فاطمة البسريني - موناليزا...

كانت ابتسامتها الخافتة ، خافتة ، مألوفة ، لكن بعيدة إلى حد ما ، مثل مشاهدة نسخة من الموناليزا عبر غرفة مليئة بالدخان .
في منتصف الليل في ذلك القطار الذي كان يمخر السكة الحديدية بعزم ، كانت مثل مشوهة السيرك تريد أن تلتهم رقبتي من على المقعد الخلفي وهي تغني أغنية قبيحة بشكل لا نهائي ومكرر .
لم أتمكن من النوم ولو قليلا بسبب الرعب الذي انتابني من حركاتها ، تهيأ لي أنها ستنقض علي وتغرس أسنانها المدببة في عنقي .
استدرت قليلا مختلسة النظر إليها ، ابتسمت تطمئنني ، خجلت ، وأسرعت بالعودة إلى النظر أمامي ورائحتها النفاذة تغزو أنفي وكل المكان ، كانت تضع عطر (الريف دور) ما معناه باللغة العربية ( أحلام من ذهب ).
كنت كالمخدرة ، لذلك ذهبت في إغماءة أو إغفاءة فأنا لم أتمكن من التفرقة بينهما ، فضعت في وهمك ، تلاشيت قليلا وتأكدت أن كل يوم أفكر فيك فهو يوم مفتون بالعذاب ، لأنك كلما مرة تحرق دمي إلى أن يصبح رمادا .
إنه الوقت الذي يطاردني ، كما يطارد هذا القطار وجهته ، إنه غيابك الذي يثقل أيامي باستمرار ودائما، لكنني أصبحت عنيدة جدا وكل يوم أستقبل الحياة بمرح:
ــ مرحبا ، أيتها العزيزة إلى نفسي ، أتعهد بالمضي قدما وبخطى ثابتة ، في وجه هذا العالم بالنار والدم والفولاذ .
الآن ، وبعدما مررت به من توهان وجنون في تلك المصحة النفسية وبعد أن أخذت أحاول العودة إلى الحياة فقد أخذت أطرد كل الأفكار
السوداء من دماغي باستمرار ، وأحاول تهدئة نفسي وألا أغضب بسرعة خاصة وأنني سألاقيك وأنك الآن في انتظاري ، لذلك سوف أتشبث بكل البقايا التي تركتها لي من عقلي ومن هدوئي .
في بعض الأحيان لما أشعر أنني لا أتحكم بكلماتي وبأفكاري وأحاسيسي وأشعر بضغط العالم الخارجي علي ، وعندما أحس أن ما سأقوله أو أفعله لن يكون جيدا وأن نتائجه ستكون وخيمة وسيئة ، فإنني أقنع نفسي أنني ببعض التراجع والنضج والتزام الصمت فإنه يمكنني أن أنظر إلى كل تلك الأمور بمنظار آخر وتحت ضوء يوم جديد بالكثير من التحكم ، وهكذا احتفظ بهدوئي التام .
هذا ما كنت أحاول القيام به وقد تركت العنان لأفكاري الخاصة وأنا أراقب نور القمر من خلال زجاج نافذة القطار ( كم أنت جميل يا نور القمر وأنت تسابق ركض هذا القطار يمكنني أن أنسى معك الحذر والانتباه والتركيز المميت ).
أن أترك روحي لتلك اللحظة منك حيث تتوارى بعض الأحيان وراء الأفق والتي تشبه لأول مرة الفكرة التي نحملها في ذهننا عن الحياة ..)
ذهبت محاولاتي أدراج الرياح وباءت بالفشل لما مرت تلك المرأة إلى جانب مقعدي ونظرت إلي بعينين عميقتين معتمتين لدرجة أنني أحسست أنني سأفقد نفسي فيهما..
وكانت ابتسامتها الصفراء تشبه إلى حد بعيد ابتسامة الموناليزا ، فشعرت بالذعر من جديد، فانكمشت على نفسي محاولة العودة إلى عالمي المغلق ، فأنا لا أعرف الحرية إلا بالتجاهل وإقفال الوقت والمساحات والفضاء ، فلكي أعبر الأسوار يجب علي فقط أن أغلق علي الأبواب ، الأجنحة والأحلام .
هناك في تلك المصحة ، كنت سأفقد عقلي تماما ـ ولانتهى بي الأمر في حلقة مفرغة مثل خفافيش الغسق ، لا أسمع سوى صدى صوتي ..
لما نريد أن نودع قصة من حياتنا فإننا نقوم بذلك كما ورقة شجرة ميتة يمكن أن ننفخ عليها لكي تطير في الهواء وتجد مستقرا لها بعيدا عنا ، وهكذا نقنع أنفسنا أن الأمر انتهى.
لكن الورقة الصفراء الميتة ، وهي ميتة فعلا ، ولن تعود إلى الحياة أبدا وأن نرمي بها إلى مثواها الأخير فذلك يؤلمنا حقا ، لذلك فإننا نحتفظ بها بعض الأحيان قريبا منا ، بين دفتي كتاب غالي على أنفسنا وقد نلونها باللون الأخضر إلى أن تأخذ الحياة مجراها الطبيعي.
الأشواك تتضاعف في قلبي ، تتعمق وتتجدر داخله ، قلبي دام ، دامع ، ميت..
لكن ماهذا الذي يغرز في رقبتي من الخلف ،هل هي نفس أشواك قلب؟
استدرت بسرعة لأجد دمي على شفاه المرأة الموناليزا ،القاسية خلفي وقد أبانت لي عن أسنانها التي أصبحت مسننة وحادة على جانبي فمها ...في ابتسامة تسيل بدمي .
كان بعض الدم ، دمي مازال يسيل من رقبتي ، وأنا أشعر بخفقان شديد في صدري لأن قلبي كان يدق دقات متسارعة من الرعب والفزع ، لكنني لم أكن في حالة تسمح لي بالدفاع عن نفسي فقد أحسست بإعياء وحالة استرخاء جميلة ..
فعدت لأعتدل في مقعدي دون أن أتمكن من فعل أي شيء ، وأحسست أن أسناني أخذت تطول في فمي ...
بعد فترة ، لم أستطيع أن أحدد هل هي قصيرة أو طويلة ، انتبهت من غفوتي واستسلامي الرائع :
ـــ ماذا ؟ ... ماذا ؟ إنها مصاصة دماء ، وقد تغذت من دمي للتو .. يا إلهي ... ماذا يحصل لي ؟
وهل .. هل أصبحت مصاصة دماء أنا أيضا ؟ ماذا فعلت بي أيتها الموناليزا الملعونة ؟
كنت أستدير لأصرخ في وجهها بعدما استفقت من تلك الغيبوبة التي أرغمت عليها ، لكنها كانت قد غادرت ..
نظرت من نافذة القطار إلى القمر الذي بدا شاحبا في السماء ، الذي بدا لي أنه أشفق علي وعلى السقوف والأشجار الهاربة فسكب دموعا فضية ..
دار بخلدي أنني أضعت نفسي هذه المرة بصورة نهائية وإن الأمر غير قابل للمناقشة .
الشعور الوحيد الذي بقي لي هو الغضب ، شعور قوي متمكن مني ناجح معي في السراء والضراء .. غاضبة ، أحس أنني أعيش ..
آه ماذا سأفعل الآن بعدما أصبحت مصاصة دماء ؟
لنرى الجانب الإيجابي من وضعي الجديد ،
الأهم في الأمر أنني سأكون مستيقظة طول الليل وسأمسك بأحلامي وخيمتي ستكون الزرقة القاتمة السماوية ، كم هذا جميل جدا ...
سأغرق بين طيات ظلام الليل الحالك وسينتهي دور النهار وضوئه الذي يعمي العيون فالغرق خير من الجنوح .. وسيكون ملك العواصف مبتهجا جدا ، جدا ، وكذلك ملك الموت والموناليزا ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى