كانت الشمس تحرق الأرض، والرياح الحارة تغني بأصوات غامضة بين الأشجار. في ذلك النهار القائظ، الزمن يتحرك ببطء سحلية كسولة، والجبال تحدق في الأفق البعيد، تحرس المكان بصمتٍ راسخ، عند سفح جبل "مكي الشابك*"، قريبًا من ثكنات الجيش النائية خلف أسوار شائكة بالغموض والحذر. هناك، بيتٌ عتيق، في الحي القديم، غارق في عزلة عوالمه الساحرة، يرابط في وحدته كسرٍّ منسيّ يترقب شيئًا لم يعد يأتي.
في البيت المنعزل، عاشت 'أم سلمان' أو كما يناديها أهل الحي: 'العمة 'خريفيّة'. تعوّدوا على وجودها وسطهم، لم يسأل أحد عن سرّ اسمها الذي ارتبط بها. كان جزءًا راسخًا في ذاكرة المكان، مثل بيتها المتهالك في ذلك الحي القديم، محاطًا بصفائح زنك مطلية بلون أخضر غامق، تتخللها نقوش كأجنحة طيور تحاول التحليق.
أمام البيت، تجد ثلاث عتبات صغيرة من الأسمنت، تقودك إلى بابٍ واسع بمصراعين، ظل بطلائه الأحمر علامة فارقة لا تُخطئها العين، بعيدًا عن بقية البيوت، تغطي جوانبه أشجار "اللبخ*" الظليلة، مغلفًا في عزلة غامضة. ركنت به إلى مكان بعيد، كندبةٍ قديمةٍ لا تمّحي.
امرأة في العقد الخامس، تحمل على وجهها آثار الزمان، والحياة التي تآكلت داخلها وحفرت ملامحها، خطوطًا غير مرئية، لا تراها إلا في تعاريج الصمت الممتد في نظراتها الساهمة. كانت تبدو بصحة جيدة إلى حد ما، لكنها لم تكن تخفي ظلال الوحدة في عينيها، وصوت غيابٍ لا يُفسّر، تمضي به دون أن يشعر بها أحد.
لم تكن 'العمة خريفيّة' تتكلم كثيرًا عن ابنها الوحيد، سلمان، الذي خرج ذات صباح ولم يعد. اختفى دون أن يُعرف له أثر. لم تقم له مراسم عزاء، لم تبكِه أمام أحد. كل ما كانت تفعله، تراقب أبعاد الليل تتساقط شيئًا فشيئًا، مثل ورقة شجرة قديمة، وهي تركن إلى صمت رحيم وتتمتم:
— سيعود... سيعود بعد غروب الشمس.
كان لديها يقين بأنه سيعود ذات مساء، تسمع صوته في تلافيف ذاكرتها، يطرق الباب الأحمر، ويناديها بلهفة طفل لم يكبر أبدًا:
— خريفيّة أمّي السمحة.
كل صباح، كان سرب من الفراشات الحمراء المزركشة يحيط بالبيت، في حركة منتظمة، تحلق بأجنحتها في الضوء كأرواح تبحث عن جسد.
لم يكن أحد يعلم متى تتجمع حول بيت 'العمة خريفيّة'، وتحط عند عتبة الباب كل صباح، ثم تتسلل إلى فناء الحوش، تحمل قلوبًا مشتعلة تسبح معها في الهواء، كما لو أن البيت خُلق من أجلها.
كان سلمان يحب الفراشات مثلها، دون أن يضل الطريق إلى قلب أمه. كلما انشغلت داخل الحوش الفسيح، يلاحقها بضحكته الطفولية:
— سأتركهم الآن يا أمي.
ويخرج مسرعاً ليلحق بالمدرسة، دون أن يسمع ضجيج الصباح وصوت امه 'خريفيّة' يهرول خلفه قبل أن يغلق باب البيت وراءه.
ومنذ غيابه، امتلأ بيتها بالضوء والأسرار والظلال الكثيرة غير المكتملة.
في الحي القديم، لم يكن أحد يعرف الكثير عن 'العمة خريفيّة'، والحكايات التي كان يتم تناقلها همسًا، تقول إن دمها يحمل سرًّا دفينًا. بعض الوشايات تردّد إن الفراشات كانت أرواحًا تفرّقت، مثل الرمل في الريح، منذ وفاة زوجها الطيّب غرقًا، عندما اجتاحت السيول الأرض والمزارع المجاورة وغمرتها أمطار الخريف، الذي جرف معه كل شيء... في سنة مشؤومة، قبل أكثر من ستة عشر عامًا. لم يجد من ينقذه، حتى طفت جثته في ذلك الصباح الرمادي وقد تغطّت بالأعشاب وطمي المياه المندفعة من فِجاجٍ بعيدة، لتعيد لها حكاية وجع قديم لم يغادر روحها.
لم يسمعها أحد تبكي منكوبة على حالها، أو تسأل: ما الذي جنيته يا الله حتى يحدث لي كل هذا؟ ثم سرعان ما تستغفر ربها، تصلي ركعتين وتعانق أحزانها برضا تام.
لم تكن تنتظر معجزة ما، فقد كانت تعرف أن المعجزات لا تأتي لمن ينتظرها، بل لمن يخلقها من هشاشة الحياة. كانت تتمنى لو أن شيئًا ما يخفف وطأة وحدتها، سندًا خفيًا تتكئ عليه، وأن لا تغادرها الطمأنينة كما غادرها الأحباب.
تقف بثبات، تُلقي ظلها على المكان، ولا تميل. ذلك الثبات الذي كان يربك كل من حولها، كأنها تبصر بقلبها، وتعلم ما يجهله الجميع.
لم تتوقف يومًا عن التضرع إلى الله وهي تحدث نفسها وتناجيه بهمس:
— لا تحوّجني لغيرك، وحدك سندي ووكيلي يا رب العباد.
وينبض قلبها دافئًا وحزينًا مثل بلور الشمس في الصباح.
تجلس على عتبة الباب، تراقب سرب الفراشات وهي تحوم حول أشجار الليمون، والأرواح التي ألفت المكان. لم تكن مجرد جدران وسقف، بل كانت امتدادًا لروحها، بيتًا عتيقًا ظل صامدًا رغم سنوات الفقد التي لم تتعافَ منها أبدًا.
في مشهد غريب، تعوّد أهل الحي رؤية الفراشات كل صباح تملأ المكان، تبحث عن منفذ داخل البيت، ثم تختفي عند المغيب، كأنها تحمل سرًا لم يُفصح عنه بعد.
زعم آخرون أن بيتها يخفي كنزًا مسحورًا، يحرسه السرب، بعهد قديم مبرم بينهما. أما "العمة خريفيّة"، فكانت لا تتحدث عن تلك الأرواح التي ظلت وفيّة لها.
نادراً ما كانت تغادر بيتها، تخرج فقط مساء كل جمعة بعد صلاة المغرب. أمام بيتها، تجلس على "بنبر" خشبي عريض، تبيع شاي اللبن الممزوج بالزنجبيل مع الزلابية المغموسة في السكر. ملتحفة ثوبها المزركش بالألوان، تبدو هادئة تمامًا في جلستها، تراقب الناس بصمت. ومن حولها، يجتمع زبائنها بعد يوم طويل من العمل. معظمهم من سائقي الحافلات والباصات السفرية.كانوا يأمنون جانب'العمة خريفيّة'، يشربون عندها الشاي في أجواء بعيدة عن القلق، يتبادلون قصص يومياتهم العادية وهموم الحياة براحة كبيرة.
أصبح المكان بالنسبة لهم مأوى للأرواح المرهقة، هذا كل ما كانوا يحتاجونه، دون أن يخشى أحد افتضاح أمره أو أسراره، قبل أن يواصلوا نوبات سفريات الشحن الأولى عند انتصاف الليل.
في بعض الأوقات، كانت تحاصرها أوجاع الفقد، ويزدحم رأسها بقلق الأسئلة. تخلو إلى شرودها البعيد، بحثًا عن نفسها في زوايا البيت، والذكريات التي تنساب من جدرانه المتصدعة.
يتصاعد مونولوج الأسئلة المرهقة من جديد:
— هل تذوب الكلمات والضحكات كما تذوب الصور في الذاكرة؟
وتردد كلمات أغنية قديمة، بصوتٍ طاعم بالشجن:
"يا حليلهم دوام بطراهم*."
بدت كأنها تبكي، وفي حركة سريعة مسحت وجهها بطرف ثوبها قبل أن ينتبه لها أحد، ثم استقامت وتربعت في قعدتها من جديد، تشرب الكركديه المغلي بالقرفة، بينما تتابع الفراشات وهي ترقص في الهواء. والأطفال يلعبون تحت أعمدة الإنارة الخافتة المنبعثة من أطراف الشارع الجانبي، يتأملون بدهشة حركة اصطفاف سرب الفراشات أمام مدخل الباب الموصل إلى البيت، ليبتلعها فناء الحوش، قبل أن تزجرهم 'العمة خريفيّة' بصوتها الرخيم، فيتفرقون إلى بيوتهم دون احتجاج.
لم يكن أحد يجرؤ على الحديث معها، إلا فيما ندر. تصب الشاي، وتتجول بنظراتها دون أن تتحرك من مكانها، وبين لحظة وأخرى، يلمع وجهها الحزين بابتسامة قصيرة وخاطفة، تكشف عن ملامح نادرة الجمال. الله وحده يعلم من أين تأتي "العمة خريفيّة" بهذا السحر ومحبة الناس لها.
لسببٍ ما، تجهله، بدأت "العمة خريفيّة" تشعر بأن البيت يشيخ مثلها، ورغم كل الأقدام التي وقفت أمام بابها والعروض المغرية لشرائه، كانت تبتسم برفق، تهز رأسها بإيماءةٍ خافتة وحاسمة، كأنها تُنصت إلى أصواتٍ قديمةٍ لا يسمعها أحدٌ سواها:
— هذا البيت للفراشات، وأنا مؤتمنة عليه.
كان أهل الحي يعرفون أن'العمة خريفيّة' ترفض بيع بيتها، الذي ظلَّ مأوى للضوء المتسلل من النوافذ، لا تغادر الذكريات جدرانه، حتى وإن غادره ساكنوه.
ذات يوم، جاء إلى الحي رجل غريب برفقة شخصين من جماعته، بدا لهم صارم الملامح. كان يرتدي جلبابًا واسعًا، وعلى كتفيه شال عريض، وفي إصبع يده اليسرى خاتم فضي بنقوش عريضة يلمع بشكل لافت. كان مظهر الرجل وجماعته غير مألوف لأهل الحي.
توقف أمام البيت، رغم تردده ومعرفته بأنه لم يكن استثناءً في سلسلة العابرين، بل مجرد تأكيد آخر على حقيقة يعرفها الجميع عن بيت "العمة خريفية". كان لديه يقين بأنه سينجح في مفاوضتها على شراء البيت. طرق الباب بقوة، وبعد دقائق قليلة، وجدت "العمة خريفية" نفسها تقف أمامه بكامل هدوئها، وبوجه خالٍ من التعبير.
سكت الرجل قليلاً، يحاول أن يبدد رهبة الموقف الذي كان أقوى مما تخيل، أمام الثبات الغريب في عيني "العمة خريفية". ثم تحدث بصوتٍ حاول أن يبدو واثقًا:
— أنا تاجر إبلٍ ومواشٍ، أسكن في الريف، ومعروف في سوق "ديم النور" الكبير باسم "ود الضعين".
سادت لحظة صمت ثقيل، كما لو أنَّ كل شيء فقد تأثيره أمام تلك النظرة الثابتة.
أضاف، وقد بدا عليه التوتر قليلًا:
— سأدفع لكِ ما تشائين من المال مقابل أن تبيعي لي هذا البيت.
تسللت ذبذبات الخوف إلى أعماقها، لم يكن المال هو ما يشغلها، بل صوت الرجل، الذي بدا غريبًا مثل نفسه. شعرت كأن المكان الذي احتفظ بكل ذكرياتها، أحلامها، وآلامها، بدأ يتسلل من بين يديها. تصاعد الحدس الداخلي في قلبها، مؤكدًا أن هذا البيت لا يمكن بيعه أبدًا.
اقترب الرجل منها بحذر، أعاد عرضه، وواصل حديثه، مفسرًا لها فرص الاستثمار النادرة، في محاولة لإقناعها ببيع كل شيء.
كان الظلام يقترب شيئًا فشيئًا، وقد تدلّت أشجار اللبخ بظلالها أمام البيت، كأنها تترنح بجزوعها الضخمة وقد غطت على كل شيء، و"العمة خريفية" تقف هناك بهدوء تستمع إليه بصبر، ثم ابتسمت ابتسامةً لم يفهمها.
قبل أن يمهلها للرد، استدرك مستعجلًا:
— وكل ما..
لم يكد ينهي جملته، حتى رفعت يدها قليلًا، كأنها تضع حدًّا لكل شيء، وقاطعته بصوتٍ هادئ يشبه نسيم المساء، وبنفس الجملة التي قالتها لمن سبقوه، وسط دهشة الجميع:
— هذا البيت للفراشات... أنا فقط مؤتمنةٌ عليه.
لم تُضِف كلمةً أخرى، وأغلقت الباب وراءها، منهيةً الحديث معه دون أن تنتظر رده.
فوجئ الرجل، ووقف للحظة متسمِّرًا، ثم تمتم بكلماتٍ غامضة، وضحك ساخرًا قبل أن يلتفت إلى رجاله، وقد بدا على وجهه الحيرة:
— هل هذه المرأة سليمة العقل؟
ورغم سخريته، لم يستطع أن يتجاهل الارتباك الذي تسلَّل إليه.
في تلك الليلة، لم تظهر الفراشات. بقي البيت مظلمًا، و'العمة خريفيّة' جالسة عند النافذة، عيناها غارقتان في العتمة، كأنها تراقب شيئًا لا يراه أحد. بدا المكان ساكنًا على غير عادته، وكأن كل شيء قد اختلَّ في نسيج الليل.
قبل أن يهمَّ الرجل بمغادرة الحي وعدم العودة مرةً أخرى، تغيَّر الجو فجأة. أرعدت السماء في ظلمةٍ حالكة، وهبَّت الرياح بعنف، امتلأ الهواء برائحة الأرض المبللة بالحزن. بدأت الفراشات تؤدي آخر طقوسها، تنحني أمام غروب الشمس، ثم تثقل أجنحتها وتسقط واحدةً تلو الأخرى، كأنها قطرات دمٍ تنهمر من جرحٍ قديم.
أما "العمة خريفيّة"، فبقيت في مكانها تراقب جنازة الفراشات، تلك التي كانت تملأ صباحات بيتها بالشجن، وسط فضاءٍ لا نهائي، وحكاياتٍ لا تنتهي.
قبل أذآن الفجر بقليل، وجدت"العمة خريفيّة" نفسها، تقف وسط الحوش، تراقب السرب المتراص في الهواء وكأنه على علمٍ بما يحدث. رفرفت الأجنحة بصوتٍ أشبه بارتطام قلبٍ في مكانٍ بعيد، وعندما سقطت آخر فراشة، طوت جناحيها وعلَّقتها برفقٍ فوق الباب الأحمر، ثم أغمضت عينيها بهدوء، كأنها تودِّع عمرًا مرَّ سريعًا من أمامها، دون أن يشهد أحدٌ حكاياته.
بدأ الضوء يتسلل ببطء إلى الحي القديم، شوهدت الفراشات مجددًا، لكنها لم تكن تحوم حول البيت كعادتها. كانت متناثرةً على الأرض، أجنحتها مطويةٌ على نفسها، بلا حراك. تلك الكائنات التي كانت ترقص في الضوء، بدت الآن كأنها خاضت معركةً خفيةً لم يرها أحد.
عندما خرج الناس بعد صلاة الصبح، لمحوا "العمة خريفيّة"،جالسةً على عتبة بابها، بوجهها الهادئ كعادته، لكن عينيها كانتا مغمضتين، ويدها مسترخية على حجرها. ظنَّ البعض أنها تغفو في سكينة الفجر، كما كانت تفعل أحيانًا، حتى اقتربت إحدى جاراتها، ولمحت تلك الابتسامة الشاحبة المرسومة على شفتيها.
لم يُسمع في الحي نواح أو صراخ، فقط صمتٌ ثقيل، وصوت الرياح الخفيفة التي هبَّت فجأة، تحمل معها أجنحة الفراشات إلى البعيد، وتأخذ معها سرًّا لن يُفصح عنه أبدًا.
لم يجرؤ أحد على الاقتراب من بيت 'العمة خريفيّة' الذي تحوّل إلى الشاهد الوحيد على أسرارها، وعلى الحب والخسائر التي لا يعوّضها شيء، والجمال الذي لا يمكن تقييده أبدًا، لكنه يذوي في النهاية، ككل شيء آخر..
منذ تلك الليلة، ظل بيت "العمة خريفيّة"، غارقًا في صمت بارد، بينما بقي الباب الأحمر بمصراعيه، يضيء من بعيد بأجنحة سرب الفراشات المعلَّقة فوقه، مقاومًا زحف التراب عليه، وصرير النوافذ المسدودة في وجه الريح.
ذكريات مثقلة بالغياب، أحلامٌ شاردة فوق سماءٍ ما... كآخر أثرٍ لظلال امرأة حباها الله فيضًا من فطرتها الخاصة بها، مضت بهدوء، تاركة خلفها كدمات أسرارها التي لم يتوقف سريانها من الوريد إلى الوريد... لا أحد سواها، يجد لها تفسيرًا، ولا أحد يعلم أين سافرت تلك الغيوم!
تهدَّلت ألوان الطلاء التي كانت تزين سور البيت، كمسخ بلا ملامح، تلتف حوله ظلال أشجار اللبخ والليمون، بدا كل شيء داخله مهجورًا، هادئًا وخاليًا، ينبعث منه عبق أحزانها.. كضريح منسي في قلب الصحراء.
ـــــــــــــــ
ــ هوامش.
- مكي الشابك : "مزار"جبل كبير يقع بالقرب من منطقة "اشلاق الجيش" في مدينة القضارف.
- اللبخ (Albizia lebbeck) من أشجار الظل الطلحية المعمرة، ظليلة الأوراق، تنمو في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، تنتشر زراعتها أمام البيوت وعلى أطراف الشوارع.
- ديم النور : من أحياء مدينة القضارف.
- بنبر: مقعد أو كرسي خشبي قصير مربع الشكل.
- "يا حليلهم دوام بطراهم": من اغنيات الحقيبة السودانية.
4 فبراير 2025
في البيت المنعزل، عاشت 'أم سلمان' أو كما يناديها أهل الحي: 'العمة 'خريفيّة'. تعوّدوا على وجودها وسطهم، لم يسأل أحد عن سرّ اسمها الذي ارتبط بها. كان جزءًا راسخًا في ذاكرة المكان، مثل بيتها المتهالك في ذلك الحي القديم، محاطًا بصفائح زنك مطلية بلون أخضر غامق، تتخللها نقوش كأجنحة طيور تحاول التحليق.
أمام البيت، تجد ثلاث عتبات صغيرة من الأسمنت، تقودك إلى بابٍ واسع بمصراعين، ظل بطلائه الأحمر علامة فارقة لا تُخطئها العين، بعيدًا عن بقية البيوت، تغطي جوانبه أشجار "اللبخ*" الظليلة، مغلفًا في عزلة غامضة. ركنت به إلى مكان بعيد، كندبةٍ قديمةٍ لا تمّحي.
امرأة في العقد الخامس، تحمل على وجهها آثار الزمان، والحياة التي تآكلت داخلها وحفرت ملامحها، خطوطًا غير مرئية، لا تراها إلا في تعاريج الصمت الممتد في نظراتها الساهمة. كانت تبدو بصحة جيدة إلى حد ما، لكنها لم تكن تخفي ظلال الوحدة في عينيها، وصوت غيابٍ لا يُفسّر، تمضي به دون أن يشعر بها أحد.
لم تكن 'العمة خريفيّة' تتكلم كثيرًا عن ابنها الوحيد، سلمان، الذي خرج ذات صباح ولم يعد. اختفى دون أن يُعرف له أثر. لم تقم له مراسم عزاء، لم تبكِه أمام أحد. كل ما كانت تفعله، تراقب أبعاد الليل تتساقط شيئًا فشيئًا، مثل ورقة شجرة قديمة، وهي تركن إلى صمت رحيم وتتمتم:
— سيعود... سيعود بعد غروب الشمس.
كان لديها يقين بأنه سيعود ذات مساء، تسمع صوته في تلافيف ذاكرتها، يطرق الباب الأحمر، ويناديها بلهفة طفل لم يكبر أبدًا:
— خريفيّة أمّي السمحة.
كل صباح، كان سرب من الفراشات الحمراء المزركشة يحيط بالبيت، في حركة منتظمة، تحلق بأجنحتها في الضوء كأرواح تبحث عن جسد.
لم يكن أحد يعلم متى تتجمع حول بيت 'العمة خريفيّة'، وتحط عند عتبة الباب كل صباح، ثم تتسلل إلى فناء الحوش، تحمل قلوبًا مشتعلة تسبح معها في الهواء، كما لو أن البيت خُلق من أجلها.
كان سلمان يحب الفراشات مثلها، دون أن يضل الطريق إلى قلب أمه. كلما انشغلت داخل الحوش الفسيح، يلاحقها بضحكته الطفولية:
— سأتركهم الآن يا أمي.
ويخرج مسرعاً ليلحق بالمدرسة، دون أن يسمع ضجيج الصباح وصوت امه 'خريفيّة' يهرول خلفه قبل أن يغلق باب البيت وراءه.
ومنذ غيابه، امتلأ بيتها بالضوء والأسرار والظلال الكثيرة غير المكتملة.
في الحي القديم، لم يكن أحد يعرف الكثير عن 'العمة خريفيّة'، والحكايات التي كان يتم تناقلها همسًا، تقول إن دمها يحمل سرًّا دفينًا. بعض الوشايات تردّد إن الفراشات كانت أرواحًا تفرّقت، مثل الرمل في الريح، منذ وفاة زوجها الطيّب غرقًا، عندما اجتاحت السيول الأرض والمزارع المجاورة وغمرتها أمطار الخريف، الذي جرف معه كل شيء... في سنة مشؤومة، قبل أكثر من ستة عشر عامًا. لم يجد من ينقذه، حتى طفت جثته في ذلك الصباح الرمادي وقد تغطّت بالأعشاب وطمي المياه المندفعة من فِجاجٍ بعيدة، لتعيد لها حكاية وجع قديم لم يغادر روحها.
لم يسمعها أحد تبكي منكوبة على حالها، أو تسأل: ما الذي جنيته يا الله حتى يحدث لي كل هذا؟ ثم سرعان ما تستغفر ربها، تصلي ركعتين وتعانق أحزانها برضا تام.
لم تكن تنتظر معجزة ما، فقد كانت تعرف أن المعجزات لا تأتي لمن ينتظرها، بل لمن يخلقها من هشاشة الحياة. كانت تتمنى لو أن شيئًا ما يخفف وطأة وحدتها، سندًا خفيًا تتكئ عليه، وأن لا تغادرها الطمأنينة كما غادرها الأحباب.
تقف بثبات، تُلقي ظلها على المكان، ولا تميل. ذلك الثبات الذي كان يربك كل من حولها، كأنها تبصر بقلبها، وتعلم ما يجهله الجميع.
لم تتوقف يومًا عن التضرع إلى الله وهي تحدث نفسها وتناجيه بهمس:
— لا تحوّجني لغيرك، وحدك سندي ووكيلي يا رب العباد.
وينبض قلبها دافئًا وحزينًا مثل بلور الشمس في الصباح.
تجلس على عتبة الباب، تراقب سرب الفراشات وهي تحوم حول أشجار الليمون، والأرواح التي ألفت المكان. لم تكن مجرد جدران وسقف، بل كانت امتدادًا لروحها، بيتًا عتيقًا ظل صامدًا رغم سنوات الفقد التي لم تتعافَ منها أبدًا.
في مشهد غريب، تعوّد أهل الحي رؤية الفراشات كل صباح تملأ المكان، تبحث عن منفذ داخل البيت، ثم تختفي عند المغيب، كأنها تحمل سرًا لم يُفصح عنه بعد.
زعم آخرون أن بيتها يخفي كنزًا مسحورًا، يحرسه السرب، بعهد قديم مبرم بينهما. أما "العمة خريفيّة"، فكانت لا تتحدث عن تلك الأرواح التي ظلت وفيّة لها.
نادراً ما كانت تغادر بيتها، تخرج فقط مساء كل جمعة بعد صلاة المغرب. أمام بيتها، تجلس على "بنبر" خشبي عريض، تبيع شاي اللبن الممزوج بالزنجبيل مع الزلابية المغموسة في السكر. ملتحفة ثوبها المزركش بالألوان، تبدو هادئة تمامًا في جلستها، تراقب الناس بصمت. ومن حولها، يجتمع زبائنها بعد يوم طويل من العمل. معظمهم من سائقي الحافلات والباصات السفرية.كانوا يأمنون جانب'العمة خريفيّة'، يشربون عندها الشاي في أجواء بعيدة عن القلق، يتبادلون قصص يومياتهم العادية وهموم الحياة براحة كبيرة.
أصبح المكان بالنسبة لهم مأوى للأرواح المرهقة، هذا كل ما كانوا يحتاجونه، دون أن يخشى أحد افتضاح أمره أو أسراره، قبل أن يواصلوا نوبات سفريات الشحن الأولى عند انتصاف الليل.
في بعض الأوقات، كانت تحاصرها أوجاع الفقد، ويزدحم رأسها بقلق الأسئلة. تخلو إلى شرودها البعيد، بحثًا عن نفسها في زوايا البيت، والذكريات التي تنساب من جدرانه المتصدعة.
يتصاعد مونولوج الأسئلة المرهقة من جديد:
— هل تذوب الكلمات والضحكات كما تذوب الصور في الذاكرة؟
وتردد كلمات أغنية قديمة، بصوتٍ طاعم بالشجن:
"يا حليلهم دوام بطراهم*."
بدت كأنها تبكي، وفي حركة سريعة مسحت وجهها بطرف ثوبها قبل أن ينتبه لها أحد، ثم استقامت وتربعت في قعدتها من جديد، تشرب الكركديه المغلي بالقرفة، بينما تتابع الفراشات وهي ترقص في الهواء. والأطفال يلعبون تحت أعمدة الإنارة الخافتة المنبعثة من أطراف الشارع الجانبي، يتأملون بدهشة حركة اصطفاف سرب الفراشات أمام مدخل الباب الموصل إلى البيت، ليبتلعها فناء الحوش، قبل أن تزجرهم 'العمة خريفيّة' بصوتها الرخيم، فيتفرقون إلى بيوتهم دون احتجاج.
لم يكن أحد يجرؤ على الحديث معها، إلا فيما ندر. تصب الشاي، وتتجول بنظراتها دون أن تتحرك من مكانها، وبين لحظة وأخرى، يلمع وجهها الحزين بابتسامة قصيرة وخاطفة، تكشف عن ملامح نادرة الجمال. الله وحده يعلم من أين تأتي "العمة خريفيّة" بهذا السحر ومحبة الناس لها.
لسببٍ ما، تجهله، بدأت "العمة خريفيّة" تشعر بأن البيت يشيخ مثلها، ورغم كل الأقدام التي وقفت أمام بابها والعروض المغرية لشرائه، كانت تبتسم برفق، تهز رأسها بإيماءةٍ خافتة وحاسمة، كأنها تُنصت إلى أصواتٍ قديمةٍ لا يسمعها أحدٌ سواها:
— هذا البيت للفراشات، وأنا مؤتمنة عليه.
كان أهل الحي يعرفون أن'العمة خريفيّة' ترفض بيع بيتها، الذي ظلَّ مأوى للضوء المتسلل من النوافذ، لا تغادر الذكريات جدرانه، حتى وإن غادره ساكنوه.
ذات يوم، جاء إلى الحي رجل غريب برفقة شخصين من جماعته، بدا لهم صارم الملامح. كان يرتدي جلبابًا واسعًا، وعلى كتفيه شال عريض، وفي إصبع يده اليسرى خاتم فضي بنقوش عريضة يلمع بشكل لافت. كان مظهر الرجل وجماعته غير مألوف لأهل الحي.
توقف أمام البيت، رغم تردده ومعرفته بأنه لم يكن استثناءً في سلسلة العابرين، بل مجرد تأكيد آخر على حقيقة يعرفها الجميع عن بيت "العمة خريفية". كان لديه يقين بأنه سينجح في مفاوضتها على شراء البيت. طرق الباب بقوة، وبعد دقائق قليلة، وجدت "العمة خريفية" نفسها تقف أمامه بكامل هدوئها، وبوجه خالٍ من التعبير.
سكت الرجل قليلاً، يحاول أن يبدد رهبة الموقف الذي كان أقوى مما تخيل، أمام الثبات الغريب في عيني "العمة خريفية". ثم تحدث بصوتٍ حاول أن يبدو واثقًا:
— أنا تاجر إبلٍ ومواشٍ، أسكن في الريف، ومعروف في سوق "ديم النور" الكبير باسم "ود الضعين".
سادت لحظة صمت ثقيل، كما لو أنَّ كل شيء فقد تأثيره أمام تلك النظرة الثابتة.
أضاف، وقد بدا عليه التوتر قليلًا:
— سأدفع لكِ ما تشائين من المال مقابل أن تبيعي لي هذا البيت.
تسللت ذبذبات الخوف إلى أعماقها، لم يكن المال هو ما يشغلها، بل صوت الرجل، الذي بدا غريبًا مثل نفسه. شعرت كأن المكان الذي احتفظ بكل ذكرياتها، أحلامها، وآلامها، بدأ يتسلل من بين يديها. تصاعد الحدس الداخلي في قلبها، مؤكدًا أن هذا البيت لا يمكن بيعه أبدًا.
اقترب الرجل منها بحذر، أعاد عرضه، وواصل حديثه، مفسرًا لها فرص الاستثمار النادرة، في محاولة لإقناعها ببيع كل شيء.
كان الظلام يقترب شيئًا فشيئًا، وقد تدلّت أشجار اللبخ بظلالها أمام البيت، كأنها تترنح بجزوعها الضخمة وقد غطت على كل شيء، و"العمة خريفية" تقف هناك بهدوء تستمع إليه بصبر، ثم ابتسمت ابتسامةً لم يفهمها.
قبل أن يمهلها للرد، استدرك مستعجلًا:
— وكل ما..
لم يكد ينهي جملته، حتى رفعت يدها قليلًا، كأنها تضع حدًّا لكل شيء، وقاطعته بصوتٍ هادئ يشبه نسيم المساء، وبنفس الجملة التي قالتها لمن سبقوه، وسط دهشة الجميع:
— هذا البيت للفراشات... أنا فقط مؤتمنةٌ عليه.
لم تُضِف كلمةً أخرى، وأغلقت الباب وراءها، منهيةً الحديث معه دون أن تنتظر رده.
فوجئ الرجل، ووقف للحظة متسمِّرًا، ثم تمتم بكلماتٍ غامضة، وضحك ساخرًا قبل أن يلتفت إلى رجاله، وقد بدا على وجهه الحيرة:
— هل هذه المرأة سليمة العقل؟
ورغم سخريته، لم يستطع أن يتجاهل الارتباك الذي تسلَّل إليه.
في تلك الليلة، لم تظهر الفراشات. بقي البيت مظلمًا، و'العمة خريفيّة' جالسة عند النافذة، عيناها غارقتان في العتمة، كأنها تراقب شيئًا لا يراه أحد. بدا المكان ساكنًا على غير عادته، وكأن كل شيء قد اختلَّ في نسيج الليل.
قبل أن يهمَّ الرجل بمغادرة الحي وعدم العودة مرةً أخرى، تغيَّر الجو فجأة. أرعدت السماء في ظلمةٍ حالكة، وهبَّت الرياح بعنف، امتلأ الهواء برائحة الأرض المبللة بالحزن. بدأت الفراشات تؤدي آخر طقوسها، تنحني أمام غروب الشمس، ثم تثقل أجنحتها وتسقط واحدةً تلو الأخرى، كأنها قطرات دمٍ تنهمر من جرحٍ قديم.
أما "العمة خريفيّة"، فبقيت في مكانها تراقب جنازة الفراشات، تلك التي كانت تملأ صباحات بيتها بالشجن، وسط فضاءٍ لا نهائي، وحكاياتٍ لا تنتهي.
قبل أذآن الفجر بقليل، وجدت"العمة خريفيّة" نفسها، تقف وسط الحوش، تراقب السرب المتراص في الهواء وكأنه على علمٍ بما يحدث. رفرفت الأجنحة بصوتٍ أشبه بارتطام قلبٍ في مكانٍ بعيد، وعندما سقطت آخر فراشة، طوت جناحيها وعلَّقتها برفقٍ فوق الباب الأحمر، ثم أغمضت عينيها بهدوء، كأنها تودِّع عمرًا مرَّ سريعًا من أمامها، دون أن يشهد أحدٌ حكاياته.
بدأ الضوء يتسلل ببطء إلى الحي القديم، شوهدت الفراشات مجددًا، لكنها لم تكن تحوم حول البيت كعادتها. كانت متناثرةً على الأرض، أجنحتها مطويةٌ على نفسها، بلا حراك. تلك الكائنات التي كانت ترقص في الضوء، بدت الآن كأنها خاضت معركةً خفيةً لم يرها أحد.
عندما خرج الناس بعد صلاة الصبح، لمحوا "العمة خريفيّة"،جالسةً على عتبة بابها، بوجهها الهادئ كعادته، لكن عينيها كانتا مغمضتين، ويدها مسترخية على حجرها. ظنَّ البعض أنها تغفو في سكينة الفجر، كما كانت تفعل أحيانًا، حتى اقتربت إحدى جاراتها، ولمحت تلك الابتسامة الشاحبة المرسومة على شفتيها.
لم يُسمع في الحي نواح أو صراخ، فقط صمتٌ ثقيل، وصوت الرياح الخفيفة التي هبَّت فجأة، تحمل معها أجنحة الفراشات إلى البعيد، وتأخذ معها سرًّا لن يُفصح عنه أبدًا.
لم يجرؤ أحد على الاقتراب من بيت 'العمة خريفيّة' الذي تحوّل إلى الشاهد الوحيد على أسرارها، وعلى الحب والخسائر التي لا يعوّضها شيء، والجمال الذي لا يمكن تقييده أبدًا، لكنه يذوي في النهاية، ككل شيء آخر..
منذ تلك الليلة، ظل بيت "العمة خريفيّة"، غارقًا في صمت بارد، بينما بقي الباب الأحمر بمصراعيه، يضيء من بعيد بأجنحة سرب الفراشات المعلَّقة فوقه، مقاومًا زحف التراب عليه، وصرير النوافذ المسدودة في وجه الريح.
ذكريات مثقلة بالغياب، أحلامٌ شاردة فوق سماءٍ ما... كآخر أثرٍ لظلال امرأة حباها الله فيضًا من فطرتها الخاصة بها، مضت بهدوء، تاركة خلفها كدمات أسرارها التي لم يتوقف سريانها من الوريد إلى الوريد... لا أحد سواها، يجد لها تفسيرًا، ولا أحد يعلم أين سافرت تلك الغيوم!
تهدَّلت ألوان الطلاء التي كانت تزين سور البيت، كمسخ بلا ملامح، تلتف حوله ظلال أشجار اللبخ والليمون، بدا كل شيء داخله مهجورًا، هادئًا وخاليًا، ينبعث منه عبق أحزانها.. كضريح منسي في قلب الصحراء.
ـــــــــــــــ
ــ هوامش.
- مكي الشابك : "مزار"جبل كبير يقع بالقرب من منطقة "اشلاق الجيش" في مدينة القضارف.
- اللبخ (Albizia lebbeck) من أشجار الظل الطلحية المعمرة، ظليلة الأوراق، تنمو في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، تنتشر زراعتها أمام البيوت وعلى أطراف الشوارع.
- ديم النور : من أحياء مدينة القضارف.
- بنبر: مقعد أو كرسي خشبي قصير مربع الشكل.
- "يا حليلهم دوام بطراهم": من اغنيات الحقيبة السودانية.
4 فبراير 2025