جعفر الديري - زيتُ العمر... قصة قصيرة

لا مناصَ من الاعتراف بالحقيقة؛ ثَقُلَ الجفنان حتَّى عجزا عن مقاومة سلطان النوم، وتهدلَّ الجلد حتَّى مسخ صورة الوجه، وصَار كلُّ شيء فيك، ينبيء عن ذهاب أيَّام كنت فيها المشرف الكفؤ الذي لا يجرؤ أحدٌ على مراجعته، بل ولا حتَّى النظر في عينيه ...​

- قضيَ الأمر إذاً، ولم أعد أُشكِّل شيئا بالنسبة لك، لا الخبرة الطويلة ولا الدورات التي أفنيت عمري في تحصِيلها؟!

ردَّ مدير الموارد بعصبيّة، وهو يسدِّد إبهامه إليه:

- تجاوزت سنَّ التقاعد منذ عدّة سنوات.

- وما دخل السن؟! ما أزال قادراً على العمل.

قال وهو يهزُّ رأسه:

- لم تعد كذلك يا حاج علي.

- الله يا زمن، ألِمثلي يقال مثل هذا الكلام؟ أنا الذي أفنيت عمري في هذا المصنع؟!

قال بنفاذ صبر وهو يهزُّ ذراعيه ضجرا:

- أنا آسف، إنَّها أوامر صَاحب المؤسَّسة، راجعه إن أحببت.

لم يجد في نفسه الجرأة على مراجعة صَاحب المؤسَّسة، الرجل الطيب، سبق وأن استجاب لطلباته المتكرِّرة، وجزاه الله خيرا أن صبر عليه كل هذه السنوات، فمدَّ في أجل خدمته أكثر من مرّة، مراعياً ما سبق أن قدمه أيام عزِّه وتميُّزه.

الحقُّ أنَّك تقدَّمت في السن، وصرت تبذل جهدا مضَاعفا لتوفِّي التزاماتك، حتى البسيطة تقطع وقتا طويلا في أدائها، أمراضك عديدة، مزمنة، الضغط، السكري، عدا عن ثلاث جراحات قسطرة في القلب، وحادث أليم تسبَّب به سرحانك للأسف، أصَابك في قدمك فخلَّف عرجَاً واضِحَا. باختصَار، أصبح جسدك هشَّا ضعيفا، يمكن لرياح قويَّة أن ترفعه من مكانه، قطع خرده لا أمل في إعادة تدويرها.

أجل .. كلُّ ذلك صحيح، ولا طاقة له على مقاومة سلطان الزمن، لكن .. ألا يشفع له أنَّ عقله ما زال يعمل؟ أنّه يعرف كلَّ صغيرة وكبيرة عن آلات المَصنع؟ ماذا يفعل بهذه الخبرة التي يضرب بها المثل؟!

- اجعلوني مستشاراً على الأقل، دعوني أدخل وأخرج من المصنع كما أشاء، لا تضعوا حواجز بيني وبين آلات تعرفون كم هي عزيزة عَلى قلبي؟

ابتسم مدير الموارد بسخريَّة واضِحَة:

- وماذا نعمل بالمهندسين، القادمين من أرقى الجامعات الأوروبيَّة؟ نتركهم دون عمل؟

تطلَّع فيه بنظرات منكسرة، متسائلا عن علِّة هذه القسوة، ثمَّ مضى حامداً الله أن نظَّارته سوداء، تخفي دموعه.

توقَّف عند باب المؤسسة، غير قادر على مفارقة المكان. أهمَّه أنّ ينظر إليه كما ينظر لأيِّ موظف في المصنع، يمكن استبداله بآخر في أيَّة لحظة. لم تعد قادراً على العمل يا حجي علي!، هكذا بكل صلف وترفُّع يخاطبه مدير الموارد، غير عابيء بتاريخ طويل قضَاه بين الآلات، يرعاها، ويحنو عليها، يذهب ويجيء، مشغولا بها متى أحسَّ بخلل ولو كان بسيطا، أو عطل ولو كان مؤقَّتا، يناولها الزيت متى وشى صوتها بالمرض، ويجهد في تنظيفها من الأوساخ، ولا يترك مكان العمل إلاَّ بعد أن يتأكَّد من نومها بهدوء.

لم تكن شيئا ثانويا في حياته، أبداً، كانت جزءًا لا غني عنه من يومه، كان لا ينقطع عن السؤال عنها حتى وهو في البيت بعد انتهاء الدوام، إلى درجة كانت تثير تندُّر أبنائه وبناته. لم يرد يوما أي اتصَال من الشركة، كانوا يتصلون به حتى وهو على سرير النوم! كم هو عدد المرّات التي اتصل فيها عامل آسيوي به يسأله عن كذا وكذا قبل أن تشرق الشمس بنور ربها؟، لم يزعل، لم يخاصم، كان يردُّ بنفس سمحة، محبة للعمل، وها هو الجاحد لا يجد حرجا في التخلُّص منه.

انتبه على صوت ابنة صاحب المُؤسَّسة، تنزل من سيَّارتها. خفق قلبه بشدَّة، أتراها تستجيب لطلبه لو حدَّثها؟ وقبل أن تدخل من الباب، بادرها بالسَّلام، فابتسمت مرحِّبة:

- أهلا حجي علي، كيف أنت؟

قال بصوت مرتبك؟

- بخير يا ابنتي.

ثم صَمت ولم يستطع الكلام، ولا منع نفسه من البكاء.

سَألت بتأثُّر:

- ما بك يا حجي علي؟ لمَاذا تبكي؟

- لقد تخلَّوا عني يا ابنتي؟ لم أعد لائقاً للعمل.

ردَّت بغضب:

- من قال ذلك؟

- مدير الموارد.

وشتْ نظرتها بانزعاج بيِّن، وتأفَّفتْ بصوت واضح، ثم قالت:

- هذا الرجل يتصرُّف في المؤسَّسة وكأنها ملك أبيه، سأشكوه لأبي كي يضع حدَّا لتصرفاته الرَّعناء.

ثمَّ شاهدها تبتعد، وتجري اتصَالاً بوالدها لا شك. كانت منفعلة جدّا، تتحدَّث بصوت مرتفع:

- يجب أن توقفه عند حدِّه يا أبي.

ثمَّ عادت إليه قائلة:

- أبي لا يعلم شيئا عن الموضوع.

أشرق وجهه بالأمل:

- أستطيع العودة إلى العمل.

- طبعا.

ثم ابتسمت كطيف الصَّباح الجميل:

- أنت لست موظَّفا عاديا يا حجي علي، كي نتخلَّى عنك، عد إلى عملك وكلِّمني متى اعترضَك أحد.

وسكتت هنيهة قبل أن تضيف:

- هل تعلم؟ سأذهب معك إلى مدير الموارد، كي لا يزعجك مرّة أخرى.

وتبعها وفمه يتمتم بكلمات غير مفهومة، من شدَّة انفعَاله.

نشرة المنبر التقدمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى