أدب السجون عباس محمود العقاد - إلى قره مَيْدَان...

فتحت الكوة الصغيرة، ثم فتح باب الرتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المخفور الذي يعرف في مصلحة السجون باسم «سجن مصر العمومي» ويعرف على ألسنة الناس باسم «قره ميدان»؛ أي الميدان الأسود، باللغة التركية!

وخطر لي — وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن — قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:

دخولي باليقين بلا امتراءٍ وكل الشك في أمر الخروجِ
فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع! …

أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج متى يكون وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة، من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟

في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك؛ أي ضريح سعد زغلول.

•••

ولم تقع مني هذه الرحلة بين الدار والسجن موقع المفاجأة؛ لأنني كنت أنتظرها منذ زمن طويل ولو على سبيل الحجز الذي ينتهي بإفراج سريع، ولكني كنت لا أرى فرقًا بين أيام أو أسابيع أقضيها على ذمة التحقيق وبين مدة أقضيها في الحبس بحكم القضاء، لأنني كنت أُقَدِّر أن حبس التحقيق — وإن قصر — كاف لأن يصيبني بأكبر الضرر الذي يخشاه الناس من السجن، وهو ضرر العلة التي لا تزول.

وعلى توقعي الاتهام والحبس كانت الأنباء تتوالى عَلَيَّ بِمَا يؤكد ذلك التوقع من جهات عدة، وسمعت النبأ اليقين في هذا الأمر من صديقنا المغفور له سينوت حنا بك، وقد لقيني مرة فاستوقفني وقال لي: «حذار يا أستاذ!» فقلت له باسمًا: «لا يغني الحذر من القدر!» قال لي: «إني أروي لك ما أعلم لا ما أظن: إن مقالاتك تراجع في بعض الدوائر مراجعة خاصة، وإنهم ينتظرون يومًا معينًا ربما كتبت فيه ما يساعد على تأييد التهمة، ثم يقدمونك إلى المحاكمة بِمَا استجمعوا من أدلة قديمة وحديثة!»

وكان في نيتي أن أسافر صيف سنة ١٩٣٠ إلى لندن مع وفد مجلس النواب لتمثيل مصر في مؤتمر المجالس النيابية الذي عقد تلك السنة في العاصمة الإنجليزية، وقد استخرجت جواز السفر السياسي، واشتريت دليل لندن ودليل العواصم الأوروبية التي كنت أنوي زيارتها، ولم يبق إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بإخواننا الذين سبقونا إلى باريس ليشهدوا فيها الاحتفال بعيد الحرية، ثم بدا لي أنني إذا سافرت فقد أمهد بيدي وسيلة لنفيي في أوروبا سنوات بلا عمل، ولا قدرة على البقاء في ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتي أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهي بالبراءة أو بعقوبة لا ترضيها، فعدلت عن السفر في اللحظة الأخيرة، وقلت: إن السجن أحب من النفي الذي لا عمل فيه ولا ضمان للصحة ولا الحياة!

وفي اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر دق الجرس أصيلًا وأنا وحدي بالمنزل؛ لأن أخي كان معتقلًا في قضية «البلطة» المشهورة متهمًا بالتآمر على حياة رئيس الوزارة، ولأن الخادم لم يعد من راحته الظهرية وصلاته العصرية، ففتحت الباب فإذا ضابط في رتبة «اليوزباشي» على ما أذكر يبادرني بالسؤال: هل حضرتك فلان؟

قلت: نعم.

فمد إِلَيَّ ورقة من دفتر في يده على هيئة ذكرتني الكونت نيمور وهو يلقي القفاز في محضر لويس الحادي عشر.

قلت: «تفضل أولًا فاجلس.»

فتردد في الدخول، ثم دخل وجلس، فتناولت الورقة وقرأت فيها دعوة من صاحب السعادة النائب العمومي للحضور إلى مكتبه في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ووقعت على الدفتر — كما طلب الضابط — بأنني تسلمت الورقة، وأخذت في إعداد الكتب التي سأقرؤها في السجن، والأدوية التي أتعاطاها، والملابس البيتية التي أحتاج إليها هناك، وزدت فأعددت الأغطية الصوفية التي تلزمني للفراش والغطاء؛ لأنني كنت حتى تلك الساعة أجهل «تقاليد السجون»، وأظن أن الأغطية الخاصة مسموح بها كالملابس الخاصة أثناء التحقيق وفي الفترة التي تسبق المحاكمة. ثم حضر الطاهي فأريته هذه الأشياء كلها وقلت له: إنه سيحضرها لي في السجن غدًا عند اللزوم.

فظهر لي أنه لم يفهم، وأنه ينوي أن يقصد بها سجن الأجانب الذي كان أخي معتقلًا فيه.

فقلت له: «بل هي لي أنا في السجن الذي سيخبرونك عنه غدًا بدار النيابة!» ووصفت له الدار واجتهدت أن أفهمه جهد المستطاع، وذلك جهد يعرف العارفون بالشيخ «أحمد» أنه ليس باليسير!

وذهبت في الموعد المحدود إلى دار النيابة، واستغرق التحقيق ساعات، ثم قال لي حضرة المحقق: «إنني آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلًا يا أستاذ!» وبدأ حضرات المحامين يوجهون نظر رجال النيابة الحاضرين إلى «الحيطة الصحية» الواجبة في هذه الحالة، ومنها اختيار السجن الذي يوافقني أثناء الحبس «الاحتياطي» أكثر من سواه.

وكان الأساتذة المحامون لحسن الحظ من الخبيرين بمزايا سجون القاهرة التي تردد عليها في سنوات الثورة السياسية معظم المشتغلين بالقانون والسياسة، فأضافوا خبرتهم بالسجن إلى خبرتهم بالمحكمة وقدرتهم على النصح السديد للمتهمين والموكلين، واستحسنوا أن يكون الحبس في «سجن مصر»؛ لأن الجو فيه أوفق لي من سجن الاستئناف، وقد كان.

فذهبت مع الضابط والجند في سيارة خاصة إلى «قره ميدان» وتخطيت الباب فإذا هدوء غير مألوف؛ لأن الوقت كان وقت الراحة عقب الغداء، وتوجه بي الضابط نحو حجرة الكتاب لتسليم ما عندي من الودائع وكتابة الأوراق التي لا بد منها لكل مسجون جديد، وما هي إلا لحظة حتى توافد الموظفون وكثر دخول السجانين ينظرون إلى القادم الذي سرى بينهم نبأ قدومه، وأخذ كاتب هناك مرح ثرثارة يداعبهم واحدًا بعد واحد كلما مروا به وتصنعوا سؤاله عما يضمره لهم بريد اليوم. فيقول لأحدهم: «اطمئن … فقد عينوك مديرًا لمصلحة السجون …» ثم يحدج ببصره كَمَنْ يستغرب سكوته، ويقول له: «ألا تصدق؟ آه يا ابن الحلال. معذور، فإنك في السجن ولست في البيمارستان …»

أو يقول لغيره: «تعال هنا … قرب أذنك! قرب أيضًا» … ثم يناديه بصوت يسمعه كل مَنْ في المكان: «افرح … نقلوك إلى أسوان، لا تقل لأحد يا ولد!»

وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور إذ يغنون وهم في ذمار الموت!



---------------
(عالم السدود والقيود)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى