كان حفل رأس السنة لهذا العام مميزاً، بحضور ولديّ من اغترابهما. لقد بذلت كل ما بوسعي لأن يكملا اختصاصهما في الغرب ،ويعودا كما فعلت، لكنهما علقا بشباك الغربة.
على المائدة الباذخة المكتظة بأصناف الطعام، والحب والفرح والذكريات، جلس إبني و زوجته وابنه على يميني، وابنتي وولديها إلى يساري.
أخذت زوجتي تشرف على ترتيب الاحتفال كفراشة، بدت كأنها في الأربعين من عمرها، فرحتها تبدد أوجاع السبعين.
أما هما فأخذا الأحاديث كلها عن ذكرياتهما ،كأنهما ما برحا البيت ابداً، وأخذت ابنتي تصر على سؤالي :من أحببت أكثر انا أم أخي… كيفما أجبت لا تقتنع كعادتها ،بل تتهم ردي بالدبلوماسية المبطنة، كيف لا أحبه أكثر، وهو نسخة مني. تأملت الأطفال، وانا أبحث عن موروثاتي بملامحهم، أسعدتني الرفاهية التي هم فيها، عادت إلى ذاكرتي قصص الفقر، سألت إبني كعادتي ( كيف هي جامعتي) و (ساعد الفقراء قدر ماتستطيع ) هاتان الجملتان كانتا بداية ونهاية حديثي الهاتفي معه في كل اتصال بيننا ، وكنت لا أنتظر رده، ولا أظنه يكترث لنصائحي.
بلا مقدمات ،وأنا أنقل نظري على وجوه ملائكية يميناً ويساراً،و قبل أن يمنعني أحد قلت :سأحكي لكم يا أحفادي عن حفل تخرجي من الجامعة. ..
سمعت زفرة التأفف من زوجتي فهي تتهمني بألزهايمر كلما أعدت القصة التي استمتع بجلدها بها وبإثارة أعصابها ورأيت الدهشة بعيني إبني..
ـ أبي ألم تُشفٓ بعد من هذه القصة!!!؟؟؟
ـ ولن أبرأ منها ما حييت … أجبته وانا أراقب انشغال ابنتي بتوضيب المائدة مع أمها، هي لا تريد سماعي إذن، إما شفقة عليّ، أو أنها ملّتها كأمها ،
أخذت أسرد بمتعة حزني، مع عدم تأكدي أن الأحفاد سيفهمون ما أقوله، لكن نظراتهم المتعلّقة بحكايتي أعطتني دفعاً قوياً ، فبتّ لا أستطع أن أحيد بنظري عن عيونهم، التي اغرورقت بالدموع ، مع سير الحكاية :
(بإحدى الجامعات الأمريكية، التي تخرجت منها، كان التقليد هناك يقتضي صنع خواتم محفور على كل واحد منها اسم طالب من الخريجين ومنقوش عليها شعار الدفعة… وطبعا مع الحفل هناك صور تذكارية لنا، ولأن جيبي كان يحتضن دولاره الوحيد خرجت من الحفل ،وأنا لا أجد طريقي لغشاوة الدموع على عيني المحرومتين من اكمال الفرح، حيث أن كل طالب حظي بخاتمه وبصورة جماعية إلا أنا عدت إلى وطني ،والغصّة تخنقني و تقللّ من فرحتي بالشّهادة التي تحصّلت عليها ) …. أردت أن أكمل الحديث لهم.. لأقول كم جهدت بعملي ،كي أجنّب أولادي الحرمان الذي عشته ،لكن خانني صوتي، و اجهشت بالبكاء ، فاحتضنتي ابنتي التي أشفقت عليها من أسى قصة تمنيت لو أني أودعتها بأدراج النسيان، وهكذا تحوّل الحفل الى ما كنت لا أريده. وكي أكفّر عن ذنبي كسرت جدار الحزن، وقلت بمرح مصطنع وأنا أفرك راحتّيا ببعضهما :
هاتوا افرحونا أين الهدايا.
بدت زوجتي كماري أنطوانيت ، وهي تضع الفراء الثمين عل كتفيها وتسألني :ما رأيك، خصني ابني بأغلى هدية وأظنك ستحسدني عليها، رمقتها بصمت التجاهل، وانا أنتظر هديتي، ولكن في أعماقي كنت أتمنى هدية أغلى من تلك التي تتباهى بها زوجتي، لأنها كانت تؤكد دائما بأن لها القسط الأكبر من محبة ولدينا ، وكنت أبدي عدم اكتراثي للأمر .
قدم لي إبني صندوقا صغيراً لا يتجاوز حجم الكف، خمنت فيه ساعة أو ميدالية ذهبية ..شعرت بالانتصار فالذهب أغلى من الفراء برأيي. لكن خيبتي كانت كبيرة عندما فاحت رائحة الصابون _صابون..!!! . من أي فندق سرقته..؟؟؟ علت قهقهاتهم على تندري سرعان ما اخمدتها ملامحي الحانقة … هل بعد كل ما فعلته لأجله يأتيني بصابون؟ أردت أن اشتمه لكن لجمتني نظرات زوجته ،اللائمة له والمعتذرة مني، بل المشفقة عليّ. أخذت ابنتي تراكم أمامي هدايا أحضرتها لي، دون أن أراها، فما زالت رائحة الصابون تحرق قلبي، زوجتي تنعتني( بطفل صغير..) وبدا استياؤها من غضبي واضحا، ماذا تنتظر من قلب رجل بالثمانين من عمره إلا طفلا صغيرا حتى ولو كان أستاذا جامعيا . ظل نظر إبني مثبتا على يديّ المرتجفتين بعلبة الصابون، فاتحا عينيه على اتساعهما، وكأنه صحا للتو من نومه، أخذ يومىء برأسه الذي تمنيت أن تطاله عكازتي، ملامحه الحيادية كانت أكثر استفزازاً لأعصابي من عقوقه، حتى لومي له لم يرسم أي تعبير بالندم على وجهه ،لقد أصيب بلوثة برودة الغرب وقال بلهجة آمرة : _افتحه جيداً. قلت بغضب : افتحه أنت. و بيديّ الواهنتين وريت العلبة باتجاهه كحجر أردت أن يصيب رأسه الجاحد .. تناثر لوح الصابون فوق المائدة… حل الصمت لبرهة، قطعه رنين غريب، ومن خلال ضباب الدمع ، رأيت شبابي مع زملاء الدراسة ممتدا ًبيد ابني و الخاتم، الذي فقدت أملي به، يهزأ من دهشتي ،يتدحرج صوبي ،ليسقط في يدي محملاً بعطر الذكريات ،بل بعطر الشفاء .
صديقة صديق علي
على المائدة الباذخة المكتظة بأصناف الطعام، والحب والفرح والذكريات، جلس إبني و زوجته وابنه على يميني، وابنتي وولديها إلى يساري.
أخذت زوجتي تشرف على ترتيب الاحتفال كفراشة، بدت كأنها في الأربعين من عمرها، فرحتها تبدد أوجاع السبعين.
أما هما فأخذا الأحاديث كلها عن ذكرياتهما ،كأنهما ما برحا البيت ابداً، وأخذت ابنتي تصر على سؤالي :من أحببت أكثر انا أم أخي… كيفما أجبت لا تقتنع كعادتها ،بل تتهم ردي بالدبلوماسية المبطنة، كيف لا أحبه أكثر، وهو نسخة مني. تأملت الأطفال، وانا أبحث عن موروثاتي بملامحهم، أسعدتني الرفاهية التي هم فيها، عادت إلى ذاكرتي قصص الفقر، سألت إبني كعادتي ( كيف هي جامعتي) و (ساعد الفقراء قدر ماتستطيع ) هاتان الجملتان كانتا بداية ونهاية حديثي الهاتفي معه في كل اتصال بيننا ، وكنت لا أنتظر رده، ولا أظنه يكترث لنصائحي.
بلا مقدمات ،وأنا أنقل نظري على وجوه ملائكية يميناً ويساراً،و قبل أن يمنعني أحد قلت :سأحكي لكم يا أحفادي عن حفل تخرجي من الجامعة. ..
سمعت زفرة التأفف من زوجتي فهي تتهمني بألزهايمر كلما أعدت القصة التي استمتع بجلدها بها وبإثارة أعصابها ورأيت الدهشة بعيني إبني..
ـ أبي ألم تُشفٓ بعد من هذه القصة!!!؟؟؟
ـ ولن أبرأ منها ما حييت … أجبته وانا أراقب انشغال ابنتي بتوضيب المائدة مع أمها، هي لا تريد سماعي إذن، إما شفقة عليّ، أو أنها ملّتها كأمها ،
أخذت أسرد بمتعة حزني، مع عدم تأكدي أن الأحفاد سيفهمون ما أقوله، لكن نظراتهم المتعلّقة بحكايتي أعطتني دفعاً قوياً ، فبتّ لا أستطع أن أحيد بنظري عن عيونهم، التي اغرورقت بالدموع ، مع سير الحكاية :
(بإحدى الجامعات الأمريكية، التي تخرجت منها، كان التقليد هناك يقتضي صنع خواتم محفور على كل واحد منها اسم طالب من الخريجين ومنقوش عليها شعار الدفعة… وطبعا مع الحفل هناك صور تذكارية لنا، ولأن جيبي كان يحتضن دولاره الوحيد خرجت من الحفل ،وأنا لا أجد طريقي لغشاوة الدموع على عيني المحرومتين من اكمال الفرح، حيث أن كل طالب حظي بخاتمه وبصورة جماعية إلا أنا عدت إلى وطني ،والغصّة تخنقني و تقللّ من فرحتي بالشّهادة التي تحصّلت عليها ) …. أردت أن أكمل الحديث لهم.. لأقول كم جهدت بعملي ،كي أجنّب أولادي الحرمان الذي عشته ،لكن خانني صوتي، و اجهشت بالبكاء ، فاحتضنتي ابنتي التي أشفقت عليها من أسى قصة تمنيت لو أني أودعتها بأدراج النسيان، وهكذا تحوّل الحفل الى ما كنت لا أريده. وكي أكفّر عن ذنبي كسرت جدار الحزن، وقلت بمرح مصطنع وأنا أفرك راحتّيا ببعضهما :
هاتوا افرحونا أين الهدايا.
بدت زوجتي كماري أنطوانيت ، وهي تضع الفراء الثمين عل كتفيها وتسألني :ما رأيك، خصني ابني بأغلى هدية وأظنك ستحسدني عليها، رمقتها بصمت التجاهل، وانا أنتظر هديتي، ولكن في أعماقي كنت أتمنى هدية أغلى من تلك التي تتباهى بها زوجتي، لأنها كانت تؤكد دائما بأن لها القسط الأكبر من محبة ولدينا ، وكنت أبدي عدم اكتراثي للأمر .
قدم لي إبني صندوقا صغيراً لا يتجاوز حجم الكف، خمنت فيه ساعة أو ميدالية ذهبية ..شعرت بالانتصار فالذهب أغلى من الفراء برأيي. لكن خيبتي كانت كبيرة عندما فاحت رائحة الصابون _صابون..!!! . من أي فندق سرقته..؟؟؟ علت قهقهاتهم على تندري سرعان ما اخمدتها ملامحي الحانقة … هل بعد كل ما فعلته لأجله يأتيني بصابون؟ أردت أن اشتمه لكن لجمتني نظرات زوجته ،اللائمة له والمعتذرة مني، بل المشفقة عليّ. أخذت ابنتي تراكم أمامي هدايا أحضرتها لي، دون أن أراها، فما زالت رائحة الصابون تحرق قلبي، زوجتي تنعتني( بطفل صغير..) وبدا استياؤها من غضبي واضحا، ماذا تنتظر من قلب رجل بالثمانين من عمره إلا طفلا صغيرا حتى ولو كان أستاذا جامعيا . ظل نظر إبني مثبتا على يديّ المرتجفتين بعلبة الصابون، فاتحا عينيه على اتساعهما، وكأنه صحا للتو من نومه، أخذ يومىء برأسه الذي تمنيت أن تطاله عكازتي، ملامحه الحيادية كانت أكثر استفزازاً لأعصابي من عقوقه، حتى لومي له لم يرسم أي تعبير بالندم على وجهه ،لقد أصيب بلوثة برودة الغرب وقال بلهجة آمرة : _افتحه جيداً. قلت بغضب : افتحه أنت. و بيديّ الواهنتين وريت العلبة باتجاهه كحجر أردت أن يصيب رأسه الجاحد .. تناثر لوح الصابون فوق المائدة… حل الصمت لبرهة، قطعه رنين غريب، ومن خلال ضباب الدمع ، رأيت شبابي مع زملاء الدراسة ممتدا ًبيد ابني و الخاتم، الذي فقدت أملي به، يهزأ من دهشتي ،يتدحرج صوبي ،ليسقط في يدي محملاً بعطر الذكريات ،بل بعطر الشفاء .
صديقة صديق علي