كرم الصبَّاغ - ياسمين... قصة

مازال منذ غروب الشَّمس يلازم الأريكة المنصوبة في فناء الدَّار، يقبض على خرطوم نارجيلته، ويلتقط من الراكية قطع من الجمر المتوهّج، يضعها على حجر المعسل، ويسحب أنفاسًا عميقةً، ويزفر بقوةٍ، ويخلّف سحبًا من الدُّخان الثَّقيل، تغطّي وجهه، الذي كسته التَّجاعيد وعلامات التَّوتر والقلق. من وقتٍ إلى آخر يتطلَّع إلى باب الدَّار، ينتظر أن تطلّ إحداهن من الدَّاخل، فتزفُّ إليه بشرى خاصمته منذ سنين.
تجتاز المسافة المظلمة، تحمل يداها المرتعشتان صينيَّة الشَّاي، تتقدَّم نحوه بخوفٍ وتوجُّسٍ. تحدّق إلى صينيَّتها، تنظر أمامها، تتحاشى التَّعثُّر، يعتصرها الموقف الثَّقيل؛ هي عادةً ما تهاب الاقتراب منه؛ فهو دائم العبوس، يثور لأتفه الأسباب، ولا يتورَّع عن شتمها. تموج في رأسها الخواطر، تعضُّ شفتها السُّفلى، تدنو منه بحذرٍ، تضع براد الشَّاي على منضدة أمامه، تنتظر أن يجلدها بلسانه، لكنَّه لا يفعل؛ إذ كان شارد الذّهن، لم ينتبه إلى وجودها من الأساس، تتنفَّس الصَّبيَّة الصُّعداء، تعود أدراجها إلى داخل الدار، تنضمُّ إلى أخواتها الأربع اللَّاهيات بعرائسهنً، ومن وقتٍ إلى آخر تُلْصِق أذنها بالباب الخشبيٌ، وتتنسَّم الأخبار؛ فتسمع صرخات أمّها المشبَّعة بالوجع وهمهمات النّسوة من حولها، تأتي من داخل الغرفة المغلقة. تهمُّ بدفع الباب، والدُّخول، لكنَّها تحجم عن ذلك؛ مخافة توبيخ القابلة العجوز صاحبة اللّسان الحادّ؛ فمنذ أن أدخلت الطّست النُّحاسيَّ، و ملأته بالماء السَّاخن، أمرتها القابلة بنبرةٍ غليظةٍ بسرعة الخروج، و عدم اقتحام الغرقة لأيّ سببٍ من الأسباب.
لم تستوعب الصَّبية معنى تطيُّر وتشاؤم القابلة العجوز من وجودها، مثلما لم تستوعب نفور أبيها الدائم منها، ولم تستطع بحكم حداثة سنّها الرَّبط بين نبرة القابلة الغليظة وما حدث في ذلك اليوم البعيد، الذي ولدت فيه منذ اثنتي عشرة سنة على يد تلك القابلة، الّتي حضرت يومها إلى الدَّار، وهي تُمنّي نفسها بالكسوة والطَّرحة والحلوان. لكنَّها ما إن تفحّصت عورة المولود، حتَّى اسودَّ وجهها. فما كان منها إلا أن غسلت الأنثى الباكية بين يديها بالماء الفاتر، ولفَّتها في قماشةٍ، ووضعتها بجوار أمها، وغادرت الدَّار منكَّسة الرَّأس، ومرَّت بمحاذاة الأريكة، مغمغمةً بلسانٍ ثقيلٍ: مبارك يا ولدي، البنات دنيا. والأب نزلت الكلمات عليه كما تنزل الحجارة؛ فكتم آلام صدمته، ولزم الصَّمت.
مرَّت السَّنوات، والدُّنيا الواحدة صارت خمس دنييات، ضاق بهنَّ الأب المتحرّق شوقًا إلى قدوم الصَّبيّ. لطالما ملأت المرارة قلبه، كلَّما كنَّاه أهالي النَّجع بأبي "ياسمين"، ذاكرين اسم ابنته الكبرى، وكلَّما أبصر زوجته، تحيك من القماش فستانًا، أو تنسج من سعف النخيل المصبوغ بالألوان سوارًا، أو تصنع من حبات الخرز عقدًا، وكلَّما أبصر أحد الرّجال يقبض على يد ولده الصَّغير في الطَّريق إلى جامع النَّجع لأداء صلاة الجمعة.
صرخات الأمّ تندفع من الغرفة قويًّةً، تزلزل جنبات الدَّار، والقابلة تجذب المولود السَّادس. والبنات الأربع يلقين عرائسهنَّ، ويتجمعَّن أمام الباب بجوار أختهنَّ الكبرى "ياسمين"، الَّتي أغرقت الدُّموع وجهها؛ خوفًا على أمّها بالدَّاخل. الصَّرخات تصل إلى أذني الزَّوج الجالس على أريكته؛ فيضطرب في جلسته، ويشتدُّ قلقه وتوتره. الصَّرخات تعلو، تصل إلى عنان السَّماء، ثم تخفت شيئًا، فشيئًا إلى أن تتلاشى، ويحلُّ محلَّها صرخات المولود، الَّذي خرج من رحم أمّه للتَّو. القابلة تغسل المولود بارتباكٍ، وتلفُّه، وتضعه جانبًا، وتنكب مع بقية النّسوة على الأمّ، وتنهمك في تفحُّصها، ثُمَّ تخرج من الغرفة بفزعٍ، وتستدعي الزَّوج. وما هي إلا لحظاتٌ، حتَّى توافدت نساء النَّجع على الدَّار، يسبقهن الصُّراخ و العويل. وفي غمرة الزّحام والفاجعة تسلَّلت "ياسمين" من بين الأبدان المتشحة بالسَّواد، وبرفقٍ بالغٍ وحنوٍ حملت أخاها الباكي الملقى على طرف السَّرير كقطعة ملابس مهملة، وخرجت به بعيدًا عن الغرفة المشبَّعة برائحة الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى