الآن تنتهي الفرجة على العالم أيها المعلم!
وردة من أجل عيسى الحلو (1939 – 2021)
لم تكن المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الموت، عن خوفنا منه، وعن لا جدوى السعي إلى الحرية طالما أنه هناك. لكنه لخص في هذه المرة (أبريل 2014) ما يراه في كلمات مقتصدة أكثر، إلا أنها قاطعة، وكأنه قطّرها من خمسة وسبعين عاماً – وقتها – عاشها مراقباً كل شيء في وجوده ذاته. قال لي يومها إن "الموت نقيض الحرية، واستمرار التفكير فيه يقتل حيوية الحياة ويجعلك كمن يحيا في الموت. أنا لم أسأم العيش لأفكر كثيراً بالموت. الحياة قبل الانخراط في اللحظة المعاشة تحتمل أكثر من طريقة للعيش، لكنك حين تنخرط في هذه اللحظة داخل قالب سلوكي محدد، ثم تنتهي اللحظة، فأنت تشعر بأنك لم تتحقق كذات في هذه الحياة بكل طاقة الإرادة المبدعة، لذا نكرر ما عشناه في الماضي لأننا لم نستطع إنجازه بالكامل".
آمن عيسى بالأفكار، فلم تخدعه النبالات المتوهمة للكاتب، ولا الرسالات السيزيفية للكتابة. يقول: "أفضل ما فيّ أن الأفكار تجري في دمي.. نعم، ليست الأفكار في جهة وجسدي في جهة أخرى [...] الأهداف النبيلة للكاتب، مثل تغيير العالم أو تغيير نفسه، لا تفضي إلى غاياتها. أظن هيمنغواي انتحر لأنه وصل إلى هذه النتيجة. ذلك يشبه ما قاله ماركيز حين مُنح نوبل: "لقد انطلت عليهم الخدعة".
عرف عيسى أن الكتابة مصيدة، وانها بعد ذلك قيدٌ للخيال، ثم إنها اعتقادات مغشوشة بالقدرة، لكن مع ذلك ظل يكتب، لكن ليس كما يكتب الكتاب عادةً؛ من موقف محدد سلفاً، أو من إيمان غير ناضج بالإمكان. قال: "لم أقل بعد ما أريده. يبدو أن ما أريد قوله ضخم جداً وغامض، إذ كلما حاولت قوله أجده أفلت، لذا لا أحب أياً مما كتبت، أحس أنها تضييع للوقت.. شيء لا جدوى منه. أحب القراءة أكثر، ففي القراءة يبدع القارئ العالم بخيال خلاق وغير محدود ولا محدد. أما في الكتابة فالخيال يتحدد وينحبس بين دفتي الكتاب ولا يمكن تغييره. باختصار: الفرجة على العالم أسهل من صناعته بكثير [...] بعد كل هذه السنوات أعرف أن العالم مخيف. نحن فقط استأنسناه وأسقطنا عليه مشاعر الألفة".
وداعاً أستاذي عيسى الحلو.. صانع المدينة الأخير.
(ما بين علامات التنصيص من حوارات بيننا من أجل مادة عنه في سنة 2014)
محفوظ بشرى
شبكة الصحفيين السودانيين (S. J. Net)
عيسى الحلو، وداعاً أيها القلم المرئي الجميل..
وإذ يحتضن ثرى أم درمان الجسد، ويلتحم القلب مع تراب المدينة العاصمة التي شادها الأسلاف، بالدم ومعاني القومية.
يتسامى الى جنان الرضوان اليوم، الأديب الصحفي والقاص الروائي والناقد المثقف والتربوي المُعَلَّم أ. عيسى الحلو، بعد أن وخط على كتاب الدهر عبقري كلماته، وفجَّر ما بين الأجيال سلاف نبوغه الفذ، في سلك التعليم، هادياً ومربياً قلَّ أن يجود الزمان بنظيره، وفي دروب صاحبة الجلالة، قلماً وعطاءاً ومسيرة، نديَّة الجانب، وفي مسير الثقافة والأدب، كان بلاغة النبوغ وفرادة الأسلوب الصمد، رسماً وإسماً رنان الصدى في كرنفالات مشهد ثقافة القرن العشرين.
ومنذ يفاعته الأولى بكوستى، والى بخت الرضا- التعليم التربوي، كان روحه القلقة المبدعة تحمل عبء الواجب تجاه الأجيال القادمة، وتصج متمردة في خصم تيارات الفلسفة ستينيات القرن المنصرم وذروات الحراك الفني والأدبي والسياسي التي خيم على العالم هاتيك الظلال، متجهاً بنبل فريد صوب محراب الملاحق الثقافية والأدبية، سادناً للأسئلة خدناً للأدب وسلاف اليراع، فكيف به، عميداً لسلك صحافة الأدب والثقافة في السودان، على ما يناهز نصف القرن زماناً، وما يعادل البحيرات العظام، في درس النقد والتفكير والتفكيك، في خضم النص الحديث، ومنتهى الأدب والتاريخ.
وإذ تنعي شبكة الصحفيين السودانيين الأستاذ عيسى الحلو، فإنما تنعى لأهل الصحافة والإعلام في البلاد، والى شعب السودان كافة، قلماً أعطى وما إستبق حرفا، ومسيرة هي أهلٌ للتنكب والاحتذاء، وعناويناً شتى ما بين الرواية والقصة والدرس النقدي، هي محل أكاديميا ودراسة، أسفاراً ماهلات في المكتبة السودانية.
نسأل الله أن يجزيك عنَّا
الحسُن والخير من الجزاء
وداعاً أستاذنا عبسى الحلو
"أيها الوجه المرئي الجميل"
ححححح
وردة من أجل عيسى الحلو (1939 – 2021)
لم تكن المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الموت، عن خوفنا منه، وعن لا جدوى السعي إلى الحرية طالما أنه هناك. لكنه لخص في هذه المرة (أبريل 2014) ما يراه في كلمات مقتصدة أكثر، إلا أنها قاطعة، وكأنه قطّرها من خمسة وسبعين عاماً – وقتها – عاشها مراقباً كل شيء في وجوده ذاته. قال لي يومها إن "الموت نقيض الحرية، واستمرار التفكير فيه يقتل حيوية الحياة ويجعلك كمن يحيا في الموت. أنا لم أسأم العيش لأفكر كثيراً بالموت. الحياة قبل الانخراط في اللحظة المعاشة تحتمل أكثر من طريقة للعيش، لكنك حين تنخرط في هذه اللحظة داخل قالب سلوكي محدد، ثم تنتهي اللحظة، فأنت تشعر بأنك لم تتحقق كذات في هذه الحياة بكل طاقة الإرادة المبدعة، لذا نكرر ما عشناه في الماضي لأننا لم نستطع إنجازه بالكامل".
آمن عيسى بالأفكار، فلم تخدعه النبالات المتوهمة للكاتب، ولا الرسالات السيزيفية للكتابة. يقول: "أفضل ما فيّ أن الأفكار تجري في دمي.. نعم، ليست الأفكار في جهة وجسدي في جهة أخرى [...] الأهداف النبيلة للكاتب، مثل تغيير العالم أو تغيير نفسه، لا تفضي إلى غاياتها. أظن هيمنغواي انتحر لأنه وصل إلى هذه النتيجة. ذلك يشبه ما قاله ماركيز حين مُنح نوبل: "لقد انطلت عليهم الخدعة".
عرف عيسى أن الكتابة مصيدة، وانها بعد ذلك قيدٌ للخيال، ثم إنها اعتقادات مغشوشة بالقدرة، لكن مع ذلك ظل يكتب، لكن ليس كما يكتب الكتاب عادةً؛ من موقف محدد سلفاً، أو من إيمان غير ناضج بالإمكان. قال: "لم أقل بعد ما أريده. يبدو أن ما أريد قوله ضخم جداً وغامض، إذ كلما حاولت قوله أجده أفلت، لذا لا أحب أياً مما كتبت، أحس أنها تضييع للوقت.. شيء لا جدوى منه. أحب القراءة أكثر، ففي القراءة يبدع القارئ العالم بخيال خلاق وغير محدود ولا محدد. أما في الكتابة فالخيال يتحدد وينحبس بين دفتي الكتاب ولا يمكن تغييره. باختصار: الفرجة على العالم أسهل من صناعته بكثير [...] بعد كل هذه السنوات أعرف أن العالم مخيف. نحن فقط استأنسناه وأسقطنا عليه مشاعر الألفة".
وداعاً أستاذي عيسى الحلو.. صانع المدينة الأخير.
(ما بين علامات التنصيص من حوارات بيننا من أجل مادة عنه في سنة 2014)
محفوظ بشرى
شبكة الصحفيين السودانيين (S. J. Net)
عيسى الحلو، وداعاً أيها القلم المرئي الجميل..
وإذ يحتضن ثرى أم درمان الجسد، ويلتحم القلب مع تراب المدينة العاصمة التي شادها الأسلاف، بالدم ومعاني القومية.
يتسامى الى جنان الرضوان اليوم، الأديب الصحفي والقاص الروائي والناقد المثقف والتربوي المُعَلَّم أ. عيسى الحلو، بعد أن وخط على كتاب الدهر عبقري كلماته، وفجَّر ما بين الأجيال سلاف نبوغه الفذ، في سلك التعليم، هادياً ومربياً قلَّ أن يجود الزمان بنظيره، وفي دروب صاحبة الجلالة، قلماً وعطاءاً ومسيرة، نديَّة الجانب، وفي مسير الثقافة والأدب، كان بلاغة النبوغ وفرادة الأسلوب الصمد، رسماً وإسماً رنان الصدى في كرنفالات مشهد ثقافة القرن العشرين.
ومنذ يفاعته الأولى بكوستى، والى بخت الرضا- التعليم التربوي، كان روحه القلقة المبدعة تحمل عبء الواجب تجاه الأجيال القادمة، وتصج متمردة في خصم تيارات الفلسفة ستينيات القرن المنصرم وذروات الحراك الفني والأدبي والسياسي التي خيم على العالم هاتيك الظلال، متجهاً بنبل فريد صوب محراب الملاحق الثقافية والأدبية، سادناً للأسئلة خدناً للأدب وسلاف اليراع، فكيف به، عميداً لسلك صحافة الأدب والثقافة في السودان، على ما يناهز نصف القرن زماناً، وما يعادل البحيرات العظام، في درس النقد والتفكير والتفكيك، في خضم النص الحديث، ومنتهى الأدب والتاريخ.
وإذ تنعي شبكة الصحفيين السودانيين الأستاذ عيسى الحلو، فإنما تنعى لأهل الصحافة والإعلام في البلاد، والى شعب السودان كافة، قلماً أعطى وما إستبق حرفا، ومسيرة هي أهلٌ للتنكب والاحتذاء، وعناويناً شتى ما بين الرواية والقصة والدرس النقدي، هي محل أكاديميا ودراسة، أسفاراً ماهلات في المكتبة السودانية.
نسأل الله أن يجزيك عنَّا
الحسُن والخير من الجزاء
وداعاً أستاذنا عبسى الحلو
"أيها الوجه المرئي الجميل"
ححححح