كنت في فندق بمدينة ورقلة في أقصى الجنوب الجزائري، فندق على الطراز الأندلسي القديم يقوم على أقواس وأعمدة، وحيطان مزينة بالنقوش والزخرفة. عينت لي غرفة ينفتح بابها على صالة واسعة، وغرفة داخلية فيها طاولة وسرير، وتلفزيون معلق على الحائط أمام السرير.
لم ينقذني مما أنا فيه من غم وكآبة، أو ما أسميه متلازمة السفر - عبق التاريخ، واستحضار قبيلة زناتة العربية التي جاءت إلى ورقلة قبل الفتح الإسلامي، وما تبعتها من فتوحات عقبة بن نافع في شمال إفريقيا، وكفاح الجزائريين الطويل مع فرنسا المستعمرة حتى الاستقلال عام 1962م،
لم أستطع النوم، وهاجمتني الذكريات. نزلت الدرج، فلا مصعد في الفندق، إلى غرفة الاستعلامات، وسألت الشاب عن الانترنت؛ فربط هاتفي بالشبكة العاملة في المكان. وعدت إلى غرفتي لأتصل بعمان عبر تقنية الفيديو.
ظهرت زوجتي. شاردة الذهن، تنظر إلي بحيرة غريبة. هل رأتني مثلها في هذه اللحظات المتأخرة من الليل. وصل إلى قلبي صوتها الرقيق الضعيف، وهي تشكو من شغب الأطفال وشقاوتهم، وقالت إنها هددتهم "سأخبر والدكم بما تفعلون، ويجد الحل لمشاكلكم التي زادت عن حدها بعد سفره". ثم سألت إن كنت آكل جيدًا، أم أهمل معدتي كعادتي عندما أبعد عنها. لم أشأ أن أحزنها؛ فطمأنتها بأني صحيح الجسم معافى، وليس كالمطرود من جنة عدن. ثم فصل الانترنت وانقطع الاتصال.
تراكمت الوحشة على المكان.
زاد إحساسي بالوحدة الممزوجة بالخوف عندما سمعت خرفشة على الباب الخارجي. فتحت الباب، رأيت قطة تحاول أن تستأذن بالدخول على طريقتها. دخلت فمسدت على ظهرها لم تعبأ بتمسيدي، ودخلت تموء وتسرح في الغرفة كأنها تبحث عن شيء فقدته. يستعين الناس عادة بالقطط ليطردوا من حياتهم الوحشة والإحساس بالكآبة، بخلاف هذه القطة التي تحتاج هي نفسها إلى من يسري عنها، ويدخلها في عالم الفرح والسرور.
تركتها تعبث بالسرير، واتصلت بالاستعلامات أطلب إن كان عنده شيء من الطعام لهذه القطة التي استضافت نفسها في غرفتي. بعد قليل جاء عامل ببقايا من اللحم، ووضعها أمام القطة. دهشت أنها لم تلتفت إليها. وبدا لي بأنها تعاني من وجع أشد من الجوع، وجع جعلها تموء وتخربش على الباب وتقتحم غرفتي.
لجأت كي أبعث المرح في القطة برمي علبة مناديل الورق عليها. سحبت المناديل كلها من العلبة وجرتها في خط واحد إلى الصالة الكبيرة، ثم انقلبت على ظهرها وسط الصالة، وراحت تداعب المناديل. أدركت أن القطط مثل الإنسان لا تحيا بالخبز وحده.
حاولت أن أقرأ البحث الذي سأقدمه في أول يوم من أيام المؤتمر الذي دعيت إلى الجزائر من أجله. لم أقدر؛ لأن القطة تركت مناديل الورق، وبدأت جولة أخرى في الخربشة على الباب من الداخل. ظننت بأني سأرتاح منها؛ فأسرعت بفتح الباب، وقلت لها أن تنطلق أنى شاءت. لم تتحرك من مكانها، وبقينا واقفين على الباب، لا نحن في الداخل، ولا نحن في الخارج.
انطلق أذان الفجر. بدا بعيدًا عن الفندق كأنه من أعماق الصحراء الإفريقية. شعرت بطمأنينة لم أشعر بها في حياتي. دخلت لأتوضأ وأصلي، وتركت القطة تفعل ما تشاء. حين انتهيت من الصلاة سمعت عاملة الفندق بالباب تخاطب القطة بكلمات ممزوجة بالفرنسية والعربية والسواحلية، فهمت منها أن القطة اسمها مسعودة وهي صاحبتها. حاولت بعد أن حيتني جذب القطة إليها، لم تستطع بل إن القطة حاولت أن تغلق الباب، وترك صاحبتها في الخارج، ثم هربت منها إلى الداخل. سمحت للعاملة بالدخول، لكنها لم تستطع القبض على القطة. أسفت، كما فهمت من كلامها، لإزعاجي في الفجر. وهددت القطة بأن مصيرها أن تأتي إليها سواء اليوم أو بعده.
بعد خروج العاملة استقر بنا الحال أنا والقطة. بدأت أراجع البحث، وهي بجانبي على السرير تخرخر خرخرة أقرب إلى التسبيح.
لم ينقذني مما أنا فيه من غم وكآبة، أو ما أسميه متلازمة السفر - عبق التاريخ، واستحضار قبيلة زناتة العربية التي جاءت إلى ورقلة قبل الفتح الإسلامي، وما تبعتها من فتوحات عقبة بن نافع في شمال إفريقيا، وكفاح الجزائريين الطويل مع فرنسا المستعمرة حتى الاستقلال عام 1962م،
لم أستطع النوم، وهاجمتني الذكريات. نزلت الدرج، فلا مصعد في الفندق، إلى غرفة الاستعلامات، وسألت الشاب عن الانترنت؛ فربط هاتفي بالشبكة العاملة في المكان. وعدت إلى غرفتي لأتصل بعمان عبر تقنية الفيديو.
ظهرت زوجتي. شاردة الذهن، تنظر إلي بحيرة غريبة. هل رأتني مثلها في هذه اللحظات المتأخرة من الليل. وصل إلى قلبي صوتها الرقيق الضعيف، وهي تشكو من شغب الأطفال وشقاوتهم، وقالت إنها هددتهم "سأخبر والدكم بما تفعلون، ويجد الحل لمشاكلكم التي زادت عن حدها بعد سفره". ثم سألت إن كنت آكل جيدًا، أم أهمل معدتي كعادتي عندما أبعد عنها. لم أشأ أن أحزنها؛ فطمأنتها بأني صحيح الجسم معافى، وليس كالمطرود من جنة عدن. ثم فصل الانترنت وانقطع الاتصال.
تراكمت الوحشة على المكان.
زاد إحساسي بالوحدة الممزوجة بالخوف عندما سمعت خرفشة على الباب الخارجي. فتحت الباب، رأيت قطة تحاول أن تستأذن بالدخول على طريقتها. دخلت فمسدت على ظهرها لم تعبأ بتمسيدي، ودخلت تموء وتسرح في الغرفة كأنها تبحث عن شيء فقدته. يستعين الناس عادة بالقطط ليطردوا من حياتهم الوحشة والإحساس بالكآبة، بخلاف هذه القطة التي تحتاج هي نفسها إلى من يسري عنها، ويدخلها في عالم الفرح والسرور.
تركتها تعبث بالسرير، واتصلت بالاستعلامات أطلب إن كان عنده شيء من الطعام لهذه القطة التي استضافت نفسها في غرفتي. بعد قليل جاء عامل ببقايا من اللحم، ووضعها أمام القطة. دهشت أنها لم تلتفت إليها. وبدا لي بأنها تعاني من وجع أشد من الجوع، وجع جعلها تموء وتخربش على الباب وتقتحم غرفتي.
لجأت كي أبعث المرح في القطة برمي علبة مناديل الورق عليها. سحبت المناديل كلها من العلبة وجرتها في خط واحد إلى الصالة الكبيرة، ثم انقلبت على ظهرها وسط الصالة، وراحت تداعب المناديل. أدركت أن القطط مثل الإنسان لا تحيا بالخبز وحده.
حاولت أن أقرأ البحث الذي سأقدمه في أول يوم من أيام المؤتمر الذي دعيت إلى الجزائر من أجله. لم أقدر؛ لأن القطة تركت مناديل الورق، وبدأت جولة أخرى في الخربشة على الباب من الداخل. ظننت بأني سأرتاح منها؛ فأسرعت بفتح الباب، وقلت لها أن تنطلق أنى شاءت. لم تتحرك من مكانها، وبقينا واقفين على الباب، لا نحن في الداخل، ولا نحن في الخارج.
انطلق أذان الفجر. بدا بعيدًا عن الفندق كأنه من أعماق الصحراء الإفريقية. شعرت بطمأنينة لم أشعر بها في حياتي. دخلت لأتوضأ وأصلي، وتركت القطة تفعل ما تشاء. حين انتهيت من الصلاة سمعت عاملة الفندق بالباب تخاطب القطة بكلمات ممزوجة بالفرنسية والعربية والسواحلية، فهمت منها أن القطة اسمها مسعودة وهي صاحبتها. حاولت بعد أن حيتني جذب القطة إليها، لم تستطع بل إن القطة حاولت أن تغلق الباب، وترك صاحبتها في الخارج، ثم هربت منها إلى الداخل. سمحت للعاملة بالدخول، لكنها لم تستطع القبض على القطة. أسفت، كما فهمت من كلامها، لإزعاجي في الفجر. وهددت القطة بأن مصيرها أن تأتي إليها سواء اليوم أو بعده.
بعد خروج العاملة استقر بنا الحال أنا والقطة. بدأت أراجع البحث، وهي بجانبي على السرير تخرخر خرخرة أقرب إلى التسبيح.