عماد علي قطري - عنب ف رط...

ما إن يعلو صوتها الجميل في الشارع الساكن وقت العصاري "العنب البناتي" ينفض الصغار مهرولين إلى بيوتهم الطينية تاركين ما يصنعون من أحصنة الطين وعرائسه الطرية ويعودون محمليين بأكواز الذرة وحفنات القمح والسعيد منهم من يعود بتعريفة أو قرش صاغ ويلتفون حولها في فرح طفولي فريد فتناول كل طفل كوبا أو كوبين من العنب البناتي الفرط الذي تجلبه من حقول العنب بعدما يجنون العناقيد و يضعونها في أقفاص الجريد و تحملها السيارات إلى البلاد البعيدة, وما يتساقط من الشجر من حبات و ما يسقط من العناقيد أثناء التعبئة تجمعه وتذهب به إلى النيل فتغسله و تأتي به السيدة عبر المركب الخشبي المهترئ من قريتها "بنا أبو صير" الواقعة غرب النيل و تواجه قريتنا التي لا تزرع سوى الذرة والقمح والبرسيم وجميع أنواع الخضروات ولا أثر لحقول العنب البناتي سوى عنب الشواعرة وعنب الشيخ توفيق وأنّى للصغار ذلك.

يعود الصغار بعنبهم الفرط إلى البيوت ويلقون بما حملوا إلى الأمهات اللواتي يقمن برمي التالف و المفعوص ومن ثم غسل المتبقي لكن بعضنا كان يختلس بضع حبات في الطريق قبل تسليمه للأمهات وغالبا ما تكون بقايا الطين عالقة بالأيدي فيختلط طعم العنب بالطين الذي كانوا يصنعون منه أحصنتهم و عرائسهم الطرية قبل وصول العنب الفرط لشارعهم الساكن .

ناولتني أكواب العنب وصاحت : بيتكم فين يا وله و تبعتني إلى حيث أشرت لها تاركة الطشت الممتلئ بالعنب جوار الحائط بعدما غطته بطرحتها السوداء الباهتة اللون و ما إن رأت أمي حتى صاحت بها :الحقيني والنبي يا أختي الله يسترك دنيا و آخرة الملعونة جات لي فجأة و مش عاملة حسابي و غرقانة

أدخلتها أمي الحمام و أسرعت لغرفتها عائدة بقطعة قماش بيضاء مطبقة بعناية و ناولتها لها مع قميص و جلباب مشجر نظيف

غابت المرأة أياما معدودات ثم جاءت حاملة طست الألومنيوم الممتلئ بالعنب الفرط ومعها صغير يشبهها وفي سننا وناولت أمي كيسا أسود به القميص و الجلباب المشجر و عشر بيضات حاولت أمي ردها لولا أن النبي قبل الهدية وما تكسريش بخاطر الغلبانة , ودار بينهما حديث هامس لم أسمعه ولم أفهم منه شيئا و أوصتها بالصغير الذي طرده صاحب الورشة التي كان يعمل بها بعدما ضبطه متلبسا باللعب مع الصغار أثناء وقت العمل بالورشة وتخشى عليه من كتر اللف في الشوارع أثناء بيعها عنبها الفرط وأوصتني به أمي خيرا وقالت و الدموع تملأ عينيها ده يتيم أبوه مات في الحرب و أمه صغيرة وغلبانة بتجري عليه إوعى حد من العيال يضربه و قبّلته و مسحت على رأسه قبل أن تسلمني إياه مكررة وصاياها بالانتباه عليه من الأشقياء خاصة هشام منصور وأردفت ونحن نوليها ظهورنا باتجاه الصغار المتجمعين : خليه يلعب معاكم , فيما كان صوت أمه يأتينا من شارع بعيد " العنب البناتي "

خلطنا الماء بكومة التراب فمد الصغير الغريب يده وعجن الخليط كأحسن ما يكون وبمهارة ليست لأحد منا وقسمنا الطين بيننا لنصنع أحصنتنا الطينية التي نصنع لها أجنحة و نحلم أن تطير بنا إلى بلاد بعيدة سمعنا عنها أو حلمنا بها , بلاد جميلة لا تبيع العنب الفرط أو يعمل بها الصغار في الورش

وحده الصغير الغريب صنع طائرة بجناحين و عجلات تعجبنا من مهارته في صنعها مستديرة كأنها حقيقية , تحلقنا حوله , وزاد عجبنا حين طلب و الدموع تسيل من عينيه أن نجمع حطبا و نشعل نارا ليحرق الطائرة التي قتلت أباه في الحرب.

شبراوش . أجا

صيف 1991 م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى