أدب السيرة الذاتية عبدالجليل الحمزاوي - من صقيع الإسمنت إلى حرارة الأشعار والأغاني الملتزمة(1-3)

1- من صقيع الإسمنت إلى حرارة الأشعار والأغاني الملتزمة قبل الإفراج وبعده!!!

في مثل هذا الشهر من سنة 1980 أثناء مرحلة دراستنا الجامعية بالرباط، سيحل عندنا الصديق عبد الرحيم الموفق قادما من إبن جرير ليقوم في اليوم الموالي بالتوجه إلى مدينة القنيطرة لزيارة إبن خالته المرحوم الموفق محمد المعتقل السياسي الذي كان محكوما بعشرين سنة سجنا بالسجن المركزي بهذه المدينة، كنت أقطن آنذاك مع الأصدقاء الأعزاء: المختار البركاوي ونجيب سهيل ثم عبد اللطيف السجود.. بعد انتهاء سمرنا الليلي ،سيقترح علينا الصديق عبد الرحيم أن نرافقه في هذه الزيارة لابن خالته ورفاقه المعتقلين السياسيين من مجموعة "إلى الأمام". كانت هذه أول زيارة لي لمدينة القنيطرة التي وصلنا إليها في حدود الساعة الحادية عشرة صباحا بمحطة الحافلات ومنها توجهنا مباشرة إلى السجن المركزي.. انتظرنا مع الزوار ريثما تفتح بوابة السجن وبعد لحظات سيعلن عن بداية الزيارة واصطفت الجموع بمن فيهم زوار معتقلي الحق العام حيث بدأت عملية التفتيش والتأكد من الهوية، عندما جاء دوري قدمت بطاقتي الوطنية للحارس المكلف بالعملية، فسألني عن العلاقة التي تربطني بالمرحوم الموفق أجبته بأنه خالي منذ ذلك اليوم إلى الآن يناديني الصديق عبد الرحيم الموفق بهذه الصفة مازحا كلما التقيت به، كنت أعرف أن كذبتي هذه لم تنطل على الحراس لأنهم يعرفون أن منع أحدنا من الزيارة سينتفض على إثره كل المعتقلين السياسيين في وقفة احتجاجية كما حدث في مرات سابقة .. انتهت عملية التحقق من الهوية وقصدنا المكان المخصص للقاء بالرفاق في هذه اللحظة بالظبط ساورني شعور بأن دولة المخزن والقمع أحقر من ذبابة ، نودي على الرفاق واصطف الزوار أمام "البارلوار" لتحية الرفاق بعد ثوان معدودة سيفتح الباب المؤدي إلى الزنازن ويخرج الرفاق لمعانقتنا في ردهة ضيقة بها أدراج ثم جلسنا مع باقي الزوار والرفاق على الإسمنت بعضنا كان يجلس على هذه الأدراج استقبلنا الرفاق بمعنويات عالية جداً ، برودة المكان لا تطاق يجري من تحتنا نهر سبو! انتبه المرحوم الموفق إلى الأمر فعاد إلى زنزانته وأحضر بعض الأغطية الرمادية الخشنة ولفنا فيها ضاحكاً تحت أنظار الحراس الذين يراقبوننا عن قرب بعد اختلاطنا مع الرفاق وأقاربهم وهو يحمل في يده جريدة "أنوال" وهو يزف لنا خبر صدورها، هكذا سنتعرف عليها قبل وصولها إلى الأكشاك!!!
كان للأمر وقع خاص لأنه مؤشر قوي عن بداية انفراج يلوح في الأفق، وهذا ما سيحدث فعلاً في قادم الأيام.. قبل انتهاء موعد الزيارة تذكرت صديقا لأخي المرحوم أحمد وهو الأستاذ مولاي علي القرشي (بضمة على القاف وفتحة على الراء)كان زميلا له بإعدادية "العقيد العلام" بمدينة المحمدية وهي نفس الإعدادية التي سأعين فيها سنة 83 بعد تخرجي من المركز التربوي الجهوي بالجديدة.. سألت الرفيق الموفق عن الأستاذ القرشي فأخبرني بأنه من ضمن المعتقلين معه فطلبت منه إذا كان ممكناً رؤيته وما هي إلا لحظات حتى وقف أمامي الرفيق القرشي بالبارلوار ببشرته البيضاء وبنيته القوية بادلني التحية وقد بدا مندهشا لأننا لم نتعارف من قبل أخبرني أنه كان يظن بأنني أخي أحمد أو شقيقي محمد لأنه يعرفه أخبرته أنني أصغرهما استفسرني عن أحوالهما أحسست بأنه سعد بهذه الالتفاتة مني ودعني بلباقة وأمرني أن أبلغ سلامه إليهما ثم عاد إلى زنزانته..
بعد انتهاء الزيارة ودعنا السجن والرفاق ثم قصدنا صديقا من إبن جرير يقربني من جهة المرحومة والدتي وهو المهندس محمد السيعيدي الذي كان يسكن بأحد الأحياء الراقية بالقنيطرة وتناولنا معه وجبة الغذاء لنعود بعد ذلك إلى مدينة الرباط حيث كان لنا موعد باذخ مع الأمسية الشعرية والغنائية التي ينظمها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمدرج ابن خلدون بالكلية ،عند وصولنا إلى بابها سمعنا الشعارات تتردد في فضائها وسط هذه الأجواء الحماسية اتخذنا مكاننا بالمدرج لنستمتع بفقرات الأمسية التي يؤثثها شعراء الكلمة الملتزمة وفي مقدمتهم الشاعر الزجال الملتزم الأستاذ والصديق العزيز رضوان أفندي ثم الثنائي الفنان إسماعيل والفنانة ثريا الحضراوي في أغاني للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بالإضافة إلى أيقونة الأغنية الملتزمة الفنان والأستاذ سعيد المغربي، بعد انتهاء الأمسية سنعود في حدود الساعة الثامنة مساء إلى قواعدنا لنواصل سمرنا الليلي بالبيت.

***

2- الجزء الثاني من السيرة المقتضبة

سيعانق الرفاق الحرية بعد العفو عما تبقى من العقوبات السجنية الصادرة في حقهم مع أن بعضهم تزامن العفو عليهم مع إتمامهم للمدة المحكوم عليهم بها مثل الصديق الأستاذ مولاي علي القرشي الذي قضى مدة 10سنوات بالتمام والكمال، وذلك على إثر مجموعة من المستجدات آلتي عرفتها الساحة السياسية مثل عودة المنفيين ثم الحسم في الموقف من القضية الوطنية والاعتراف بمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والتي تم تأسيسها في يناير 1983, حيث لم يعد هناك مبرر لبقاء الرفاق داخل أسوار السجن أضف إلى ذلك ضغوطات منظمة العفو الدولية..
بعد الإعلان عن هذا الحدث الهام، نشرت في جريدة أنوال خاطرة كإهداء للرفاق المفرج عنهم تحت عنوان "أزهار تنبت في الظل" وهي التي علق عليها ساخرا مناضل يساري! ممن قرأوا بعض الترجمات المخدومة! عن الماركسية (آش هاد التغزل في الجريدة اليوم) حسب ما وصلني من أحد أصدقائي، هذا المناظل بالضاد المعجمة! كان من بين الذين فروا بجلدهم في معركة أبريل التاريخية التي خاضتها الشغيلة التعليمية مع العلم أنه وقتذاك كان هو رئيس المكتب النقابي للكدش!!!..
بعد ان وصلني قرار التعيين بمدينة المحمدية سافرت إليها مع المرحوم والدي الذي أصر على مرافقتي قصد البحث عن سكن يأويني استقبلنا أخي المرحوم أحمد الذي كان يقضي عطلته الصيفية بهذه المدينة الشاطئية الجميلة والتي اشتغل فيها كأستاذ بإعدادية "العقيد العلام" وهي المؤسسة التي عينت فيها وبما أن الوقت صيف تعذر علينا العثور على سكن نظراً لارتفاع سومة الكراء وبعد أن قررنا العودة في نفس اليوم إلى مدينة إبن جرير سألتقي صدفة بالصديقين الشقيقين الموفق عبد الرحيم ومولاي صالح اللذين استأذنا الوالد رحمه الله بأن أبقى معهما هكذا سيعود والدي بمفرده إلى البلدة.. قضينا أمسية رائعة من أمسيات الموسم الثقافي الذي كان ينظم كل سنة من طرف المجلس البلدي للمدينة حيث استمتعنا بمشاهدة العرض المسرحي "إغتيال الأشجار" للمرحوم الحوري الحسين المسرحية التي اقتبسها من رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبدالرحمن بن منيف الذي نوه بهذا العمل المسرحي الجاد بقاعة سينما النجاح، في اليوم التالي سنتوجه للدار البيضاء لزيارة المرحوم الموفق محمد الذي عانق الحرية بعد سنوات من الاعتقال كانت وجهتنا كاريان بنمسيك حيث يقطن مع أسرته وصلنا وقت الهجير والجو قائظ سرنا في أزقة ضيقة بين البراريك الصفيحة إلى أن وصلنا إلى ساحة ضيقة هي الأخرى تعج بأطفال صغار عرايا يتحلقون في مشهد طريف ومؤلم في نفس الوقت حول قعدة كبيرة مليئة بالماء يتناوبون على القفز في وسطها وقفنا نتأمل المشهد قفز أحدهم وسط القعدة ثم صاح قائلا: (والله إلى بحال لبحر) قلت في نفسي نعم هذا بحر التعساء والمهمشين الذين يكتوون بلهيب الحر، حر الوقت والشمس ولهيب الزنگ الذي يطوق أجسادكم النحيلة!!! علق هذا المشهد بالذاكرة ومنه استلهمت محاولة قصصية ساخرة! نشرتها سنة 84 بجريدة أنوال تحت عنوان "الأولاد والبحر" تدور أحداثها حول تنقل أطفال من الكريان إلى البحر من أجل استجمام لم يتم!!!

يتبع...

***

3- تتمة الجزء الثاني من السيرة المقتضبة...

عندما وصلنا إلى مسكن الرفيق الموفق كانت تمة بعض الجارات ينظرن إلينا واجمات ليس لأننا غرباء عن الحي الصفيحي فحسب بل ربما اعتقدن بأننا قد نكون زوارا غير عاديين! أو ربما لهاجس السياسة البعبع المخيف في مخيلة أمثالهن من شريحة اجتماعية واسعة محدودة الوعي.. لسن وحدهن كنت متأكداً بأن العيون السود الخفية برموشها الليل!!! التي تحصي الأنفاس بما فيها الكريهة تلاحقنا هي الأخرى تراقب كل وافد أو قاصد لهذا المسكن المتواضع في عالم مهمش شبيه بعالم صديق السلاحف الراحل زفزاف في بيوته الواطئة! في زمن كانت العيون الآلية شبه منعدمة أو مقتصرةعلى أصحاب "البريستيج"..
إستقبلتنا أخت الرفيق الموفق التي سبق أن تعرفت عليها أثناء زيارتنا له بالسجن المركزي بالقنيطرة. نهض لمعانقتنا وعاد ليفترش الأرض ويتمدد بحثاً عن برودة مفقودة في جو قائظ لا يطاق، كان يبدو أقل حيوية مقارنة مما وجدناه فيه خلال زيارتنا له بالسجن نظراً لصعوبة التأقلم مع الوضع الجديد.. أشياء كثيرة تغيرت بعد سنوات عشر مضت في الزنزانة والمعتقل السري الرهيب، وضع جديد تطغى عليه أيضا كوابيس اليقظة! التي عانى منها كل الرفاق بعيداً عن أسوار السجن مردها سياسة تضييق الخناق عليهم في إطار الحرب النفسية التي واكبت خروجهم من السجن إذ كانوا مجبرين على الحضور يومياً بمخافر الشرطة للتوقيع على محضر والإخبار عن كل تنقلاتهم، هذا ما علمت به من الصديق عبد الرحيم الموفق بعد هذه الزيارة التي لم تطل حيث عدنا عصر ذلك اليوم إلى مدينة إبن جرير..
في يوم 16شتنبر1983وقعت محضر الدخول بإعدادية "العقيد العلام" كنت مقيما بصفة مؤقتة عند أصهار أخي المرحوم أحمد ريثما أعثر على سكن مستقل. دام هذا الوضع مدة شهرين تقريبا إلى أن وجدت مسكنا قريباً من الإعدادية، وفي شهر ماي من نفس السنة الدراسية سيتجدد لقائي بالرفيق الموفق تزامن ذلك مع موعد زيارتي للأسرة لقضاء عطلة عيد الأضحى بابن جرير حيث زارني الصديق عبد الرحيم الموفق بالمحمدية ليخبرني بأنني مدعو إلى جلسة احتفاء بالرفاق بمدينة البيضاء عند أحد الأقارب من آل الموفق وطلب مني أن أصحب معي قيثارتي لتأثيث هذا الاحتفاء وقصدنا حي الإدريسية حيث تقيم عائلة الموفق. كان احتفاء وازنا بحضور الرفاق محمد الموفق والأحمدان: حبشي وحرزني ثم رفيق ومعتقل سابق أعتذر لأنني لم أتذكر إسمه بالإضافة إلى الصديق العزيز الأستاذ أهل الحاج سالم الذي كان يشتغل كأستاذ لمادة الفلسفة بالبيضاء ويسكن قريبا من حي الإدريسية، بعد وجبة عشاء فاخر سيبدأ السمر الفني مع الأغاني الملتزمة التي لقيت حماسا وتجاوبا كبيراً من الرفاق الذين تجاوزوا محنة الكوابيس التي أشرت إليها سابقاً وبدأوا يتأقلمون مع محيطهم الأسري والاجتماعي..
إستمر سمرنا إلى حدود الثالثة صباحا ودعنا العائلة والرفاق، ورافقنا الصديق الحاج سالم قصد المبيت عنده وقضاء سمر من نوع آخر.
يتبع...

***

=============
1- من صقيع الإسمنت إلى حرارة الأشعار والأغاني الملتزمة قبل الإفراج وبعده!!!
2- الجزء الثاني من السيرة المقتضبة
3- تتمة الجزء الثاني من السيرة المقتضبة...




1739771530730.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى