إلهام بورابة - نورس قنطرة.. قصة قصيرة

كنت قد أودعت بعض الأعشاش للنهر،أعشاش هشّة..لم أك أستطيع الهجرة بها إلى الجبال السبع حيث ألتقي بحاكمة الأهواء والشهقات والمعلّقات الكونية…كان عليّ أن أجازف،أمضي على قدمين ثقيلتين أطوي المساحات في وهمي ولا أعترف إلّا بلحظات التجلي إذ تغشاني نوبات البكاء دخّانا أبيض يتشكّل كالسديم..والرؤيا أصدّقها كحقيقة وحيدة للنشور.
مازلت أصدّقها هذه التي تحلّ فكرة قهرية كلما عدت إلى الجسر أمتحن رهابي من الأماكن العالية العالقة..رهابي من الأهواء…من الوقوع مخطوفة بأيدي النهر..فكيف أتجاوز هذا الرهاب بغير الجنون؟
لم أعد أذكر الشرطي الذي أخبرنا بحادثة الإنتحار لأني لم أصدّق أنّ الإرتفاع سبب كاف لأن نهوي فجأة إلى المنخفض…حضورك ذاك المساء في شكل الخيال كان كافيا لأن أصدّقك..قلت لي:”فكّيني أختي …ايدي الأحراش من النهر تطولني ،تجذبني..”
كنت شبه نائمة..قيلولة ؟لا،فات وقت القيلولة بقليل،لكن كنت متعبة وكان الصيف حارّا ثقيلا يسقط بكل ثقله علىّ قلقا ووهنا،والفراغ قاتل..كنت قد أنهيت دراستي وتخرّجت بتفوّق كما تمنّيتني هل تذكر؟
قلت لأبي:”سأدرس علم النفس حتى أفهم حسان وأستطيع أن أتكفّل به” وافقتني أنت وارتاح أبي واجتهدت أنا في سبيل ذلك.
كان العام الأخير لي في الجامعة ،يكاد الحلم أن يتحقق لكن حالتك ازدادت سوءا وكان علينا أن نحجزك في مشفى بني مسوس للصحة النفسية،كان الأمر صعبا لكنه الحل الوحيد.
مضى العام ثقيلا لكن تخرّجت بتفوّق،وكان شاقّا عليك لكنك تعافيت وعدت للبيت وها نحن معا نستعيد الحياة.
لكن ذلك اليوم كان حارّا جدّا ،قلت لي وأنا أردّ الباب خلفك:”سأعود بعد صلاة العصر..حضّري لي كعكا مع الحليب وسآتيك بما معي من نقود مثلّجات”
لم أك أحب أن أرفض،كان إعداد الكعك والفطائر تسليتي لذلك الصيف العنيد.
كنت شبه نائمة،لم يك مناما…كنت َتتشبّت بنتوء صخرة ورجلاك معلّقتان في الهواء ،كنت ُأسمع صرختك تشق صدري صخرتين…أرتمي ببعض جسدي إليك ولم ألحق.
لم ألحق…أكاد ألتحق بالهواء ،أكاد أسقط من عل …أفزع إلى اليقظة وأتركك وحيدا.
وحيدا مضيت…لم أرتبط بعد ذلك باليقظة قط…تلبّست الغشاوة…التخفي …انحدرت إلى الصحراء…إلى المنخفض كي لا أجرّب السقوط.
ذاك المساء،بعد اليقظة الخائنة ،أسمع طرقا على الباب.فزعت وأناأنتظر أن تكون الطارق..”لكنني لم أحضّر الكعك”.
أفتح الباب…شرطي؟
_بيت م /ب
_أجل،ما الخطب؟
_ناد أباك
_غير موجود
_أحدا غيره
_أمّي؟
اقتربت أمي ،جذبها الشرطي من طرف ثوبها ووشوش إليها…لكنّ سمعي حاذق وكأنّه كان مستعدا لتلقي الخبر:”مات منتحرا على قنطرة الأحبال”
أقال الشرطي ذلك أم تلقّفته كالطير من الهواء؟
لم أدر ما حدث بعد ذلك إلّا ليلا وأنا أستفيق من المخدّر على نحيب وجمع غفير من الناس والباب الذي هرعت لأفتحه لك كان مشرعا للمعزّين وللفضوليين وللأسئلة.
هذا ماساد البيت طيلة شهرين كاملين ثمّ همت في الصحراء ،في المنخفضات الآمنة…وداعا سيرتا فلترثك الغربان التي نهشت لحم أخي وما ورث التراب من جثته إلّا ما التقطه رجال الإنقاذ/الإنتشال.
وداعا سيرتا بلا حنين …بلا حنين.
…..
وتمضي السنون
كلّ سنة بزيّ جديد..بألم قديم
بحلّة الذكرى..
الذكرى،هذه الفكرة التي تحلّ قاهرة …وسواسا لا.
كيف لا أنتقم من الغرابيب…
الغراب الذي يعلم كيف يواري أخاه التراب ..يعرّي لحم أخي؟
أم غراب سيرتا ،الصالح الأسطورة…الذي اتخذ هيئة الغراب انتقاما من قدره؟
لا حيلة لي اليوم إلّا الجناح..
لن يسكن سيرتا الغراب
لا يد لسيرتا فيما فعل الغراب ولسيرتا بعضي فداء…كسبا للولاء
“لسيرتا يجب أن تكون النوارس…فذاك الأسود بها لا يليق”
تقول الفكرة القاهرة باسطة لي جناحي نورس
هنا أنا اليوم …أحوم حول ما تبقى منك أخي ولم يضمّه اللّحد
قطرة دم…قطعة لحم أتلفها الغراب…صرخة الصدمة
لن أعجز أن أواري أخي..
لي كلّ العراء…أرمّمه ..هنا صرختك أضمّها إلى صدري
دمك على الحجرات حرفي
قطع النقود التي كانت قيمتها تكفي فقط لمثلّج يقهر حرّ الصّيف هي كل الغيوم التي يبشّر بها النورس إذ حضر.



كاتبة جزائرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى