يطيب لي بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق اليوم الثامن عشر من شهر كانون الأوّل/ديسمبر (١٨-١٢) من كلّ عام أنّ أهدي هذه السطور الدّالة إلى الناطقين بالعربية ومحبّيها في كلّ مكان.
يُقصَدُ بالعربية هنا اللغة الفُصحى التي لا نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والإبداع الأدبيّ، وهي إحدى اللغات الساميّة التي يعود أقدمُ ما وصلنا منها إلى حوالي ألفي عام. غير أنّ اعتماد المنهج المقارن في دراسة اللغات الساميّة قد مكّن العلماء والباحثين من الوقوف على ظواهر لغوية عربية تسبق الشعر الجاهليّ بأكثر من ألفَي عام.
ويرى الدكتور( عمر فرّوخ ) أنّ اللغة العربية هي أقدم اللغات السامية التي مازالت تتمتّع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة..................
بالعودة إلى تناول العلاقة بين العرب والعربية قبل الإسلام فإنّنا نرى أنّه ليس من المبالغة في شيء القولُ بأنَّ عرب الجاهلية قد كانوا من أكثر الأقوام تعلّقاً بلغتهم وافتتاناً بها، وافتناناً بمناحي القول وضروب التعبير بها.
ولعلّه من المفيد أنْ نشير هنا إلى أنَّ مصطلَح (الجاهليّة) الذي أطلقه القرآن الكريم على العصر الذي سبق ظهور الإسلام، إنّما يدلُّ على الجهل، بما هو نقيضٌ للحِلم، وليس على الجهل، الذي هو نقيضٌ للعلم والمعرفة. ويرجع ذلك إلى الوثنية وإلى ما كان يصاحبها من مظالمَ ورذائلَ وتعدّيات سادت حياة العرب قبل الإسلام.....................................
لقد كان للّغة حضور طاغٍ في حياة عرب الجاهلية، ليس بوصفها وسيلة تعبير وتواصل اجتماعيّ فحسب؛ إذ إنّ هذا شأنُ جميع الأمم والشعوب مع لغاتها، لكنّه هذا الحضور الذي يوشك أن يهيمن على جماع حياتهم الحسية والشعورية، العقلية والعاطفية، الدينية والدنوية، الفردية والجماعية على حدٍّ سواء.
نلمسُ ذلك في طقوس الفرح والاحتفال التي تواكب نبوغ الشاعر في القبيلة؛ ذلك أنّه لسانها المعبّرُ عن مآثرها ومفاخرها، المدافعُ عن حُرُماتها والمتصدّي لأخصامها.
يقول ابن رشيق القيروانيّ في كتابه( العُمدة) مبيّناً ذلك:
" كانت القبيلة من العرب إذا نبغَ فيها شاعرٌ أتتْ القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبْنَ بالمزاهر، يتباشر الرجال والوِلدان.....وكانوا لا يُهنَّؤون إلّا بغلام يولَد أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"
فكأنّ نبوغ الشاعر في القبيلة -والحال كذلك- حدثٌ وجوديٌّ، كما هو الشأن مع ولادة الغلام ونتاج الخيل؛ إذ هما رمز للبقاء والقوّة.
لقد طبع الفخر والمديح والهجاء قسماً كبيراً من شِعر الشاعر الجاهليّ، أي من نشاطه اللغويّ-الاجتماعيّ؛ حيث كانت القبيلة-أي المجتمع- دائمة الحضور في فنون القول، لا نستثني من ذلك أحداً من الشعراء، حتّى الشعراء الصعاليك، الذين خرجوا على القبيلة وتمرّدوا على أعرافها وعاداتها وتقاليدها، تحقيقاً لمبدأ العدل والمساواة، كما يرَون.
فهذا الشاعر الفارس( عروة بن الورد) الملقَّب بعروة الصعاليك لقيامه على شؤونهم يردُّ على أحد سادات قومه الذي عيّره بشحوبه وهزاله، معلّلاً ذلك بقيامه بشأن الفقراء والمعوزين من أمثاله.
يقول في ذلك:
-إنّي امرؤ عافي إنائيَ شِركةٌ
وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
-أتهزأ منّي أنْ سَمِنْتَ، وأنْ ترى
بوجهي شحوبَ الحقّ، والحقُّ جاهدُ
-أقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراحَ الماء، والماءُ باردُ
أي أنّ مَرَدَّ ما مسّه من نَصَب وشحوب وهُزال إنّما يرجع إلى اقتسامه لطعامه مع الآخرين، فكأنّه يقطع لهم من جسمه، وذلك على النقيض من ذلك( السيّد ) الذي سَمِنَ من كثرة ما يأكل مُغفلاً في الآن ذاته نصيب قومه وحقوقهم .
وهكذا مثّلَ شعرُ الصعاليك ظاهرة لغوية اجتماعية في آنٍ واحد.
ويقابل الابتهاجُ بظهور الشاعر الخوفَ ممّا قد تتعرّض له القبيلة أو بعض أفرادها من شعراء القبائل الأخرى المناوئة لهم؛ إنّه الخوف ممّا قد يجلبه الهجاء- أي اللغة -من شرٍّ وشؤم. وهنا نلامس ذلك الارتباط القائم في شعور أو لا شعور عرب الجاهلية بين( فنّ القول ) و( فنّ السِّحر ) فكلاهما، في ظنّهم ، ذو تأثير مخيف يجدر بهم أنْ يتّقوه؛ فما يتلفّظ به الشاعر أو يتمتمُ به الساحر يتّفقان أثراً، وإنْ اختلفا مظهراً.
يقول الجاحظ في ذلك: " وقالوا في التحذير من ميسم الشعر ومن شدّة وقْع اللسان ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجوّ. قال امرؤ القيس:
-ولو عن نثا غيره جاءني
وجرْح اللسانِ كجرح اليدِ
وقال طَرَفةُ بن العَبد:
-رأيتُ القوافيَ يتَّلِجْنَ موالِجاً
تَضايَقُ عنها أنْ تولَّجها الإبَر
ولم يتوقّف الأمرُ عند هذا الحدّ، بل لقد كان من المألوف أنْ يُنظَرَ إلى الإبداع الشعري بوصفه ظاهرة خارقة يقوم الجِنّ والشياطين فيها بإلهام الشاعر فنون القريض.
يقول الشاعر المخضرَمُ ( الحُصين بن الحِمام المرّيّ ) مفاخراً بقدراته الشعرية التي أتاحت له الانتشار في الآفاق مثيرة التساؤلات عن شخص قائلها:
-وقافيةٍ غير إنسيّةٍ
قرضْتُ من الشِّعر أمثالها
-شرودٌ تلمعُ في الخافقين
إذا أُنشِدتْ قيلَ: مَن قالها؟
هذا، ولم يقتصر الأمر على الشعر وحده، بل إنّ احتفاء عرب الجاهلية بفنون القول قد امتدَّ ليطال فنون النَّثر من خطبٍ وحِكمٍ وأمثال؛ إذ كان الشاعر والخطيب كفرَسَي رِهان يتبادلان مواقع الحظوة والشرف لدى القبيلة؛ ذلك أنّها كانت في حاجة إليهما معاً، إلّا أنّ كثرة عدد الشعراء وانغماس كثير منهم في التّكسّب والارتزاق وإسراعهم إلى أعراض الناس أعلى من مكانة الخطيب لدى القبائل.
يقول الجاحظ في ذلك:
" وكان الشاعر أرفعَ قدْراً من الخطيب وهم إليه أحوجُ لردّه مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيّامهم، فلمّا كثُر الشعراء صار الخطيبُ أعظمَ قدراً من الشاعر"
جُملة القول في ذلك: إنّ حضور العربية في مجتمع عرب الجاهلية حضورٌ كُلّيّ، يبدأ من تفاصيل حياتهم اليومية الصغرى، ثمّ لا يني يمتدُ ليطال جوهر حياتهم ذاتها في بعدها الوجودي.
جاء الإسلامُ، والعربيةُ القُرشيّة الفُصحى هي لغةُ القوم الأدبية والرسميّة التي يعتمدونها في نِتاجهم الأدبي، والشِّعريّ أوّلُه، وفي علاقات القبائل فيما بينها. وممّا لا ريبَ فيه أنّ هذه العربية الفصحى كانت قد قطعت مسيرةً طويلة من التهذيب والتّشذيب والاصطفاء اللغوي، فاستوت بذلك على عودها لغة راقيةً مكتملة العُدّة والعتاد: أصواتاً وتراكيب ودلالات وأساليباً في التعبير.
يقول الدكتور صبحي الصالح في ذلك:
" اصطنع العربُ لغة قريش للتّفنّن في القول، والإبانة في التعبير، فدلَّ استصفاؤهم إيّاها على أنّها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعتْ أرشقَه، واعتمدتْ أصفاه، فكان حقّاً ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم من أنّ أهمّ مزيّة للعربية حفِظتْ لها شخصيّتها بين أخواتها الساميّات إنّما هي عُزلتُها عن الشعوب الأعجميّة، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتيّة على التعبير، وعلى التّمثُّل والتّولّد وعلى التّخيّر والانتقاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها."
ثمَّ كان نزول القرآن الكريم بلسانها، بوصفه معجزة النبيّ الكبرى، تكريساً وتكريماً لهذه اللغة من جانب، وتحدّياً لأصحابها الناطقين بأصواتها، والمدِلّين ببيانها، من جانبٍ آخَر. فكان هذا الكتاب السماويّ أقدمَ
وثيقة مكتوبة وصلتْ إلينا من هذه اللغة.
إنّ استشعار العرب لشخصيّتهم وكيانهم ظلّ ناقصاً وقلقاً لا يجدُ معادله اللغويّ، حتى جاء القرآن الكريم فأكملَ النقص، وبدّد القلق في معرِض دحضه لتخرّصات المشركين، فوصفَ النبيّ (بالعربيّ ) وصفاً يدلّ على الانتماء ويحدّده.
جاء في سورة (فُصّلتْ) الآية، ٢١
" ولو جعلناهُ قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصِّلَتْ آياتُه، أأعجميٌّ وعربيّ"
أي: أكتابٌ أعجميٌّ، ونبيٌّ عربيّ؟
إنّنا لن ندرك قيمة هذه الدلالة القرآنية في تحديد الشخصية العربية إلّا إذا عرفنا أنّ الشِّعر الجاهليّ الذي وصل إلينا قد خلا من لفظَيّ( عربيّ وعربيّة ) للتدليل على الانتماء العِرقيّ في الأول، وعلى اللغة، في اللفظ الثاني.
ويُعلّل الدكتور عمر فرّوخ ذلك بقوله:
" لقد كان الجاهليون غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم، فيما لدينا من التراث اللغوي، ما يدلُّ على المُدرَك القوميّ الجامع" .
فعندما استشعرَ شاعرُهم عنترةُ العبسيّ انتماءه القوميّ في مواجهة الفُرْس لم يجد الكلمة التي تعبّر عنه، فاضطرَّ إلى الدَّوَران حول المعنى ببيت كامل من الشعر، حيث يقول:
شربتْ بماءِ الدُّحرُضَين فأصبحتْ
زوراءَ تنفُرُ عن حِياضِ الدَّيلَمِ
لقد أسقطَ عنترةُ شعوره بالانتماء لقومه من العرب وكراهيته للفُرْس-الدّيلَم- على ناقته، فجعلها تزوَّرُ عن مياههم.
أجل، لقد حدّد القرآن الكريم بلفظ (عربيّ) المعادِل اللغويّ لانتماء النبيّ الكريم لقومه من قريش، لكنّهُ تحديدُ وصفٍ، لا تحديد قيمة؛ فالمعيار الإسلاميّ الوحيد للتفاضل بين الناس- كما هو معلوم - إنّما هو التقوى، وليس الانتماء لهذا العِرق أو ذاك.
جاء في سورة (الحُجرات، الآية ٢٤)
" إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
بل لعلّنا لا نغالي في شيء عندما نقول إنّ الإسلام قد ذهب أبعدَ وأعمقَ من ذلك بكثير عندما أعاد تحديد مفهوم العروبة والعربيّ، وذلك بتقويضه للفهم العِرقيّ وتأسيسه للفهم العَقَديّ لهما، متوسّلاً إلى ذلك بالبُعد اللغويّ، فأخذتْ العربية وِفاقاً لهذا المنظور أبعاداً إنسانية جديدة في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد.
نشير في هذا السياق إلى ما رواه الرواة من أنّ النبيّ الكريم قد غضب عندما تناهى إلى سمعه أنّ أحدهم قد نال من الأصل العِرقيّ لسلمان الفارسي، فدخل المسجد وقال:
" أيُّها الناس إنّ الربّ واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، إنّما هي اللسان، فمن تكلّم العربيّة فهو عربيّ" .
نحن إذاً أمام تبدّل جوهريّ لمفهوم الأمّة واللغة، لمدلول العرب والعربية في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد..
فكأنّ القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية لإثباتها ولتجاوزها في الآن ذاته، لتكريم العرب ولتحدّيهم في الوقت عينه. من هنا نشأت ظاهرة الإعجاز القرآنيّ..............................
وبفضل هذا القرآن تحوّلت العربية من لغة مجتمع قبليّ محدود ومخصوص إلى لغة حضارة إنسانية شاملة تتّسع للتعبير، من خلال أصواتها ومفاهيمها ووسائلها التعبيرية عن جميع الشعوب والأقوام التي انضوت تحت لواء الإسلام.
إنّ اللغة تحدّد وتصوغ فهمنا وتصوّرنا للعالَم المحيط بنا بكلّ أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إذاً: إنّ القرآن الكريم، بصياغته الجديدة لمدلولَي العرب والعربيّة، قد أعاد تشكيل وصياغة وعي العرب بالعالم والكون من حولهم.
وكما لاحظ الدكتور محمود حجازي بحقّ فإنّ انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام قد أدّى إلى تغيّر الحدود الجغرافية للمنطقة العربية تغيّراً حاسماً؛ حيث امتدت هذه الحدود لتشمل بلاد الشام والعراق وقسماً من بلاد فارس في الشرق الآسيويّ، بالإضافة إلى مصر والنوبة والسودان ودول شمال إفريقيا، التي باتتْ تُعرَف بدول المغرب العربيّ، ناهيك عن المؤثّرات العربية الواضحة في الدول الإفريقية الواقعة جنوب دول المغرب العربيّ.
هكذا غدتْ العربيةُ اللسانَ المعبّرَ عن الحضارة الإسلامية الناشئة بكل أبعادها الدينية والدنيوية.
فكان على اللغة العربية، والحال كذلك، أن تستنفرَ جميع طاقاتها الظاهرة والكامنة للوفاء بحقوق هذه المسؤولية الضخمة التي ألقاها الإسلام على عاتقها، فأصبح القرآن الكريم هو البؤرة اللغوية والمعرفية التي انبثقتْ عنها جميع الجهود العلمية والثقافية التي تضافرتْ على بذلها جميع الشعوب التي انصهرتْ في بوتقة الإسلام.
............................................
نخلصُ من ذلك إلى أنّ اللغة العربية قد اكتسبتْ بفضل الإسلام وكتابه الخالد القرآن ماهيّة حضاريّة جديدة أهّلتها للتعبير الشامل والعميق عن حياة هذا المجتمع الجديد بكلّ عناصره ومكوّناته العِرقية والمعرفية والثقافية.
د. زياد العوف
يُقصَدُ بالعربية هنا اللغة الفُصحى التي لا نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والإبداع الأدبيّ، وهي إحدى اللغات الساميّة التي يعود أقدمُ ما وصلنا منها إلى حوالي ألفي عام. غير أنّ اعتماد المنهج المقارن في دراسة اللغات الساميّة قد مكّن العلماء والباحثين من الوقوف على ظواهر لغوية عربية تسبق الشعر الجاهليّ بأكثر من ألفَي عام.
ويرى الدكتور( عمر فرّوخ ) أنّ اللغة العربية هي أقدم اللغات السامية التي مازالت تتمتّع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة..................
بالعودة إلى تناول العلاقة بين العرب والعربية قبل الإسلام فإنّنا نرى أنّه ليس من المبالغة في شيء القولُ بأنَّ عرب الجاهلية قد كانوا من أكثر الأقوام تعلّقاً بلغتهم وافتتاناً بها، وافتناناً بمناحي القول وضروب التعبير بها.
ولعلّه من المفيد أنْ نشير هنا إلى أنَّ مصطلَح (الجاهليّة) الذي أطلقه القرآن الكريم على العصر الذي سبق ظهور الإسلام، إنّما يدلُّ على الجهل، بما هو نقيضٌ للحِلم، وليس على الجهل، الذي هو نقيضٌ للعلم والمعرفة. ويرجع ذلك إلى الوثنية وإلى ما كان يصاحبها من مظالمَ ورذائلَ وتعدّيات سادت حياة العرب قبل الإسلام.....................................
لقد كان للّغة حضور طاغٍ في حياة عرب الجاهلية، ليس بوصفها وسيلة تعبير وتواصل اجتماعيّ فحسب؛ إذ إنّ هذا شأنُ جميع الأمم والشعوب مع لغاتها، لكنّه هذا الحضور الذي يوشك أن يهيمن على جماع حياتهم الحسية والشعورية، العقلية والعاطفية، الدينية والدنوية، الفردية والجماعية على حدٍّ سواء.
نلمسُ ذلك في طقوس الفرح والاحتفال التي تواكب نبوغ الشاعر في القبيلة؛ ذلك أنّه لسانها المعبّرُ عن مآثرها ومفاخرها، المدافعُ عن حُرُماتها والمتصدّي لأخصامها.
يقول ابن رشيق القيروانيّ في كتابه( العُمدة) مبيّناً ذلك:
" كانت القبيلة من العرب إذا نبغَ فيها شاعرٌ أتتْ القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبْنَ بالمزاهر، يتباشر الرجال والوِلدان.....وكانوا لا يُهنَّؤون إلّا بغلام يولَد أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"
فكأنّ نبوغ الشاعر في القبيلة -والحال كذلك- حدثٌ وجوديٌّ، كما هو الشأن مع ولادة الغلام ونتاج الخيل؛ إذ هما رمز للبقاء والقوّة.
لقد طبع الفخر والمديح والهجاء قسماً كبيراً من شِعر الشاعر الجاهليّ، أي من نشاطه اللغويّ-الاجتماعيّ؛ حيث كانت القبيلة-أي المجتمع- دائمة الحضور في فنون القول، لا نستثني من ذلك أحداً من الشعراء، حتّى الشعراء الصعاليك، الذين خرجوا على القبيلة وتمرّدوا على أعرافها وعاداتها وتقاليدها، تحقيقاً لمبدأ العدل والمساواة، كما يرَون.
فهذا الشاعر الفارس( عروة بن الورد) الملقَّب بعروة الصعاليك لقيامه على شؤونهم يردُّ على أحد سادات قومه الذي عيّره بشحوبه وهزاله، معلّلاً ذلك بقيامه بشأن الفقراء والمعوزين من أمثاله.
يقول في ذلك:
-إنّي امرؤ عافي إنائيَ شِركةٌ
وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
-أتهزأ منّي أنْ سَمِنْتَ، وأنْ ترى
بوجهي شحوبَ الحقّ، والحقُّ جاهدُ
-أقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراحَ الماء، والماءُ باردُ
أي أنّ مَرَدَّ ما مسّه من نَصَب وشحوب وهُزال إنّما يرجع إلى اقتسامه لطعامه مع الآخرين، فكأنّه يقطع لهم من جسمه، وذلك على النقيض من ذلك( السيّد ) الذي سَمِنَ من كثرة ما يأكل مُغفلاً في الآن ذاته نصيب قومه وحقوقهم .
وهكذا مثّلَ شعرُ الصعاليك ظاهرة لغوية اجتماعية في آنٍ واحد.
ويقابل الابتهاجُ بظهور الشاعر الخوفَ ممّا قد تتعرّض له القبيلة أو بعض أفرادها من شعراء القبائل الأخرى المناوئة لهم؛ إنّه الخوف ممّا قد يجلبه الهجاء- أي اللغة -من شرٍّ وشؤم. وهنا نلامس ذلك الارتباط القائم في شعور أو لا شعور عرب الجاهلية بين( فنّ القول ) و( فنّ السِّحر ) فكلاهما، في ظنّهم ، ذو تأثير مخيف يجدر بهم أنْ يتّقوه؛ فما يتلفّظ به الشاعر أو يتمتمُ به الساحر يتّفقان أثراً، وإنْ اختلفا مظهراً.
يقول الجاحظ في ذلك: " وقالوا في التحذير من ميسم الشعر ومن شدّة وقْع اللسان ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجوّ. قال امرؤ القيس:
-ولو عن نثا غيره جاءني
وجرْح اللسانِ كجرح اليدِ
وقال طَرَفةُ بن العَبد:
-رأيتُ القوافيَ يتَّلِجْنَ موالِجاً
تَضايَقُ عنها أنْ تولَّجها الإبَر
ولم يتوقّف الأمرُ عند هذا الحدّ، بل لقد كان من المألوف أنْ يُنظَرَ إلى الإبداع الشعري بوصفه ظاهرة خارقة يقوم الجِنّ والشياطين فيها بإلهام الشاعر فنون القريض.
يقول الشاعر المخضرَمُ ( الحُصين بن الحِمام المرّيّ ) مفاخراً بقدراته الشعرية التي أتاحت له الانتشار في الآفاق مثيرة التساؤلات عن شخص قائلها:
-وقافيةٍ غير إنسيّةٍ
قرضْتُ من الشِّعر أمثالها
-شرودٌ تلمعُ في الخافقين
إذا أُنشِدتْ قيلَ: مَن قالها؟
هذا، ولم يقتصر الأمر على الشعر وحده، بل إنّ احتفاء عرب الجاهلية بفنون القول قد امتدَّ ليطال فنون النَّثر من خطبٍ وحِكمٍ وأمثال؛ إذ كان الشاعر والخطيب كفرَسَي رِهان يتبادلان مواقع الحظوة والشرف لدى القبيلة؛ ذلك أنّها كانت في حاجة إليهما معاً، إلّا أنّ كثرة عدد الشعراء وانغماس كثير منهم في التّكسّب والارتزاق وإسراعهم إلى أعراض الناس أعلى من مكانة الخطيب لدى القبائل.
يقول الجاحظ في ذلك:
" وكان الشاعر أرفعَ قدْراً من الخطيب وهم إليه أحوجُ لردّه مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيّامهم، فلمّا كثُر الشعراء صار الخطيبُ أعظمَ قدراً من الشاعر"
جُملة القول في ذلك: إنّ حضور العربية في مجتمع عرب الجاهلية حضورٌ كُلّيّ، يبدأ من تفاصيل حياتهم اليومية الصغرى، ثمّ لا يني يمتدُ ليطال جوهر حياتهم ذاتها في بعدها الوجودي.
جاء الإسلامُ، والعربيةُ القُرشيّة الفُصحى هي لغةُ القوم الأدبية والرسميّة التي يعتمدونها في نِتاجهم الأدبي، والشِّعريّ أوّلُه، وفي علاقات القبائل فيما بينها. وممّا لا ريبَ فيه أنّ هذه العربية الفصحى كانت قد قطعت مسيرةً طويلة من التهذيب والتّشذيب والاصطفاء اللغوي، فاستوت بذلك على عودها لغة راقيةً مكتملة العُدّة والعتاد: أصواتاً وتراكيب ودلالات وأساليباً في التعبير.
يقول الدكتور صبحي الصالح في ذلك:
" اصطنع العربُ لغة قريش للتّفنّن في القول، والإبانة في التعبير، فدلَّ استصفاؤهم إيّاها على أنّها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعتْ أرشقَه، واعتمدتْ أصفاه، فكان حقّاً ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم من أنّ أهمّ مزيّة للعربية حفِظتْ لها شخصيّتها بين أخواتها الساميّات إنّما هي عُزلتُها عن الشعوب الأعجميّة، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتيّة على التعبير، وعلى التّمثُّل والتّولّد وعلى التّخيّر والانتقاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها."
ثمَّ كان نزول القرآن الكريم بلسانها، بوصفه معجزة النبيّ الكبرى، تكريساً وتكريماً لهذه اللغة من جانب، وتحدّياً لأصحابها الناطقين بأصواتها، والمدِلّين ببيانها، من جانبٍ آخَر. فكان هذا الكتاب السماويّ أقدمَ
وثيقة مكتوبة وصلتْ إلينا من هذه اللغة.
إنّ استشعار العرب لشخصيّتهم وكيانهم ظلّ ناقصاً وقلقاً لا يجدُ معادله اللغويّ، حتى جاء القرآن الكريم فأكملَ النقص، وبدّد القلق في معرِض دحضه لتخرّصات المشركين، فوصفَ النبيّ (بالعربيّ ) وصفاً يدلّ على الانتماء ويحدّده.
جاء في سورة (فُصّلتْ) الآية، ٢١
" ولو جعلناهُ قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصِّلَتْ آياتُه، أأعجميٌّ وعربيّ"
أي: أكتابٌ أعجميٌّ، ونبيٌّ عربيّ؟
إنّنا لن ندرك قيمة هذه الدلالة القرآنية في تحديد الشخصية العربية إلّا إذا عرفنا أنّ الشِّعر الجاهليّ الذي وصل إلينا قد خلا من لفظَيّ( عربيّ وعربيّة ) للتدليل على الانتماء العِرقيّ في الأول، وعلى اللغة، في اللفظ الثاني.
ويُعلّل الدكتور عمر فرّوخ ذلك بقوله:
" لقد كان الجاهليون غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم، فيما لدينا من التراث اللغوي، ما يدلُّ على المُدرَك القوميّ الجامع" .
فعندما استشعرَ شاعرُهم عنترةُ العبسيّ انتماءه القوميّ في مواجهة الفُرْس لم يجد الكلمة التي تعبّر عنه، فاضطرَّ إلى الدَّوَران حول المعنى ببيت كامل من الشعر، حيث يقول:
شربتْ بماءِ الدُّحرُضَين فأصبحتْ
زوراءَ تنفُرُ عن حِياضِ الدَّيلَمِ
لقد أسقطَ عنترةُ شعوره بالانتماء لقومه من العرب وكراهيته للفُرْس-الدّيلَم- على ناقته، فجعلها تزوَّرُ عن مياههم.
أجل، لقد حدّد القرآن الكريم بلفظ (عربيّ) المعادِل اللغويّ لانتماء النبيّ الكريم لقومه من قريش، لكنّهُ تحديدُ وصفٍ، لا تحديد قيمة؛ فالمعيار الإسلاميّ الوحيد للتفاضل بين الناس- كما هو معلوم - إنّما هو التقوى، وليس الانتماء لهذا العِرق أو ذاك.
جاء في سورة (الحُجرات، الآية ٢٤)
" إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
بل لعلّنا لا نغالي في شيء عندما نقول إنّ الإسلام قد ذهب أبعدَ وأعمقَ من ذلك بكثير عندما أعاد تحديد مفهوم العروبة والعربيّ، وذلك بتقويضه للفهم العِرقيّ وتأسيسه للفهم العَقَديّ لهما، متوسّلاً إلى ذلك بالبُعد اللغويّ، فأخذتْ العربية وِفاقاً لهذا المنظور أبعاداً إنسانية جديدة في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد.
نشير في هذا السياق إلى ما رواه الرواة من أنّ النبيّ الكريم قد غضب عندما تناهى إلى سمعه أنّ أحدهم قد نال من الأصل العِرقيّ لسلمان الفارسي، فدخل المسجد وقال:
" أيُّها الناس إنّ الربّ واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، إنّما هي اللسان، فمن تكلّم العربيّة فهو عربيّ" .
نحن إذاً أمام تبدّل جوهريّ لمفهوم الأمّة واللغة، لمدلول العرب والعربية في إطار المجتمع الإسلاميّ الجديد..
فكأنّ القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية لإثباتها ولتجاوزها في الآن ذاته، لتكريم العرب ولتحدّيهم في الوقت عينه. من هنا نشأت ظاهرة الإعجاز القرآنيّ..............................
وبفضل هذا القرآن تحوّلت العربية من لغة مجتمع قبليّ محدود ومخصوص إلى لغة حضارة إنسانية شاملة تتّسع للتعبير، من خلال أصواتها ومفاهيمها ووسائلها التعبيرية عن جميع الشعوب والأقوام التي انضوت تحت لواء الإسلام.
إنّ اللغة تحدّد وتصوغ فهمنا وتصوّرنا للعالَم المحيط بنا بكلّ أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إذاً: إنّ القرآن الكريم، بصياغته الجديدة لمدلولَي العرب والعربيّة، قد أعاد تشكيل وصياغة وعي العرب بالعالم والكون من حولهم.
وكما لاحظ الدكتور محمود حجازي بحقّ فإنّ انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام قد أدّى إلى تغيّر الحدود الجغرافية للمنطقة العربية تغيّراً حاسماً؛ حيث امتدت هذه الحدود لتشمل بلاد الشام والعراق وقسماً من بلاد فارس في الشرق الآسيويّ، بالإضافة إلى مصر والنوبة والسودان ودول شمال إفريقيا، التي باتتْ تُعرَف بدول المغرب العربيّ، ناهيك عن المؤثّرات العربية الواضحة في الدول الإفريقية الواقعة جنوب دول المغرب العربيّ.
هكذا غدتْ العربيةُ اللسانَ المعبّرَ عن الحضارة الإسلامية الناشئة بكل أبعادها الدينية والدنيوية.
فكان على اللغة العربية، والحال كذلك، أن تستنفرَ جميع طاقاتها الظاهرة والكامنة للوفاء بحقوق هذه المسؤولية الضخمة التي ألقاها الإسلام على عاتقها، فأصبح القرآن الكريم هو البؤرة اللغوية والمعرفية التي انبثقتْ عنها جميع الجهود العلمية والثقافية التي تضافرتْ على بذلها جميع الشعوب التي انصهرتْ في بوتقة الإسلام.
............................................
نخلصُ من ذلك إلى أنّ اللغة العربية قد اكتسبتْ بفضل الإسلام وكتابه الخالد القرآن ماهيّة حضاريّة جديدة أهّلتها للتعبير الشامل والعميق عن حياة هذا المجتمع الجديد بكلّ عناصره ومكوّناته العِرقية والمعرفية والثقافية.
د. زياد العوف