د. محمد عبد الله القواسمة - مؤن الوكالة...

كان إيقاع المخيم يتغير مع نشاط وكالة الغوث في توزيع المؤن، وحصص الطعام، والملابس المستخدمة(البقج) على اللاجئين في المخيم.

ما زال يتذكر تلك الفرحة التي كانت تغمرهم في نهاية الشهر عندما يحين موعد استلام كرت المؤن، والمؤن مجموعة الحصص المقررة لعائلتهم من المواد الغذائية، التي تتكون عادة من المواد الأساسية: الطحين، والرز، والسكر، والزيت، والصابون، وبعض المعلبات.

كان يأتي مركز التوزيع الذي يقع في أعلى المخيم مع أمه، في الغالب، وشقيقه الكبير. كان يلفت انتباهه كثير من التجار الذين يجيئون من مدينة الخليل، ليشتروا من اللاجئين ما استلموه من المواد الغذائية، وبعضهم كانت لديهم كروت مؤن رهنها أصحابها أو باعوها لهم، وجاؤوا ليستلموها بدلًا عنهم.

كان يفرح برؤية العربات التي تجرها الحمير والبغال، وهي واقفة أما المركز، يترقب أصحابها أن تطلب منهم بعض العائلات، التي تسكن في أطراف المخيم نقل ما تستلمه من المؤن إلى بيوتها. حتى إنه فوجئ يومًا أن صاحبه مصطفى كان على ظهر عربة يجرها حمار، ينتظر مع أصحاب العربات. دعاه إلى نقلهم ومؤنهم إلى البيت. ركب الجميع في العربة، وكان مصطفى طوال الطريق يمتدح حمارهم بأنه حمار قبرصي، وأنه أفضل من سيارة مرسيدس؛ ويعود في أصوله إلى حمير الصليبيين، وإلى حمار بطرس الناسك بالذات.

المهم أن مصطفى أقلهم دون أن يأخذ أجرة." عيب أخذ الأجرة من صديق مثلك"

في بداية فصل الشتاء كانت الوكالة توزع في مركز الوكالة المحروقات على سكان المخيم. كان يذهب وحده حاملًا تنكة صغيرة لاستلام بضعة لترات من الكاز، ليستخدموها عادة في تشغيل بابور الكاز؛ لتسخين الماء للاستحمام، وغسل الملابس، فضلًا عن طهو الطعام. يتذكر أنه كان على رأس طابور طويل لاستلام الكاز عندما اندست جارتهم خيزرانة في الطابور، ودفعته بمؤخرتها واصطفت أمامه. استنكر فعلتها. أجابته بأنها جارتهم وحق الجار على الجار. فرد بحياء:

  • ليس بهذه الطريقة يا خيزرانة؟!
كما كانت الحركة تدب في المخيم عند توزيع البقج أو الصرر، كأنه عيد الأضحى أو الفطر. فكانت كل عائلة تستلم بقجة، يتوقف حجمها على عدد أنفار العائلة. البقجة الكبيرة نصيب العائلة الكبيرة.

كان يأتي وأمه لاستلام بقجتهم. كانت بقجتهم من الحجم المتوسط. تضعها أمه على رأسها وتسير بها متباهية إلى البيت. عندما تصل إلى البيت ما إن تلقيها على الأرض حتى يهجموا عليها. كان يختطف منها ما يظن أنه يناسبه. لم يكن يحصل في الغالب على شيء، لا يجد غير سراويل طويلة، ومعاطف كبيرة، وجوارب نسائية، وأحذية رجالية واسعة، وأحذية نسائية ذات رؤوس مدببة. كان يختار ربطة عنق طويلة، فلا بد أن يحصل على شيء، ويضعها في عنقه ويخرج إلى الشارع.

في إحدى المرات حصل على ربطة عنق، كانت مربوطة من صاحبها الأول، وضعها في عنقه وخرج إلى الشارع حافي القدمين. كان الأولاد يرقصون ويغنون بملابسهم الجديدة. رأى صديقه عبد السلام يرتدي معطفًا كبيرًا، مع أن الجو حار، وهو يمشي مثله حافي القدمين. راح كلاهما يتحدثان عن البقجة، وما فيها من ملابس وأحذية وألعاب مستخدمة.

مر بهما خضر الذي هو أكبر منهما سنًا. صار يضحك عليهما. نبهاه إلى ما يرتديه. كان يرتدي بنطالًا أبيض، على مؤخرته شعار وكالة الغوث وصورة يدين متصافحتين، مكتوب تحتها هدية من الشعب الأمريكي.

بينما كان الجميع يضحكون على ما يرتدون، صرخت سنية ابنة جيرانهم من الشرق، وهوت على الأرض. أسرع صاحبه عبد السلام ليساعدها على النهوض، فصدته عنها فهي لا تحتاج إلى أمثاله لتنهض من عثرتها. رجع منكس الرأس يتعثر بقدميه. وجاءت امرأة عثمان الدكنجي على الصراخ، وانحنت ترى كاحل سنية. صاحت، وهي تسحب الحذاء من قدميها:

  • كله من هذا!
ورمته بعيدًا، وجعلت الفتاة تتكئ على كتفها، وسارت بها إلى بيتها.

لام صديقه عبد السلام على اندفاعه لمساعدة سنية فأجابه:

  • تعمل الخير تلق الشر.
لم يقتصر تأثير توزيع البقج على توزيع الفرحة على الناس في المخيم بل امتد إلى أحلامهم، فبعضم صار يحلم بأن يعثر في جيب معطف أو قميص، على المال، أو على عنوان عائلة ثرية تساعده على تغيير أحواله، أو فتاة جميلة يراسلها ويتزوجها، ويترك المخيم إلى الأبد.

أما هو فما كان يبعث في نفسه السرور والسعادة مثل وجبات الطعام، التي كانت تقدمها الوكالة له ولتلاميذ المدارس حسب بطاقة خاصة، تنتهي مدتها بعد ثلاثة أشهر، يستلمها من المدرسة. فكان ينتظر بصبر نهاية الحصة الخامسة حتى يهرع ليكون في طليعة التلاميذ الذين يدخلون مركز التغذية. وهو عبارة عن صالة واسعة، وطاولات طويلة، يوضع عليها الطعام، وحولها مقاعد خشبية، والطعام يتكون غالبًا من الفاصوليا البيضاء، والكبة، والمجدرة، والبرغل بالسلق، وكوب من اللبن وبعض الفاكهة، ويقدم معها أحيانًا زيت السمك الضروري للمحافظة على العيون.

في ذلك اليوم، كان يصطف في الطابور الطويل الذي يمتد من مدخل صالة الطعام إلى بوابة المركز، سئم من الوقوف والانتظار فتجاوز من أمامه حتى وصل إلى رأس الطابور. رأه الموظف المسؤول عن النظام، فناده وسحب منه كرت المطعم، وأبلغه أن يعود إلى البيت؛ فليس له طعام اليوم، وغدًا عليه أن يمر به ليأخذ كرته.

غضب غضبًا شديدًا. هل يعود إلى البيت دون غداء؟ وماذا في بيتهم من طعام؟ خبيزة مفتلة، أو حمصيص مع العدس، أو رشتة بعدس، أو كوسا خرط. لا لن يعود إلى اليت، سيأكل من طعام الوكالة مثل غيره من التلاميذ. عاد واقتحم الطابور، صده الموظف وهدده بجره إلى المخفر.

لا يعلم كيف جاءته الجرأة على التمرد رغم تخويفه بالمخفر. ابتعد عن مدخل المطعم، وهو يلعن وكالة الغوث، واليوم الذي فارق فيه أهله بلدته تل الصافي حتى يقف في طوابير الشحذة. لكن لن يستسلم، لا يحق لهم أن يحرموه من الطعام، عليهم أن يعوضوه عن فقدان وطنه. انحنى يلتقط الحجارة من ساحة المركز. راح يضرب جدران المطعم وهو يصرخ:

  • الطعام مسموم! الطعام مسموم!
كان منهمكًا في الرجم وكأن إبليس أمامه. توقف الطابور عن التقدم، وانضم بعض التلاميذ إليه في الرجم. هرع إليه مدير المركز والموظفون. رجاه المدير بصوت خفيض أن يسكت وسيلقى ما يسره. اصطحبه بهدوء إلى صالة الطعام، وأجلسه بجواره، وجيء له بصحن رز عليه كثير من اللحم، وصحن مملوء فاكهة، وزجاجة من مشروب سحويل، ودعاه أن يأكل ويرى طعامهم هل هو مسموم. أكل بنهم وتذكر بعد أن امتلأت معدته التلاميذ الذين اشتركوا معه في الانتفاضة فطلب من المدير أن يدعوهم للطعام. فأجابه بأنهم دخلوا معه من الباب الآخر. راح يمدح المدير، ويمتدح الطعام، وينكر أنه مسموم وإنما ادعى ذلك لأنهم حرموه منه. عند خروجه أعيد إليه كرت الطعام.

بعدها علت منزلته عند موظفي المطعم ومديره، وحدث بعد أيام أن وزع المركز قوالب من القشقوان، استقبلوه بالاحترام والتقدير حتى إنهم سلموه قالبين من الجبنة، باع والده أحدهما حتى يسدد ما عليهم من دين لدكان قطارش. وصار الموظفون كلما رأوه سألوه:

- هل طعامنا مسموم؟

فيجيبهم:

  • الآن لا. حسب معاملتكم يكون طعامكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى