كرم الصَّبَّاغ - صهيل النور...

السَّاحةُ واسعةٌ، والفتى أسمرُ، ذو قوامٍ ممشوقٍ، يشقُّ الممرَّ المزدحم برواد المولد، بوجهٍ مشرقٍ، وعينين تلتمعان. يوزِّع التَّحِيَّات على الباعة، الَّذين وقفوا خلف فرشهم، المكتظة بالأساور والحلقان، والسَّلاسل، و زجاجات العطر، والطُّرح الملونة، والبطاطا المدخنة، والتّرمس، وأمِّ الخلول، و حبِّ العزيز، والحمص، والحلاوة. في حين لَمْ يغفل الفتى أولئك النِّسوة الَّلائي افترشْنَ الرَّمل، والَّلائي يتميزْنَ عن غيرهن من نساء القرى والنجوع بثيابٍ حاكتها أيديهن على شكل طبقاتٍ بعضها فوق بعض، قمْنَ بتطريز طبقتها الخارجية الشَّفيفة السَّوداء بخيوطٍ ذهبيَّةِ اللَّون، تلتمع تحت شمس العصر الحانية، ويحيى يلقي تحيته عليهن الواحدة تلو الأخرى؛ فهُنَّ له في مقام الخالات، يلوِّح إليهن؛ فتنفرج ثغورهن عن ابتساماتٍ عريضةٍ، تظهر أسنانهن الَّتي تبرق بدورها تحت أشعة الشمس.
كانت أولئك الغجريَّات يكسبن أقواتهن من قراءة الكفّ، ووشوشة الودع، و قراءة طالع الرَّمل، تُقْبِلُ عليهن النِّساء المتشوِّقات إلى أمنياتٍ بعيدة المنال، و نادرًا ما يقترب منهن الرِّجال، ما عدا شبانًا قَدَّ مضاجَعهم الغرامُ؛ فراحوا يُمَنُّون أنفسهم بكلماتٍ، تَحْيِي الأملَ في قلوبهم، وتُمَنِّيهم بوصلٍ قريبٍ.
الزِّحام شديدٌ، ورواد المولد تركوا خلفهم دور النَّجع خاليةً من سكانها، و انضمَّ إليهم سُكانُ القرى المجاورة، في حين كان الغجر قد وفدوا منذُ ليلةِ أمس يحملون بضائعهم فوق ظهور عرباتٍ خشبيَّةٍ تجرُّها البغال والخيول والحمير، أقبلوا للتَّكسب من الليالي العامرة، التي يحيها رجال الطُّرق الصُّوفيَّة حولَ أضرحة الأولياء في مواقيتَ محددةٍ، يحفظها الغجر ونسوتهم عن ظهر قلبٍ.
يشقُّ يحيى طريقه بصعوبةٍ، ويصل أخيرا إلى حيثُ يسند الشَّيخ ظهره، تلتقي أعينهما؛ فيهشَّان لبعضهما البعض، وكما تنجذب برادة الحديد إلى المغناطيس، يندفع يحيى إلى ذلك الرَّجلِ الهَرِمِ المحاطِ بالدَّراويش، والأتباع المنهمكين في إقامة حضرتهم، ينحني يحيى، ويلثم يدَ الشَّيخ ورأسه، ويتخذ مكانه بين الجالسين، وما إنْ تمرُّ لحظات، حتَّى يقشعرّ جلده، ثم يلين، وَسِرعانَ ما تفيض عيناه بالدُّموع، في حين ينهمك لسانه في الوضوء بالوظائف والأوراد. خمرة الحُبّ قريبةٌ رائقةٌ، والقلب ظمآنُ يحترق، يشرب، ولا يرتوي، والأرواح لا تكفُّ عن التَّحليق. ثَمَّة طمأنينةٌ وأنسٌ لا يشعر يحيى بهما إلَّا في هذا المقام. يَوَدُّ أن يطول الوقت، و لا ينفرط عقد الحضرة، الَّتي صارت مزدحمةً الساعةَ بروادٍ انضموا إليها من شهود المولد، الَّذين جاءوا؛ ليغسلوا أرواحهم. أبدًا لا يشقى على جسر العبور جلساءُ عرفوا بجليسٍ، أتلفه الشَّقاءُ. هتفتِ الحناجر بشوقٍ، وأحرق الوجد القلوب، والشَّيخ يرفع كأسه فارغةً إلى السَّماء؛ فتعود ممتلئةً بالشَّراب. الشَّيخ يوزع الأنخاب؛ فيمسي الدَّراويش سكارى، و يحيى يغمغم باكيا: أيتُّها المتعة، قَرِّي، ولا تَفِرِّي. أيُّها الشُّوق زدني لهيبًا، فوقَ اللَّهيب.
الوقت يُطْوَى سريعًا كقماشةٍ بيضاءَ، والفجر يُقْبِلُ حاملًا النَّفحات؛ فيوزَّع على المريدين عطاياه بعد أداء الصَّلاة؛ فينهضون من أماكنهم مجبورين، بينما يعاود يحيى قبل انصرافه تقبيل يد الشَّيخ، ورأسه، وينسلّ إلى حافة السَّاحة، حيثُ نصب الغجر خيامهم، يتنحنح، فتدعوه أُمُّه إلى الدُّخول، تستقبله بوجهها المنير، اَّلذي تزيَّن بشنافٍ، تتدلَّى من أنفها. ممتلئةُ الجسمِ هي، قد أكسبتها الأيَّام الطِّوال اللَّحم والشَّحم، غير أنَّها كانت في شبابها مهرةُ الغجر، الَّتي ألهبتْ قلوب الرِّجال. ولَمَّا كان إسماعيل فارسًا و خَيَّالًا، عشقه قلبُ المهرة دون سواه؛ فأثمر زواجهما نجمًا، ضَوَّى في ليلة عيدٍ، سمَّاه إسماعيلُ يحيى؛ إذْ زرع ذلك الرَّضيع في قلبي أبويه النورَ يومَ مجيئه. في ليلة ميلاده حمله أبوه ملفوفا في غطاء المهد، وَسُرعانَ ما وضعه في حجر الشَّيخ ذاته؛ فحنَّكه بالتَّمر، وأَذَّنَ، وأقام الصَّلاة في أذنيه، ربا يحيي كعود ريحانٍ طيب المنشأ والرَّائحة، و لكنَّ الدُّنيا ضنَّت بالمسرَّة على مهرة الغجر؛ فخطف التُّراب فارسها من بين أحضانها؛ فأمسى يحيي يتيمًا، والمهرة، حرَّمت على نفسها الرِّجال، بل زاحمتهم، وأصرَّتْ على أن تنصب فرشة زوجها بين فرشهم، أصرَّت على أن تبيع بضائعها، وأن تأكل من عرق الجبين؛ إذْ كانت مهرةً حرّةً حرونًا، رفضت أن تبيع الوهم، وأنْ تقرأ الكفَّ لشهود الموالد كما تفعل سائر الغجريات.
تزيح الأُمُّ الغطاء، تنهض، وتحضر شيئًا من الطَّعام، تقدِّمه إلى ولدها، وتتفحصه مليًّا، فتراه ذاهلًا شاردًا؛ فيساورها القلق ذاته. كم رغبت في إدراك ما أَلَمَّ به، لكنَّه كان كتومًا، قليل الكلام، يشرد طويلًا، ثُمَّ يستفيق بعد ساعةٍ؛ فيقبل علي أُمِّه بوجهه، ويتصنَّع الابتسامَ، ويجهد في بثِّ الطُّمأنينة في نفسها.
تتذكُّر ما فعلته الغجرية العجوز التي حدَّقت مليًّا إلى وجه يحيى، حينما كان صَبِيًّا في السَّادسة من عمره، يومها بسملت العجوز، وتبسَّمت في وجه الأم المتبرمة، الَّتي خشيت دائمًا على ولدها المليح شرَّ العين. عاودت العجوز التحدِّيق، ثم هزَّتْ رأسها، ومالتْ على أذن الأمِّ، كأنَّما أرادتْ ألَّا يسمع كائنٌ من كانَ؛ فضربت الأمُّ صدرها، و وجمتْ، ثم انصرفتْ قابضةً على كفِّ صغيرها دون أن تنطق بأيَّة كلمةٍ. يومها سارتْ شاردةً، لَمْ تدر هل تحزن أم تفرح؟! لَمْ تدر كيف تقاوم الوجع، الَّذي استوطن قلبها؟! أليستْ هي من عاشت عمرها تنكر ما نطقت به الخطوط؟! ألَمْ تُكَذِّبُ دائمًا أحاديث الرَّمل، والوَدَع؟! أليست هي من أصرت أنْ تهجر حرفة الغجريات الرَّائجة، ورضيت بشقاء البيع والشِّراء ومزاحمة الرِّجال في أعمالهم؟! هل تُصَدِّقُ خرافات تلك العجوز؟! ماذا لو حدث ما أخبرتها به تلك المرأة المسنَّة؟! هل تصبر حقًّا على هذا الفراق؟!
استيقظ يحيى ضحًى، كان الرجال قد اقتلعوا أوتاد الخيام من باطن الأرض، و قطعوا الحبال، و طووا أكسية الشَّعر، وقِطَع الخيش، بينما حزمت النِّساء الأمتعة والفُرُش، والأواني، والمواقد، وبدأ الشُّبان في رصِّ البضائع والأشياء على ظهور العربات الخشبيَّة، بينما جَرَّ البعض الآخر الحمير والبغال والخيول، إلى حيثُ تقف العربات. صنع يحيى ما صنعه أقرانه، و بعد مرور ساعةٍ، كان الرَّكبُ قد تحرَّك إلى قريةٍ أخرى، وساحة أخرى يتوسَّطها ضريحٌ. كانت السَّاحة هذه المَرَّة تقع في خلاءٍ، يضجُّ بالرَّمل، و كانت شمس الظَّهيرة قد أكلت الرُّءوس، والوجوه، والأبدان. وصل الغجر مرهقين، و لكنَّهم رغمًا عن ذلك سارعوا إلى نصب خيامهم، وما إن فعلوا، حتى أخلدوا إلى قيلولةٍ قصيرةٍ، قاموا بعدها بنصب الفرش، ورصِّ البضائع؛ استعدادًا ليوم غَدٍ.
نام الجميع مبكرًا هذه الليلة، و في وقت السَّحَرِ، هبَّت على الخلاء نسائمُ طريَّةٌ، فاح مع هبوبها العطر، وأضاءت في السَّماء القناديل. كان "يحيى" في خيمته يغطُّ في النَّوم، و كانت أُمُّه في الجهة المقابلة غارقةً في سباتها. و فيما يشبه الرُّؤيا سمع يحيى صوتًا يناديه، وَسُرعانَ ما امتدَّتْ يدٌ راحتْ تَهزُّه برفقٍ، فما كان من الفتى ابن العشرين إلَّا أنْ فتح عينيه. لم تكن رؤيا البتَّة، إنَّها الحقيقة، و لا شيء سواها. قبضتْ اليد على ذراع الفتى المشدوه، و جذبته من فراشه؛ فانتفض جسده، و هَمَّ بالصّراخ، لولا أن صوته خذله، و لم يتجاوز حنجرته. شعر يحيى في تلك الأثناء بأنه صار خفيفـًا في وزن ريشةٍ، يحملها الهواء، و لَمَّا خرج إلى الخلاء، تضاعفت دهشته؛ إذْ أبصر القناديل تهبط شيئًا، فشيئًا، و عندما صارت قريبةً من رأسه، راحتْ تحوم فوقه، فيما يشبه الدَّائرة، وَسُرعانَ ما تحوَّلت تلك القناديل المضيئة إلى رجالٍ، لَمْ يبصر يحيى لجمالهم مثيلًا من قبلُ، ظلَّ الفتى متسمرًا في مكانه، قد خانه الكلام، وفَرَّت الألفاظ والمعاني من رأْسه، كأنَّه لَمْ يتلفظ أو يسمع لغةً من اللُّغات طوالَ حياته. قطع أحد الرِّجال رهبة الموقف بإشارةٍ من يده، أقبل على إثرها جوادٌ عَفِيٌّ كان يقف على مرمى البصر. ركض الجواد بأقصى سرعة، و لما توسَّط الحلقة، تقدَّم رجلان، و حملا يحيى فوق ظهر الجواد؛ فانطلق يقطع الأرض بسرعة البرق.
قال الدَّراويش: ثَمَّة زوارٌ، يجوبون الأرض في وقت السَّحر، يفتشون عن قلوبٍ بيضاءَ، أطهر من الثَّلج، وأصفى من الحليب. و قال رجال و نساء من الغجر: الولد سِرُّ أبيه، وهل ينجب فارسٌ إلّا خيَّالًا، يسوس جيادًا، ويروِّض أحصنةً، تسعى في الملكوت. وقالتْ أمٌّ كانتْ بالأمسِ مهرةً: كُلَّما اشتقتُ إليه زار خيمتي في وقت السَّحر، يُقْبِلُ بهيًّا وصفيًّا، يُخْرِجُ من جرابه تفَّاحًا، لا مثيل لحلاوته، يطعمني إيَّاه، ويُحدِّثني، حتَّى يهدأ شوقي قليلًا، ثُمَّ يمتطي فرسه، ويعاود التِّرحال. و قال الشُّيخ، و قد أسند ظهره إلى الحائط ذاته: هناك بعيدًا بعيدًا، في حضن الجبل، ثَمَّة كهفٌ، و خلوةٌ، داخلها يشرب يحيى كُؤُوسَ الحُبِّ، بينما يقف حصانه عند مدخل الكهف، و قَدْ ملأ الفضاء بالصَّهيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى