البرد الحقاني

نتجمع ظهيرة ذلك اليوم شديد البرودة من كل عام، حول طبق بلاستيك كبير اسفله ملاءة كبيرة قديمة أمام (لبشة) قصب غليظ طري لن انس ابدا حلاوة طعمه كان قد ابتاعها لنا ابي وهو عائد من عمله، وبعد وجبة غداء وساعة القيلولة اعددنا العدة وجلسنا ترافقنا أصوات سحب قشر القصب من العود وصوت مص قطع القصب التي كانت تضايق امي كثيرا؛ فهي لا تحب اصدار أصوات عند الاكل او الشرب.. هكذا كانت تعلمنا آداب الطعام. وكنت ازيد من عصبيتها حين ارفع صوتي عند مصمصة القصب ظانا اني اداعبها الأمر الذي كان يزيد ضجرها، وابتسامات ابي العالم ببواطن نفسي وحقها في تربية أولادها تربية سليمة؛ فكان يسكت ثم ينصحني بنبرة هادئة بالكف عن هذا الفعل، ويعطينا ثمرة اليوسفي كنوعا من إلهائي فيها عارضا مميزاتها؛ فهي كبيرة الحجم لونها مائل للحمرة وطعمها (مسكر) شديد الحلاوة ثم يشرح لي كيف قشرها بهذه الطريقة الاحترافية وقطع بها جزء على شكل صليب في منتصفها لنضع داخلها فتيل او شمعة صغيرة ونربطها بثلاث خيوط لنعلقها منهم ونشعلها فتصبح مصباحا من اليوسفي.. قال هذا كله بينما تعالت أصواتنا انا واخوتي عند مصمصة القصب وامتلأت الملاءة تحتنا من قشره ومصاصته وامي تظهر لنا حزمها في العناية بنظافتنا وعدم إلقاء مخلفات هذا الحفل على الأرض بينما تشعر في داخلها بعميق السعادة بهذه اللمة الأسرية ودعواتها المكتومة ان يديمها علينا ولا يحرمنا منها، وعاد أبي لممارسة دور المعلم كاهن الأسرة فعاد يشرح لنا لماذا يسمى هذا العيد بعيد الغطاس، وما علاقة العيد بتناول القلقاس والقصب، وكيف نصنع البلابيصا، ثم شرح لنا انها كلمة من أصول فرعونية وقبطية من كلمة لامباس التي معناها مصباح.. وقبل ان ننهي هذا الحفل صاحت أمي داعية ان نزيل آثاره من أركان الشقة البسيطة وكنس الأرض وغسل الأيدي جيدا، هنا جاء دور الآب كاهن الأسرة ثانية الذي يحثنا على الاستعداد للذهاب إلى الكنيسة بعد قليل لحضور صلاة عيد الغطاس.. رحل ابي ورحلت أمي وبقيت أنا واخوتي وحرمنا من تلك اللمة إلا أن روائح مصاصات القصب وقشر اليوسفي من يديهما مازالت تداعب قلبي حين اذكر أنهما كانا وسيظلان مصباح ظلمتنا في هذه الأيام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى