مبارك وساط (شاعر غبار الأرض ووهجِ الأفق) - من مفكّرتي (1--3)

(1)

تمّ لقائي الأوّل بالشّعر مبكِّراً، ولكنّ ذلك اللقاء كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية، وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد. لستُ أدري ما الذي جعلني أُحِبّ الكتب في الصِّغَر، ولكنّي أتذكّر أنّه كان في حوزتي، وأنا في نحو العاشرة، كتاب ‘دمعة وابتسامة’ لجبران خليل جبران، وكتاب آخر كان بدون غلاف، وتنقصه بضع أوراق، ويتضمّن مختارات شعرية جيّدة من الشِّعر القدم، مع شروح ضافية للكلمات الصّعبة. وكنتُ أعتبرُ امتلاكي لهُما حدثاً كبيراً في حياتي، فكنتُ أقرأهما وأعيدُ القراءة، ثمّ انضافتْ إلى كتاب جبران كتبٌ أخرى بالعربيّة والفرنسيّة، كانتْ روايات في الغالب، لكنْ من بينها كان كتاب على صِلة بالشِّعر، هو ‘تاريخ الأدب العربيّ’ لحنّا الفاخوري. في هذا الكتاب، كانتْ هنالك صُوَرٌ متخيَّلة لعدد من الشّعراء القُدامى الذين تمّ تناول حياتهم وشعرهم بشكل عامّ جِدّاً في الكتاب، وقد أَنجز تلك الصّور فنّان لم أنسَ اسمَه حتّى الآن، رغم أنّ آخر إطلالة لي على كتاب الفاخوري تعود إلى نحو أربعين سنة: آرتور أورتيس!.. المهمّ أنّ شعراء كثيرين، من الجاهليّة إلى العصر العبّاسي وحتّى ما بعده، بدوا لي، من خلال أبياتهم المدرجة في الكتاب ووقائع حيواتهم، ومن خلال صورهم أيضاً، في مُخيِّلتي، كأنّما هُم من أهل تلك القرية القريبة البعيدة، المعروفة من قِبَلي والتي يلفّها في نفس الوقت، بالنّسبة إليّ، ضبابٌ شفيف يمنحها طابعاً حُلُمِيّاً وأسْطوريّا بعضَ الشّيء، فيما هي، في الوقت نفسه، واقِعيّة جِدّاً في ذهني، وقد كُنّا نهبُّ إليها بعد أنْ يحلُّ الصّيف، لقضاء نحو شهر من العطلة الصّيفيّة في ربوعها. وبين بيوت تلك القرية ومسالكها، في عالمها العجائبيّ بالضّرورة إذْ هي، في تصوّري وقتها، خياليّة وأسطوريّة وواقعية، كان يمكنُني أنْ أرى المتنبّي، مثلا، ماضيا أمامي نحو حانوت ‘ولد المكّي’ ليشتري سجائر وبضع شموع، مُرَدِّداً في دخيلته: ‘صلاةُ اللهِ خالقِنا حنوطٌ على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمال’، ولا يَهمّ، إن اتّضح لي، بعدها، أنّ من حسِبْتُهُ المتنبّي كان، في الواقع، هو حميدة ‘مُولْ الكارُّو’، أي صاحب العربة التي تجرّها أحصنة والتي ينقل فيها زبائنه القرويّين في فجر كلّ أحد إلى السّوق الأسبوعي، فالأساسيّ هو أنّ المتنبّي كان هنالك، حيثُ رأيتُه، بشكلٍ واضح ولا يُمكن إنكارُه !..

***

(2)
.
تشكّل في نفس حِسّ بالقرابة، تجاه شعرائنا القدامى من خلال قراءاتي لقصائد من شِعرهم والتّعرّف على جوانب مِن حيواتهم، وهكذا اكتسبتْ علاقتي بهم طابع الودّ والفضول والتّقدير الكبير، مع إحساسٍ قويّ بأنّ عالمي مختلف عن عالمهم.
فرغم توثّق ارتباطي العاطفيّ، في البداية، بالشِّعر العربيّ القديم، لم أشْعُرْ قَطّ برغبة حقيقيّة في أن أكتب على طريقة من بدوا لي في مقام الأجداد، وإن أكن قد "اقترفتُ" أبياتاً عموديّة. وفي بدايات الشّباب، اكتشفْتُ بعضاً من شُعراء الدّادائيّة والسّورّيالية الفرنسيّين ــ فالفرنسيّة هي اللغة التي كانت معتمدة بالأساس في التّدريس أيامَ كنتُ تلميذاً ــ وعلاقتي بأولئك الشّعراء لم تكن، بالنّسبة إليّ، من الصّنف العائليّ-العاطفيّ، بقدر ما كانتْ علاقة شخص في بدايات اكتشافه للحياة بمعناها الواسع بآخرين يشعر أنّهم ينتمون إلى عالم المدينة، مثله، وأنّهم متمرّدون على ما يبدو لهم معرقلا لسيرورة استكشاف الجمال الشّعريّ والفنّيّ بصفة عامّة، وأنّهم، تحديداً، من أنصار الخيال الخلاَّق. وهكذا، كنتُ شغوفاً بالعربيّة من جهة، وبأسلوب التعبير الشّعري الذي كان يدعو إليه الشّعراء الغربيّون المذكورون، من جهة ثانية. وكان الأمر مرتبطاً لديّ، أيضاً، بتعاطُفي المبكّر نسبيّاً مع الفكر المتمرّد واليساريّ. ثمّ اكتشفتُ شعراء عربا من زماننا، لم يكن ذلك التغلغل فيما وراء سطح الواقع والبحث عن قصيدة ذات سمات شخصيّة بالغريب عنهم، فكأنّي اكتشفْتُ عائلة جديدة، عَصْريّة ومدينيّة، فنشأتْ لديّ الرّغبة في الانضمام إليها، عن طريق الكتابة الشِّعريّة.

***

(3)

إنّ مسألة الانتماء إلى جيل شِعْريّ ما، هي من باب التّصنيفات اللاحقة على الكتابة الشِّعْرِيّة نفسِها، فالذي يُريدُ أنْ يكتب قصيدته الشّخصيّة، لا يضع لنفسه قيوداً أو قواعد مسبقة بهدف الاشتراك في حدٍّ أدنى معيّن مع غيره من شعراء بلاده الذين يُشاركهم العيش في نفس الفترة الزّمنيّة. وفيما يخصّني شخصيّاً، فإنّي لمْ أدرس قَطُّ ‘الأدب’ دراسة ‘نظاميّة’، لا في جامعة ولا في أيّ من المؤسّسات التّعليميّة، ذلك أنّي كنتُ أنتمي إلى شعبة ‘علوم رياضية’ في الثّانوي، حيثُ كُنّا نتلقّى الدّروس بالفرنسيّة، وبعدها دخلتُ كُلّية العلوم، ثمّ كان هنالك ظرفٌ قاهر حقيقةً، في أوائل سبعينيّات القرن الماضي، فرضَ عليّ أن ‘أنحرف’ عن مساري، وأدرس الفلسفة. ولذا فقراءاتي الشّعريّة لم تكن تخضع لنظام إلا ميولي الأدبيّة الشّخصيّة، وترتّب عن هذا أنّي، في مرحلة ما، كنتُ أجِدُ ضالّتي عند شعراء مشارقة، وعند مغاربيين يكتبون بالفرنسيّة، فيما كانت علاقتي بالشّعر العربي المغربي واهية أو تكاد. ثُمّ بدأتُ أنشُرُ شِعْرا، وأكتشف في الوقت نفسِه شعراء مغاربة من أبناء جيلي ومن السّابقين عليه واللاحقين، أشعر بقرابة تجمعني ببعضهم. فقراءاتي، فيما يبدو لي، تخضع لمقتضيات جماليّة، فأنا لا أفرضُ على نفسي قراءة شعر لا أتفاعل معه لمجرّد كون صاحبه من أبناء جيلي، أو لأنّه مغربيّ… ومن جهة ثانية، فإنّي لستُ متعصّباً لأسلوب شعريّ دون آخر، كما أنّي لا أحاول أن أساير ما هو متعارف عليه، فيما يخصّ تقييم الشّعراء…

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى