مقتطف المستشار الدكتور محمد عبدالفتاح عمار - سفر: قبور الأحياء من رواية اسفار الوطن والجراح

سفر: قبور الأحياء​

انحشرنا في الميكروباص كنت معتادًا على هذه الركوبة شبه المهينة أثناء الدراسة وقبل التحاقي بوظيفتي المرموقة ، ربما وأن تجلس تجد سيدة بجوارك تحمل غلقًا من الخوص أو مشنة فجل فتقول لك خليه على حجرك يا بني لغاية ما أطلع الفلوس وتدس يدها في صدرها لتخرج سرة بها لفافات متعددة كل فئة منها تحتضن الأخرى، دهشتك من الكم الهائل الذي لن تستطيع أن تدخره طوال عملك الحكومي سوف تنسيك ثقل المشنة أو ربما الماء الذي تسرب منها وأغرق بنطالك كأنك فعلت على نفسك، أو أن يزاحمك عجوز يسعل فيصيبك من سعالة رزاز كرزاز المطر.

هتف السائق «السيدة عائشة من صلاح سالم الأوتوستراد، لن نتوقف»، قلت «المهم السيدة عائشة»، قال لي «خليك مكانك»، انطلق كدودة صغيرة في أحشاء القاهرة، كلما أزور القاهرة اندهش كأنها المرة الأولى التي أطالع فيها هذا المنظر، الحقيقة أن وراء كل صورة تفاصيل جديدة وعوالم تكتشفها للمرة الأولى، هذه المرة كان الطريق جديدًا لم أخطُ فيه من قبل، اكتشفت كيف يعانق الموت الحياة، كيف تعيش الحياة في أحضان الموت، دخل بنا السائق من قلب المقابر، الطريق ممهد والأحواش زاخرة ببشر يعيشون، تعجبت كيف يأكلون ويشربون في أحضان الموتى المدفونين بل كيف ينامون، الأغرب كيف يقضون ليالي العشق، كيف تتعرى الزوجة لزوجها، تخلع ثيابها قطعة قطعة، ينقض عليها.. الجنس لغة يعرفها كل البشر، ولا يشترط لإتقانها ثقافة ولا حتى فك الخط أو معرفة الألف من كوز الدرة، ولا أن يمارس على فراش وثير، أكثر من ذلك كم من العلاقات الآثمة والمضاجعات الحرام تتم في أحضان هؤلاء الموتى ناهيك عن تعاطي المخدرات، كيف يصفو ذهن الطالب وهو يطالع دروسه، كيف تقدر الأسنان على دعك الطعام السخن وأنت تجلس أمام قبر تفوح منه رائحة الموت، منظر لا يوجد في مكان في العالم، سور واحد حجرة واحدة تضم موتى وأحياء، موتى يحملون ذنوبهم وحسناتهم وأحياء تعاركهم الأحزان وتطحنهم المعاناة وحياتهم لا تخلو من لحظات الفرح والأمل تشق سكون الموت، رأيت من بعيد شبابًا يعلقون أفرعًا للزينة وفانوسًا كبيرًا يتوسطها إنهم يستعدون لاستقبال رمضان وحوي يا وحوي، حتى رمضان بفرحته لا ينسى أن يدق باب مقابر الأحياء ومنازل الموتى، حياة تامة كاملة كانت أكثر واقعية مما دار بذهني وأنا أتخيل كيف يطأ الرجل امرأته عاريًا كيوم ولدته أمه وإلى جوارهما قبر، أكيد يشعران بأن عيونًا تشاركهم النشوة تتطلع إليهم ترقب تحركاتهم، ولكن خرس الموت لن ينبئ أحدًا عما رأت العيون وسمعت الأذن. صحيح أن الموتى أصبحوا ترابًا لكنهم يسمعون ويرون كل من يقترب منهم، يدق أبوابهم للزيارة، فما بالك بمن يعيشون معهم.

خلت نفسي للحظة من سكان هذه القبور، قلت ماذا أفعل لو كنت مكانهم ربما ما تركت فرضًا إلا وصليته في المسجد وختمت القرآن ثلاث مرات على الأقل شهريًّا، هل سيكون لديّ نفس الطموح في الحياة، هل ستكون لحظاتي كما هي، خطواتي وكلماتي بنفس تفاصيلها؟

لكني للحظة وببداهة وفطرة حب الحياة لم أتخيل أبدًا أو مطلقًا أنني في الجانب الآخر، جانب الموتى، الآن أستطيع أن أتخيل ذلك لو كنت من الموتى لأكيد حاولت الفرار إلى مكان آخر، مكان لا أشعر فيه بهذا الإزعاج، بهذا الصخب، مكان لا أرى فيه هذا الكم من حيوانية البشر، البشر لم يعودوا بشرًا، أكيد كنت سأقول ذلك لكني في النهاية كنت سأشعر بشيء من التسلية تصبرني على بقاء الحال على ما هو عليه، للتلصص متعه ولمعرفة أسرار الناس قوة ودفعة تغلب إيمان البشر، يأمر رب السماء والأرض «لا تجسسوا»، لاسيما وأنا الميت لن أغتاب أحدًا فيما علمته من تجسسي عليهم، كان القرآن حكيمًا حين جعل التجسس مفتتح الغيبة فالغيبة فيها من نقل الأسرار وإفشاء ما أخفاه الناس وما يكرهون إعلانه ثم أنا الميت ما تجسست وما تلصصت بل هم الذين قدموا إلى هنا، وفعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا وفي النهاية هم يعتقدون أن الموتى لا يسمعون، ويوقنون أنهم لو سمعوا لا يتكلمون.

أكيد أن التعود على هذه الحياة يحيلها إلى شيء عادي وتنتفي الرهبة ويصبح وجود الميت إما كأنه حي يشارك الأحياء أو أن الأحياء يصبحون كالموتى يشاركونهم الموت، أكيد أن هناك شيئاً من الألفة والصداقة الخفية، حب مكتوم ومشاعر متبادلة، لِمَ لا، ربما بعضهم يقرأ الفاتحة لهؤلاء الأموات ولو في المناسبات الدينية أو يروي صبارة جفت من ندرة الماء أو يضع ورقة شجر خضراء، جريدة نخلة، لتخفيف العذاب عن هؤلاء الموتى فيرد لهم الموتى الجميل ويقبلون بهم بلا إزعاج ويبعدون عنهم وهم أيقاظ ولا يطاردونهم في أحلامهم وهم رقود، ويسمحون لهم بحياة هادئة وسكينة مفقودة غير موجودة في الأحياء المكتظة بالبشر ولا حتى في تلك الأحياء الراقية التي وُلدت فجأة وأصبحت قصورًا وفللاً لا يعرف سكانها بعضهم بعضًا تحول بينهم الأشجار الكثيقة والأسوار العالية وكأنها حصون تمنع العدو من معرفة أحوالهم اللهم إلا إذا جمعتهم مصلحة مشتركة ولقمة عيش، عفوًا لقمة بسبوسة حصيلة بزنس غير نظيف إلا ما رحم ربي، غالب الأمر يكون من دماء هؤلاء المنفيين في المقابر.

وهكذا إن الجميع يتشاركون في الحياة، الموتى والأحياء، ولا شيء مستغرب ولا حادث مستنفر ولا تصرف مستهجن إنه كتاب الموتى الأحياء أو الأحياء الموتى. المصريون كانوا يعتقدون أن المقابر ستزخر بحياة بعد الموت، لم يكن أحد منهم يتصور في كتاب الموتى أن الموت والحياة يتعاصران في مقبرة واحدة، جزء للحياة بحلاوتها ومرارتها وأحلامها وانكساراتها وآمالها وهزائمها وجزء آخر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما يقول كتاب السماء لا كتاب الموتى للفراعنة الخالدين.

الفراعنة الجدد هم الذين أتوا بهؤلاء البشر إلى مقابر الموتى، هم أصحاب تلك المعجزة، هم أصحاب براءة اختراع الحياة في القبور، عجائب أم الدنيا مصر كما يقولون عنها، الحقيقة إني على يقين أن الدنيا بنت مصر، لا أدري الفارق، أحس أن ذلك التعبير أقوى ربما تكون فذلكة لغوية، المهم فراعنة القرن العشرين هم الذين سطروا كتاب الموتى الجديد، غيروا من تفاصيله القديمة الدقيقة بدلاً من حياة داخل القبور أصبحت حياة بجوار القبور لا غضاضة أن تختلط الحياة بالموت، الفناء بالخلود، الغريب أن الأحياء لم يقتصر دورهم على العيش بجانب القبور بل أصبحوا ينبشون القبور، يبيعون الجثث، يتاجرون في الأعضاء، حرمة الموتى انتهاكها جريمة بلا عقاب حقيقي في دنيا البشر، العقاب لدى رب البشر خالق الموت والحياة.

كنت معتقدًا أن الحياة دائمًا خطوط متوازية التقاؤها صعب، المكان والزمان لا يتقاطعان، الموت والحياة، الوجود والفناء، لكن نظرياتي وتخيلاتي كذب الواقع أسسها، أكتشف كل يوم سطحيتها وها هو الموت والحياة يتعانقان، أرى من بعيد فتاة في أبهى إثارة وجمال بنطال جنز ضيق وبلوزة قصيرة وشعر يتهافت مع نسائم الهواء تسترق قلب أيّ بشر، تخطفك نظرة منها ضحكة كلها جاذبية تمسك في يدها كراريس المحاضرات، تخرج من أحواش الموتى، لا أحد يتعرض لها، تعجبت كيف لم يقف سائق الميكروباص لجمالها، كانت قبالتي حينما مررنا بها، كانت لديّ رغبة شديدة أن أنظر إلى مؤخرتها لأتأكد ما إذا كانت بنفس مستوى جمال طلعتها الندية البهية نظرت للخلف لم أتمكن من معرفة التفاصيل المهمة لمؤخرتها لسرعة السائق وازدحام الكرسي الخلفي.

بائع للفاكهة والخضراوات يفترش الأرض يسند ظهره وبضاعته على حائط مقبرة متهالكة ربما لم يعد أحد يذكر أصحابها، انقطع نسلهم أو هجرهم أهلهم إلى مقابر شيك وأحواش فاخرة في صحراء السادس من أكتوبر بدلاً من تلك المقابر التي ازدحمت بالأحياء أكثر من ازدحامها بالموتى.

تُرى أيّ منهم سعيد بوجود الآخر هل الأحياء سعداء بالموتى؟ أشك، ربما الموتى سعداء بالأحياء ربما يشعرون بشيء من الأنس، شيء يفتقدونه يخفف عنهم العذاب الذي يلاقونه أو يزيد من سعادتهم والنعيم الذين يعيشون فيه.. من قال هذا لقد سمعت أخيرًا في إحدى القنوات الفضائية جدلاً واسعًا عن أن عذاب القبر لا سند له من الدين وأنه غير صحيح بالمرة.. رأيت شيوخًا بلحى تجبرك على الاحترام ورأيت أفندية يلبسون بدلاً مستوردة وأربطة عنق على أحدث التقاليع وأزهى الألوان لم تمضِ لحظات حتى سب كل منهم الآخر ولم أدرِ من مع من ومن ضد من.. المذيع في منتهى السعادة لزيادة وقاحة الحوار وتفاهته.. لغة السباب تعلو.. يكادون يشتبكون بالأيدي.. المذيع يتدخل لحسم الموقف فاصل إعلاني، بمئات الألوف بالطبع، ونعود.

لم يهتم أحد بسكان القبور، لم يعرفنا أحد لماذا تحولت القبور إلى منازل للأحياء ومن السبب وأي عقاب ينتظر من خط لهم هذه الحياة ربما لأنه شيء مألوف، شيء تعودنا عليه أو ربما لأن رجالات الدين لا يعرفون شيئًا عن الحياة مشغولون بالآخرة يبنون للآخرة من الحياة ولا يبنون الحياة للآخرة أكثر من عشرة برامج جميعها انتهى بالسباب، كلها انتهى بتكفير الآخر، تمنيت لو أنهم قبروا جميعًا وأراحونا ليتأكدوا بأنفسهم إن كان عذاب القبر حقيقة أم وهمًا، لماذا هم مشغولون بعذاب القبر ولا يقتربون من عذاب الدنيا.. ضنك المعيشة وشتات البشر.. هلاك الأحلام في منابتها، اغتيال الآمال في حياة سعيدة وكريمة.. سلام عليكم يا رجال الدين لا تختلفون كثيرًا عن تجار المخدرات تبيعون للناس الصبر لكي يتحملوا النتيجة نفسها الترامادول لينسوا ويسعدوا.. الحشيش ليحلموا بواقع لا تلمسه أيديهم ولا تطأه أقدامهم.. تبدأون من آخر كتاب النصائح الحكم والمواعظ.. كأن الهزائم قدر والانكسار مكتوب عليهم والرضا بالظلم فرض عين وسرقة أقواتهم وسلب حرياتهم ناموس للحياة.. ما قال ذلك محمد خير البشر، محمد (صلوات الله عليه) قال لأن تسعى وتحتطب خير من عبادة أربعين سنة، لو قامت القيامة لا تشغل نفسك بعذاب القبر بل ازرع الفسيلة التي في يدك.. بئس رجال الدين أنتم أكيد إنكم شركاء في صناعة هذه الصورة.. أكيد إنكم جهزتم وسيلة النقل لينقل هؤلاء البشر المنسيون بحياتهم بتفاصيلها كاملة ، ليحولوا خطوط سيرهم في ضروب الحياة إلى هنا، ليحضروا عفش منازلهم إلى هذه المقابر،ومعه أحلامهم وألامهم ، أفقت حين طلب جاري الأجرة (اتنين جنيه ونصف الأجرة غليت)، اعترض أحد الأصوات سب السائق دين أم دي مهنة «أعمل لكم إيه حاسبوا اللي رفع سعر البنزين.. انزل يا خويا إنت وهو وصلنا السيدة عائشة».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى