سفر: المجاعة
لا مفر.. عُدتُ إلى القطار الفاخر بمشاعري، بحسي وأحاسيسي، رغم أني لم أبرحه بجسدي. كيف أبرحه وهو لا يتوقف، إنه قطار سريع لا يعرف إلا محطة البداية ومحطة النهاية؟ ربما يرفض أهل الوسط يقول لهم وهو يمر عليهم مسرعًا أنتم لستم من وسطي، أنتم دوني.. لا أدري هل كان ذلك شططًا مني... وفي القطار أيضًا وجدت الأستاذ مرزوق الطرابلسى الصحفي نصف الشهير، عموده الأسبوعي في الجريدة المعارضة كان كفيلاً بأن يرهب بعض المسئولين الذين عملت معهم فحصل منهم على تأشيرات بإرجاء تنفيذ قرارات الإزالة وكان الثمن معروفًا بحجم العمارة وحجم المخالفة، إما شقة وإما حسبة مائة ألف، وإن غضب على المسئول كتب عنه وعن تفشي ظاهرة البناء المخالف في الإسكندرية عروس البحر المتوسط.. حينما رآني للأمانة لم يتجاهلني، سلم عليّ «أخبارك إيه؟ واحشني»، تبادلنا التحيات والسلام، كان ذاهبًا إلى العربة الثانية ربما كان في سبيله لإنهاء صفقة من صفقاته والقطار مسرع ينهب الأرض نهبًا في اتجاهه نحو العاصمة، أما هو فأكيد كان يجهز لنهب جيب جديد من جيوب رجال المال الملوث بجوع الغلابة والمسروق من عرقهم وكدهم مما يطلقون عليهم زورًا رجال الأعمال، سوقه الآن أصبحت رائجة، يقولون إن أمثاله أسقطوا عدة وزراء ومحافظين، الدولة أصبحت هشة؛ «أيّ شوية كلام يقعَّدوا أتخن تخين في بيت أمه»، هذا ما قاله لي عبده الحلاق وأنا أصغي إليه في تمعن، «أُمّال إيه يا بيه، نهار أبوه أسود اللي يتعمل عنه حلقة في برنامج الأستاذ لؤي أو الأستاذة هميس ولا الأستاذ أحمد عيسى، إنتَ مش في الدنيا يا باشا؟»، أجبته «والله يا عم عبده إنت طول عمرك بتحب السياسة»، عاجلني: «بنتعلم منك، بس يظهر نفسك مسدودة اليومين دول»، قلت له «والله أنا بطلت ما عدا الكورة حتى قرفت من الكورة بعد ما لطخها الدم ومحدش بيحاسب حد».
سمعت حديثًا من الجالسين خلفي، كانت سيدة عجوزًا يبدو أنها في السبعين كانت في صحبة ابنتها، تكلمتا عن الغلاء، تعجبت السيدة مما تراه واندهشت بشدة أن يصل كيلو اللحم إلى مائة وستين جنيهًا والبوفتيك مائة وتسعين جنيهًا.. قالت ابنتها ضاحكة «سيصل إلى مائتين جنيه في رمضان، رمضان باقي عليه أسبوعين»، تندرت ابنتها أنها أصبحت تعطي لابنها مصروفًا خمسين جنيهًا في اليوم وهو ما زال في أولى إعدادي. ضحكت جدته «ولا يهمك متزعليش الولد ده اسمه على اسم أبوك الله يرحمه».
كنت أود أن ألتفت لهما وأقول لهما إنني أعرف بشرًا لم يتذوقوا اللحم منذ أكثر من عشر سنين، والبعض الآخر لا يعرفها إلا في أيام العيد حينما تحنو عليهم يد سخية امتلأ قلبها بالرحمة. تناولتا قائمة السلع باستغراب حتى العدس أصبح بخمسة وثلاثين جنيهًا، قاطعتها الأم «ربنا يستر والناس لا تأكل بعضها»، تعجبت البنت وتساءلت: «ممكن يحصل ده؟»، سكتت السيدة العجوز، أما أنا فرجعت بذاكرتي خطوات لكتاب قرأته وبأمانة من مكتبة الأسرة التي كانت تشرف عليها سوزان مبارك ثمنه الحقيقي لا يقل عن خمسين جنيهًا اشتريته مخفضًا بخمسة جنيهات، لِمَ لا، لقد حدث في مصر في غير مرة، أكل البشر لحم البشر، أبرزها الشدة المستنصرية هل هي فعلاً على الأبواب؟ ممكن؛ خاصة أن المقريزي ذكر السبب بوضوح والسبب موجود الآن، يقول المقريزي إن السبب الأول هو هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال بحيث لا يمكن أن تصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغٍ إلى ما كان يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة لتوصله بأحد حواشي السلطان.
ممكن يا سيدي لكن الواسطة ومجاملة الأقارب والمعارف وعلاقات البزنس أيضًا تدخل تحت باب الرشوة، أكيد أيضًا كانت موجودة وداء في هذا العصر كما هي الآن وتبادل المصالح غير الشريفة والعلاقات الآثمة، أكيد أن الغواني كان لهن سلطة كبرى على المماليك الشجعان حينما يتجردون من ملابسهم يتأهبون لنيل رغبة مكتومة وعشق جسد اشتعلت فيه نار الشهوة بقدر استعارها يضعف الأمير ويصغر الكبير، أكيد كان من السهل أن يوقع على فرمان صعود أحد أو إقصاء هذا أو منح عطايا لذاك وتقبض الغانية ثمن ما أنجب فراش العشق وما طرحت ليالي الهوى من ثمار، أكيد أن وقائع ما جرى في رائعة نجيب محفوظ «القاهرة 30» تكرر في عصر المستنصر وغيره من المستنصرين في كل زمن لكنك ربما خجلت من ذلك يا مقريزي، أكيد أيضًا أنه موجود الآن مثلما وُجد في عهد ناصر، السادات، مبارك.
أشم فيك يا مقريزي رائحة المعارضة وإن كان كلامك صوابًا يمكن أن تكون ممولاً من الخارج أو عضوًا في جمعيات حقوق البشر التي لا تتكلم إلا عن حقوق الأفندية والمثقفين وتنسى الجوعى والعراة والمرضى، لم تشنف آذاننا بشيء عن التأمين الصحي، طابور التموين، غلاء اللحم والسمك، واختفاء الوز والبط، فقط تتحدث عن مصادرة كتاب فلان وحبس الصحفي علان.. أما الإنسان النكرة البشر بدون أداة تعريف أو مضاف إليه لا أحد من حضراتهم وضعه في خاطره أو في مقالاته الرنانة وبرامج التلفاز ضمن قائمة حديثه المنمق وكلماته الأخاذة المؤثرة تدمي عين السامع وينخلع لها لبه فيهلل الحمد الله أن الوطن أنجب أمثال هؤلاء.
أخشى يا مقريزي، والله أعلم، أنك قريب منهم، أنت ضد النظام للحقيقة وبلا مجاملة المقريزي ينسى الرعية ويلقي عصاه على ظهر الرعاة ربما كان معارضًا ينتمي إلى فصيل معادٍ للمستنصر، الشعب أيها المؤرخ العظيم أكيد له دور، الشعب لم يكن يعمل، شعب من الكسالى مثلما هو الآن وإن عمل لم يخلص، الشعب أدمن ببرونة الاشتراكية التي أرضعه منها عبدالناصر حتى أدمن، لم يعد يقوى على العمل، باع طين الأرض ليصبح طوبًا للعمائر وقصور الأغنياء، داس لقمة العيش، نهب المصنع حين أصبح رئيسًا له تحول إلى خردة، بيع وطارت فلوسه كما تطير العصافير من قبضة اليد ولم تبقَ، كما لو هبت الريح فكنست أوراقًا متناثرة لشجرة ذابلة على أرض الوطن الموجع.. الشعب أيضًا يحب السادات (اسرق كما تشاء واترك الجميع يسرق)... الشعب أيضًا يحب مبارك (بيع وظيفتك بقدر ما تستطيع وأَنْهِ عملك بمقابل، اغلق المدرسة وانقل التعليم في البيت واحصل على المقابل)، الدولة تحولت إلى متفرج وأكبر مشاهد للحدث، الدولة الغائبة مهمة حتى تسير الأمور، لكي يرضى الجميع بحاله، أيها المؤرخ العظيم.. نسيت ولم تُشِر لصنيع الرعية واستغلال البعض لسلطاته وسرقة المال العام وبيع الوظائف والخدمات العادية للأهالي، وعدم العمل بإخلاص إضافة إلى الجشع وعدم سداد الضرائب أو إخراج الزكاة إلا ما ندر من الفلاحين وما ندر من الذين يكنزون أموالهم.. يبدو صعبًا أن تتكرر الشدة المستنصرية الآن، الدولة فقيرة نعم كما هو الحال أيام المستنصر ولكن الشعب غني.. البعض ملوك غير متوّجين والبعض أمراء منعمين والبعض من كبار الموظفين والرتب تكفيهم المكافآت وبدلات الحضور أما تلك القلة في القيمة أو الكثرة ذات الوزن الضئيل فحجمها محدود ووجودها يكاد يكون غير مرئي لشدة ما تعيش فيه من ضباب.
أرى من بعيد ذلك الكائن الغامض يضحك ضحكة صفراء بها شيء من الشماتة, لا عجب أنني أشعر أنه يبغضني، لا يحبني، يبادلني الكراهية كما أبادله.. أمني نفسي بأنها ساعات وسأتخلص منه ببركة أهل البيت والولي سيدي الترابي (رضي الله عنه).
أحاديث صاخبة تدور في أعماقي، طوفان من الكلمات والحوارات المكتومة، عالم يثقل صدري، أتمنى أن يكف هذا الضجيج، أريد أن أهرب منه، أهرب إلى مكان يتوقف فيه العقل، يتوقف فيه اللسان أخلد للراحة أحس أني متعب ورغم أني أجلس على كرسي مريح في القطار الفاخر فإني أشعر أني منهك وأن قدمَي عاجزتان عن حملي.. ثقل الأفكار.. غضب المشاعر.. الشعور بالغربة.. أشياء تثقل كاهلي أكثر من ذلك اللحم والدهن الذي تكدس في جسمي ورفع وزني إلى أكثر من مائة وعشرة كيلوجرامات.
عالم مشوش أعيش فيه.. أنا أعيش أزمنة مختلفة هل حبي للتاريخ هو الذي فعل بي ذلك.. هل هو الرغبة في الهروب من واقع لا أتلاءم معه؟ ربما، لكن الذي كنت أدركه أنني في شغف إلى الفرار إلى عالم آخر، عالم أصنعه بنفسي لا يُفرض عليّ.. أساهم في تفاصيله.. يكون لي دور على مسرحه لا مجرد شخص يجلس خلف الستار يشاهد من الكواليس.. إنني حتى لا أشعر أنني من أولئك الجالسين في مقاعد المتفرجين.. فقط أنا موجود في الخلف، في الكواليس أرى من خلال ثقب أتلصص على المسرحية الضخمة التي لست جزءًا فيها، ربما يكون دوري هو تنظيف المسرح أو جذب الستائر أو تشغيل الإضاءة لكنه دور في الكواليس، لا أحد يعرف عنه أو يسمع به، دور صغير، أؤديه وأنا غير راضٍ، أؤديه رغمًا عني، غير مقتنع به، يقولون لي إن الحياة أدوار ولا أحد يختار دوره، أكذوبة؛ هناك الآن من يشترون الأدوار ويرسمونها لأنفسهم ويحددون أحجامها حتى ولو كانت أكبر منهم وأوسع، يحاولون إقناعي أن كل راكبي القطار لا يختارون مقاعدهم، تفرضها عليهم ماكينة التذاكر.. غير صحيح، هناك من يحدد مقعده ويختاره بعناية ليكون جنب النافذة ليستمتع بالفرجة على خلق الله، لكن يبدو أن ذلك في قطار الدرجة الفاخرة فقط.