألواح الشمسيّة، يستلزم ذلك مناطق مشبعة بالرطوبة وبأشعة الشمس الساطعة طوال العام..
- إذن أنت تسعى لإقامة مصنع وليس معامل صغيرة!!
- نعم سيدي.
- لماذا لا تكتفي بالمعمل؟ المصنع تكلفته عالية!
- أهدف لإنتاج أكبر قدر من الماء وذاك لن يتعارض مع استبدال الطاقة بأشعة الشمس، ولن يكون الفارق في التكلفة كبيرًا كما أوضحتُ في دراستي بين أيديكم...!
رفَعَ طرف النظارة الساقطة على عرنين أنفه بإصبعه، وحدّق في وجهي دون أن يتكلم! قرأت في عينيه ملامح الموافقة، فأردفتُ قائلًا:
- تكلفة الماء هنا في بلدكم أعلى بكثير من الماء المنتج المتوقع... الهواء هناك في الصحراء مُشْبَع بالرطوبة إلى حد التُّخمة. ولديّ خطة مستقبلية لتوسعة المشروع، نستطيع أن نوفر الماء للسوق المحلي هناك خلال ثلاث سنوات، ثم نقوم بالتصدير إلى عدة أقطار أخرى مجاورة..
- نعم! فالشمس والرطوبة لديكم تغطي الجميع..
جاهدت أن يقف حلمي الوليد على قدميه الناشئتين وينمو في وطني، أما آن لهم أن يعرف نقاء الماء سبيلًا لجوفهم بعد أن ذاقوا ويلات الجفاف والأوبئة.. آن لهم أن ينتفعوا من الرطوبة العالية وأشعة الشمس الحارقة.
مرحبًا أيّها الذهب الساخن! لن نحفر الأرض، لن نتقاتل على الآبار، لن تتلوى حول الماء تلك الأجساد الظَّمْأَى، ستعود الفراشات التي كنت ألهو خلفها لاهية فوق الزهور، عسى ينقلب هذا اللون الأصفر الرملي للون الحياة الأخضر.. فهذا الذهب يُدَثِّرُنا جميعًا، والهواء يحيينا، وبه سنرتوي قريبًا.
أقبض بيدي على الرمل الساخن بموقع البناء، فأذكر أقدامي المتشققة حين كنت صغيرًا من الهرولة بحثًا عن بئر ماء صالحة للشرب، فأتنهد تنهيدة طويلة مترقبًا هذا اليوم القريب الذي سأرى فيه الماء لا تشوبه شائبة داخل كوب، ومن خلاله وجه طفل مبتسم يسائل نفسه: "ما طعم هذا الماء الجديد؟!"

نهى الطرانيسي، مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى