مقتطف د. محمد عبدالفتاح عمار - "سفر: الزعماء" من رواية اسفار الوطن والجراح

سفر: الزعماء​



القطار أخذني من ذاتي، ألقى بي في دوامة الحياة، أشعر بضيق لو أقدر أن أنزل لنزلت لكني أعلم أنني لن أنجح في أن أهرب إلى أين... صخب وضجيج الحياة من حولي أرغب في أن أنام يومًا دون كوابيس.. كوابيس النوم أخف من كوابيس اليقظة.. أحلم بأنني أعيش حرًّا طليقًا، هذا أمر يبدو مستحيلاً الغربة تتنازعني، غربة المكان وغربة الزمان، لا مفر من مواجهة الواقع والعيش في الدنيا والانخراط فيها ولو على مضض.

لم يطالعني وجهه القبيح، أشعر براحة نفسية؛ كفاني ما أشعر به وما أحسه حين أرى هذا المشوّه الغامض الذي لا أدري أهو بشر أم روح خبيثة، جني، ربما يكون عنده ذرة من مشاعر أن يتركني في حالي تلك اللحظة، من العدل أن أذكر أنه كان يتركني أيامًا حين ينغص عليّ الواقع وتنفتح جراحه من كل الاتجاهات.

نظرت من نافذة القطار، كانت الحقول تتأهب لحصاد القمح ، تبدو الأرض بلون شاحب.. قليل من الأرض مزروع مكلل بخضرة كوجه حسناء خرجت وقد عصبت رأسها بطرحة سمراء وحملت «بلاص» لتملأه من حنفية المياه العمومية التي اختفت منذ عشرات السنين، لكن للأسف شوّه وجه الخضرة والحسناء تلك البيوت الخرسانية التي تناثرت وسط الزراعات كأنها بؤرة.. أثر لجرح أو ورم سرطاني، قيح خلف وراءه ندبة لتصدم من يحدق في وجه هذه الحسناء، أشحت بوجهي إلى الفضاء الطليق.. يشعرني براحة وسكينة يبعدني عن واقع صلب جاف تفاصيله دقيقة وموجعة.

أشعر أن حياتي حائط قديم في بيت يوشك على الانهيار معلق عليه صور، كل صورة لها حكاية وكل حكاية بها آلاف الكلمات حتى لو كانت تخص شخصًا واحدًا، تفاصيل متعددة، كيف يتحمل هذا الجدار كل ذلك؟ لا أدري، فقط الجدار يبدو أنه يستمد وجوده، قوته، من كل صورة مهما كانت بساطتها أو صغر حجمها، ربما لو نزعت واحدة هوى الجدار.. على الجدار صور من الطفولة.. صور من الصبا.. صور من الشباب.. صور باهتة.. صور ناصعة.. صور حزينة باكية وأخرى تشع بالبهجة ضاحكة.. يحسبون أعمار الناس بالأيام أما أنا فأحسب عمري بعدد صوري العالقة على جدار النفس.

صور أتمنى ألّا تغيب عن عيني، وصور أتمنى ألّا تراها عيني، كل من الصور يدق على باب نفسي لا أعرف كيف يمكن لي أن أعيش إلى الأبد مع الصور التي أحبها لا أفارقها، وكيف أهرب إلى الأبد من الصورة التي أبغضها.

أقدم صورة على حائط نفسي صورة لنعش يمر في شوارع قريتي استقر في حوش المدرسة التي لم أكن التحقت بها بعد، كانت «أمي جميلة»، كما كنت أناديها، التي تعمل عندنا، تحملني على كتفها والدموع تملأ عينيها ومن حين لآخر تطلق صرخة مدوية ثم تتمالك نفسها حين تجدني أبكي بشدة من الخوف، فأنا لا أعرف ما يحدث، الأستاذ قاسم العسيلي يبكي ويهتف، أنا لا أذكر من الهتاف إلا كلمة «ناصر» أو «عبدالناصر».. الآلاف من أهل القرية يهتفون خلفه والدموع في كل العيون تقريبًا، عبدالناصر كان المن والسلوى، الحلم الذي انكسر، ولم يصدق أحد حتى بعد الهزيمة، قيل إنها نكسة، انتكاسة، لا نسمي الأشياء بأسمائها، نهرب من الواقع، قالوا إنه سيعود سيحارب من جديد سينتصر ستختفي إسرائيل من خريطة الوجود كل الشعب سيتعلم ولا أحد سيتألم المرض سيختفي.. المصانع، البيوت، الحقول، حزنت على ناصر.. الحلم الوردي، بكاء النساء، خشيتهن من أن يتبدد إلى الأبد، ألّا يعود.. لم أكن أدرك ذلك، أدركته بعد عشرات السنين.. لكن طالعت أهداف الثورة وبحثت حولي عمّا تحقق منها كان مسخًا مشوّهًا.. بحثت عن التعليم فلم أجده، عن العدالة الاجتماعية فلم أجد إلا تغييرًا في مواقع السيادة وتبادلاً لكراسي السلطة والمراكز الاجتماعية فقط وما زالت العدالة غائبة والبحث عنها ما زال جاريًا، والعدو كان يجثم على سيناء، والانفتاح البذيء كان يسري كدم ملوث في جسم مريض يحتاج إلى تغيير الدم فأصابه بسرطان هل يبرأ منه، لم أدرك ذلك كله إلا في زمن الانفتاح، من بدد أحلامك يا ناصر، من سرق مجدك، لا أدري، لكن ذاكرتي لم تنسَ هذا اليوم الجلل التي كانت قريتي تبكي ناصر رغم وفاته وتحلل جسده ربما لأن وقع كلماته وطهارة يديه كانت لا تزال تدق الرؤوس وتقرع الآذان، إنه زعيم ولو كسرت الحرب ظهره، المتحولون نهبوا الثورة، حلم بها وأخلص لها تقريبًا دون أغلبية من رفاقه شغلهم جمال أهل الفن ونعومة الجسد، متابعة أهل الطرب دمرت طائراتنا على الأرض، لم يسمح لها العدو أن تحلق في سماء مصر أُمّ الوجود.

أذكر تمامًا أنه لا أحد من عائلتي كان موجودًا رغم أني شاهدت أختي الكبيرة في البيت تبكي، قيل لي فيما بعد إن حبها لناصر أنها كانت تسير على الكورنيش بالإسكندرية وهي طفلة بصحبة والدي وأنها لوحت للزعيم فوقف كأب لكل المصريين ومد يده وسلم عليها، ربما نوع من الإخلاص، أما أمي فقالت لي فيما بعد إن والدتها أوصتها إذا ذهبت القاهرة أن تزور قبر عبدالناصر وتقول له رسالة عن أمها (لا سامحك الله)، بعد أن سلبها أرضها المؤجرة، ملَّكها فعليًّا لمستأجريها لينعموا بها بينما بقيت جدتي لا تستطيع أن تكمل أجر الدواء من إيجار الأرض بعد أن امتد بها العمر، الحقيقة أن مشاعري مختلطة وكنت أتصور أن جثمان عبدالناصر الذي يتحدثون عنه في هذا النعش، ثم اكتشفت أنه تُوفّي منذ سنتين وأن تلك ذكراه ووقر في قلبي أنه لا بد أن من يخلفه هذا الرجل الذي تبدو عليه الهيبة ولسانه لا يتوقف عن نطق عبارات لها قوة المدافع وحدة الصواريخ، إنه الأستاذ قاسم العسيلي، ومن يومها وقعت في نفسي رهبة من هذا الرجل لم يُزِلها سوى مزاحه مع أبي وإخبارنا وهو يمازح أبي أنه كان يكتب خطابات غرامية باسم أبي لمحبوبته وابنة عمه قبل أن يخطب له والده أمي، وأكرمني الله بأني صاحبت الأستاذ قاسم العسيلي أيامه الأخيرة فكان كالشعراء في الفصاحة، والساسة في تحليل الأحداث لكن ينقصه الدهاء، طيب القلب يسهل خداعه، به شيء من الخفة، ولما تشعّب الظلم في عهد مبارك أخبرني أن جدي عبدالحميد التقى بعد الثورة بعبدالحكيم عامر باعتبار جدي كان أصغر سجين سياسي في ثورة 19 وحكم عليه بالإعدام وخفف الحكم إلى السجن، قال لي الأستاذ قاسم إن جدي عبدالحميد عن طريق ابن عمه الذي كان مديرًا للكلية الحربية ومعلمًا لضباط الثورة التقى بالمشير عبدالحكيم عامر واحتد النقاش بين الثائر والضابط، فكادا يشتبكان بالأيدي وقال جدي تعبيرًا عن ذلك إن مصر من أسوأ إلى أسوأ، وأخبرني أن أحدًا في القرية لم يصدقه وأضافوا أنه ربما حَنق من جدي لما حاق بأسرته ولو فقدها لهيبتها السياسية، ولكنهم أدركوا يومًا بعد يوم صحة كلامه، الأستاذ قاسم قال إن جدك قال «لقد كان الظلم في مصر فوضى فنظمت حواشيه فصار ظلمًا منظمًا»، وشرح لهم بمقولة مختصرة «كان الإنجليزي يقول لك إنك مصري جربوع أما بعد الثورة سيقال لك وفقًا للميثاق أنت مصري لك حقوق ولكنك أيضًا جربوع»، وأغرب ما قاله «والله لتشربوا المية بطابور يا أولاد الكلب»، وضحك جدي ضحكة عالية.

وكانت قريتي أول قرية في مصر تطبق ديمقراطية حقيقية لا تمثيلية وهمية كما حدث في عموم مصر وفي كل الانتخابات بأنواعها وصورها، واختارت قريتي زعيمًا لها ورفضت أن تنتخب أحد أبناء الأسر الكبيرة التي كانت في خصومة تاريخية مع أسرتي والتي كان يساندها الأستاذ قاسم نكاية في أسرتي وتاريخها السيئ مع أقاربه لاسيما قتلى واقعة السراي، أما أسرتي التي كانت بها العمدية فلم ترشح أحدًا من افرادها ، ووقفت مع منافسه الذي كان رجلاً عصاميًّا شديد الذكاء والحنكة، والقدرة على اكتساب الناس، لأدبه وأدب أولاده الجم، والذي اعتبره البعض مهادنة، أمّا أنا فكنت أراه حقيقة لا مراء فيها واعتبرته عائلتى امتدادًا لها ونجح واغتاظ الأستاذ قاسم الذي كنت أحسبه خليفة عبدالناصر.

وشيئًا فشيئًا سار العمدة الجديد على نهج ثورة يوليو التي محت تاريخ أسرة محمد علي، فمع الفارق الشاسع في الحالتين وفي الاتجاهين الفاعل والمفعول به، ففي عهده مُحي ما يتعلق بذكرى عائلتي فالمسجد المسمى باسم العائلة تحول إلى المسجد الوسطاني، أما الوحدة الصحية التي كانت باسم وحدة الزين الصحية، أحد أبناء العائلة كان قد تُوفّي في ريعان شبابه، فلها حكاية خُطَّت بدموع الأسى والحزن المأسوي فقد تبرعت ببناء الوحدة عمته دولت هانم التي أفنت شبابها عليه رافضة الزواج لوفاة والده وأعمامه الاثنين وبقائها وحيدة لكونه آخر ذَكَر في هذا الفرع من العائلة وكان ذلك هو السبب المعلن لرفض الزواج أما الحقيقة فإنها أيضًا إلى جانب ما تقدم كانت ترى أنه لا يوجد من يناسبها من حيث الأصل والعراقة، شعُرت بذلك حينما أقامت الدنيا ولم تسمح لها بالقعود حتى أزيل كشك من الجريد أعده فراش المدرسة بجوار سور حديقة منزلها رأيتها وهي تعنف أولاد عمومتها ولم أفهم ما قالته من أنه لو حدث ذلك في وقت آخر لأرسلت عريضة لأفندينا لجلد هذا الصعلوك وقد كان ذلك تقريبًا في غضون عام 1974، والحق أنني لم أعرف أفندينا إلا حينما وعيت وأدركت من أمي أنه كانت في أخريات أيامها قد أصيبت بحالات غريبة نتيجة للحزن وعاشت في زمن غير الذي نعيش فيه ، وتذكرت زيارة الخديوى التى عاصرتها وهى صبية فى مطلع القرن ، ولم تعد تعرف إلا وفاة زين العابدين ابن شقيقها فكان طبيعيًا أن يصيبها ما أصابها بعد أن فقدت أهم شيء في حياتها بل حياتها كاملة ذهبت أدراج الريح، وطال حزنها عليه وكان حزنًا لا مثيل له حتى صارت مضربًا للأمثال، فلم تُدخِل الكهرباء كسائر بيوت القرية وظل ليلها حالك السواد لم تبدده لمبة من الجاز اعتادت على إنارتها عقب صلاة المغرب، رغم ثرائها، كما أنّها لم تشعل موقدًا للطبخ ولم تأكل لحمًا، وإن أطعمته لمن يعملون في خدمتها الذين كانوا يحبونها رغم قسوتها الشديدة عليهم بفعل الزمن وما حاق بها من مآسٍ، ولم تهنأ بأي طعام فاخر، عاشت تأكل لقيمات من العيش الأسمر والجبن الفلاحي، ولا تفارقه إلا لطعام أكثر خشونة، ولم تجف دموعها بعد أن فارقت الابتسامة شديدة الرقي وجهها ناصع البياض الذي تحول إلى ورقة ذابلة في شجرة جفت من حولها ينابيع الماء، ولم تخلع الملابس السوداء واتشحت بها نهارًا وليلاً لم تكتفِ بسواد الليل الموحش، وحزنت حزنًا يفوق أشد الناس جهلاً رغم أنها تعلمت في مدرسة الفرير بالقاهرة، ولم تسمح لأحد أن يدخل حجرته، التي ظلت كما هي إلى أن لحقت به بعد قرابة العشرين عامًا وأرادت تخليد اسمه بالتبرع بحديقة منزلها لتكون وحدة صحية وأوقفت عليها فدانين من الأراضي الزراعية، ونازعها الورثة على استحياء ولم يجرؤ أحد منهم أيًّا كانت مكانته أن يعارضها في ذلك لقوة شخصيتها من ناحية واحترامًا لظروفها من ناحية أخرى إلا أنهم استردوا الأرض بعد موتها وتحولت وحدة الزين الصحية إلى الوحدة الصحية القروية واختفت ذكرى الزين نهائيًّا.

كما انتشرت في العهد الجديد لقريتنا حكايات الظلم والاستبداد وانتهاك بهوات العائلة لحرمات النساء وشملت تقريبًا كل أفراد العائلة ورددت الألسن أن عبدالمجيد بك كان يهتك عرض العروس قبل دخلتها وأنه عاش حتى وصل به انتقام السماء إلى أنه تسول الطعام بينما القمل يزحف على سائر جسمه، والحق أن أحدًا من العائلة لم ينكر ذلك، ولم أسمع من يدافع عنه بل البعض أكد ظلمه وانتقام السماء من أفعاله، وفي المقابل طمست تمامًا ذكرى عبدالحميد بك الكبير الذي شارك في تأسيس الحزب الوطني القديم وأنشأ شركة مع مصطفى كامل وأعلام الحركة الوطنية عام 1906 رأسمالها عشرون ألف جنيه لطبع جريدة اللواء باللغتين الإنجليزية والفرنسية خارج البلاد ورهن بسببها ألف فدان للبنك العقاري تعرف بعزبة طلعات بمركز الدلنجات ولم يستردها وأشاع أصحاب العهد الجديد أن الأرض رهنت بسبب الفشخرة والبذخ الذي صاحب زيارة الخديوي لعبدالحميد بك وكأنها حفلة افتتاح قناة السويس، وتردد في أصداء القرية أن آخر عمد العائلة وأشقاءه وأبناء عمومته، وبالطبع جدي الذي جعل من الدوار الملحق بمنزلنا كُتابًا لتحفيظ القرآن، كانوا لا يعرفون من الدنيا غير الظلم والنساء والخمر بينما كانت رفوف مكتبة المسجد الوسطاني مزينة بتفسير رائع للقرآن الكريم باسم «التفسير الميسر» أعده شقيق آخر عمد العائلة المستشار حافظ بك الذي استقال خصيصًا لهذا الغرض، وقدم له الشيخ عطية صقر وكان وقتها شابا من علماء الازهر ، ويبدو أن أحدًا من قريتنا التي زخرت بمثقفي عهد الاشتراكية وبعدهم عهد رجال التيار الديني لم يسمع شيئًا عن هذا التفسير حتى تاريخه رغم وجوده للحظتنا الراهنة في ذات المكتبة. وأفرزت الديمقراطية الشعبية التي مارستها قريتنا تعديًا واضحًا على أملاك الدولة من بعض الأهالي والبناء عليها وعلى حرم الطريق المرصوف دون أن تجد من يتصدى لها خشية أن يفقد العمدة الجديد التأييد الشعبي الذي حظي به.

عاش الأستاذ قاسم وكنت أرى فيه أنه يستحق أن يكون زعيمًا أو رئيسًا لمجلس النواب لديه جرأة غير عادية وقوة شخصية لولا ما به من هنات يسيرة، المهم تضاءلت أحلامه ليكون عمدة للقرية لاسيما أنه كان حانقًا على عمدتها السابق الذي جاء بالإرادة الشعبية، وتحت وطأة الخوف من العودة إلى ما قبل يوليو 1952 فقرر الترشح للعمدية.

ويحكي الأستاذ قاسم، ومعه عدد غير قليل، عن منافسه أنه شخص من أبناء الفلاحين وأنه كان تاجرًا للأقمشة ولأكفان الموتى، ولولا أنه تاجَر وسمسر مع بعض كبراء عائلتي في أنقاض بيوت أجدادهم ما كان له شأن، وينافس الأستاذ قاسم نفيسة الشيخة في أمثالها الشعبية حينما يستعرض أحوال القرية وأحوال مصر كلها ويدق الأرض بعصاه ثم يمسكها من وسطها ويهزها لأعلى وأسفل كمروحة تدور نصف دائرة ويختم حكاياته بحسرة واضحة في نبرة صوته، ويزداد وجهه احمرارًا على احمراره الواضح بقوله: على رأي المثل «الأنصص قامت والقوالب نامت». ويمص شفتيه ويردد بحرقة: «زمن يا أولاد»، ويطيل في نطق حرف الألف، ويكمل: «لا والله، دي الحطرب اللي قام ومش قام وبس دا رفع راسه كمان»، و«الحطرب» في لغة قريتي هو بقايا الطوب الأحمر المكسور.
وكان الأستاذ قاسم يريد أن يصبح عمدة، لِمَ لا، والعمدة يريد أن يورثها لابنه رغم أنه كان من عامة الناس، يقول الأستاذ قاسم «هو مفكر نفسه حسني مبارك»، ولا ينسى الأستاذ قاسم أن ينال من عائلتي ولو من بعيد قائلاً «هو حيفتري زيهم ما هم كانوا مفترين وفسدة ما هو كان تابع لهم»، أما هو فيرى نفسه مربيًا للأجيال ومثقفًا ومقصدًا للغلابة لنيل حقوقهم من الجهات الحكومية، إلا أنه صرف نظر بعد أن أصبحت العمدية بالتعيين والتعيين يعني العلاقات وأحيانًا يعني الهدايا لكل وظيفة شرطها خاصة في زمن مبارك، عاود الأستاذ قاسم حلمه القديم ورشح الأستاذ نفسه في الانتخابات النيابية، بعد أن صَدق وهم الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، وقفنا معه وخلفه وأمامه إلا أن العمدة ورجاله بالطبع حاربوه بشدة، للعداء القديم، ومن أظرف ما شاهدت أنه خطب خطبة في إحدى القرى المجاورة فصفق الناس حتى كادت أيديهم توشك أن تدمى، كان مقنعًا وبارعًا وصادقًا، وحينما ظهرت الانتخابات حصل من هذه القرية على صوت واحد أو صوتين على ما أذكر، أدركت حينها أن العائلة والمال والعلاقات الاجتماعية وتزوير الشرطة أهم من المعرفة والثقافة والعلم والإدراك وأدركت أن سمعة الانتخابات لا يمكن أبدًا أن تكون نزيهة ولا يمكن أن تتطهر السياسة أيًّا كان مستواها من روائحها الكريهة التي تزكم الأنوف الطاهرة.
ومن الصور التي لا يمكن أن أنساها وأنا في الصف الأول الإعدادي حينما بكيت أيضًا في طابور الصباح وأنا ألقي كلمة فطرية كتبتها ولم يراجعها أحد معي عن مقتل الرئيس السادات، كنت أحب السادات بشدة رغم أني كنت في الإعدادي كنت متصورًا أنه يعيش معنا وكنت أسمع عن الانفتاح والفساد ولم أدرك أنه بذرة كانت في عهد ناصر ونمت وترعرعت في عهد السادات وأثمرت وفرعت وأنجبت حولها ألف زرعة وزرعة في عهد مبارك.
لم تكن قريتي بعيدة عنه، الانفتاح جلب إلى القرية رؤوسًا تحمل فوقها الدشداشة والعقال وسيارات فارهة تدق باب «هنيات» التي كانت شابة جميلة وللاسف تم ضبطها في قضية آداب مع جار لها، لم تجد مفرًّا من أن تتكسب من الانفتاح بعد أن حُفظت القضية أصبحت تاجرة للرقيق الأبيض لكن بطريقة قانونية، موردة أساسية للحوم الصبايا لعواجيز العرب، الزواج الرسمي، الزواج العرفي، لا يهم، المهم كم سيدفع، لكل قطعة سعرها وسمسرتها بحسب السعر، ويمكن الفرجة قبل الشراء.. كم فتاة رقرقت الدموع عينيها وهي راحلة من القرية إلى بلد النفط، إلى مصير مجهول، البعض منهم يتقبل بسعادة والبعض على مضض القلب المكوي بحب الجار أو زميل الدراسة التي لم تكتمل بسبب العوز، كل شيء يهوي في مقابل أن يتملك الأب الأرض التي يستأجرها إلى غير أجل محدد.. شكرًا سيدي الرئيس عبدالناصر ملّكتنا نصفها غصبًا من المالك وملّكنا الرئيس السادات النصف الآخر بملاليم جاءت من جيوب العرب إما بالهجرة لبلدهم وإما بإلقاء صبايانا على فراشهم الحريري ولا بأس من تجديد الدار وشراء الكاسيت والتليفزيون الملون.. وشكرًا سيدي الرئيس مبارك فقد اشترينا الأرض وحوّلناها إلى مبانٍ وأصدرت حكومتك ورجالك التعليمات بوقف الإزالة وإيصال المرافق عند كل انتخابات لينجح نواب الحزب الوطني وتسقط مصر في هاوية الجوع والفاقة.

لم تكن هنيات وحدها هي ممثلة الانفتاح ورمزه في قريتنا بل كان أيضًا الخواجة «باقي بخيت» وشهرته «خلة» وولده «سيمون» ينتظران القادمين من بلاد الخليج والأردن والعراق حيث يغبون من أكياس الجنيهات الورقية التي استولى عليها خلة من أخيه مرقص ويأخذ هو الدولارات التي جاءت معهم أو بتحويلات صفراء كوجوه الموتى، جمع الخواجة ثروة طائلة اشترى بها عشرات الأفدنة وعبث بها سيمون كما يشاء مع بعض الساقطات خاصة أنه يقطن بجوار عمي سعيد المسلمي الذي كان أبوه مسيحيًّا وأسلم ورغم تقواه وورعه شغلته العبادة عن ابنه سعيد فأصبح سعيد أشهر تاجر مخدرات في محافظة البحيرة دخل السجن عشرات المرات لكن تعاونه مع رجال الشرطة وتوريده لعدد لا بأس به من المتعاطين جعل المحاضر تعد بطريقة لا تفضي إلى أكثر من حبسه احتياطيًّا لتستيف الأوراق وإظهار نشاط رجال المباحث ويخرج عمي سعيد ويقيم ليلة ذكر يذبح فيها خروفًا أقرن ويطعم الدراويش وفي الغالب تكون ليلة تسليم البضاعة الجديدة أو تقطيع البضاعة إلى تعميرة وتحويلها إلى قرش ونصف وربع، لم تكن بلدنا عرفت بعد البانجو الذي ظهر كأحد صور التقدم والإنجازات في منتصف عهد مبارك وعلى نطاق واسع حتى زرعه البعض فوق أسطح المنازل.
وحتى حينما أفاقت القرية على حادث جلل وهو احتراق سيارة الخواجة وابنه عند العودة من الإسكندرية بعد أن غيرا الدولارات وأحضرا ذهبًا يبدو أن التجار أرسلوا وراءهما من يتكفلون بأمرهما وقال البعض وهم يمصون الشفاه «يمهل ولا يهمل.. ذنب أخوه الخواجة مرقص»، ويجزمون بأنه دس له السم في الطعام لينفرد بالثروة ومحل الدهب حيث كان أولاد مرقص لم يبلغوا السادسة بعد.
أما المسلماني فقيل إنه تاب إلى الله بعد أن مات ولده الوحيد في حادثة قطار شهيرة وجمع كل فلوسه وتبرع بها وقرر أن يذهب ليحج إلى بيت الله الحرام.

غير أن الانفتاح لم تنقطع صلته بقريتنا فقد ترك بثورًا على وجهها وأوهن من طهارتها الكثير فانتشرت تجارة الخردة والأسلاك الكهربائية المسروقة وقضبان السكك الحديد والأهم من ذلك أن هنيات بعد أن انقطع الطريق بيننا وبين العرب افتتحت مشروعًا لبيع اللحوم المجمدة التي كان يستوردها رجل الأعمال الشهير توفيق عبدالحي وأوراك الفراخ التي تشبه البجع واللنشون وسلع ابتهجت بها القرية لم نسمع عنها من قبل واشرأبت رأس القرية لشعورها أنها تنافس المدينة.
ولم يكن ذلك هو الوجه الأخير للانفتاح، كان هناك وجه آخر ارتسمت ملامحه على وجه الدكتور كامل الدستاوي الذي لا يكف عن لعن السادات رغم أن لحيته كانت تصل إلى نصف صدره وهو لا يزال في كلية الطب معلنًا بصفته أمير الجماعة في قريتنا أن السادات سبب كل شيء ولم أكن أفهم كثيرًا ما يعني ذلك وكنت لا أحبه أخاف طلعته وأشعر أنه انثل من صخر الجبل ارتقى المنبر عنوة، وأنذر أهل القرية باللعنة والثبور وعذاب القبور لاحتفالهم بالمولد النبوي والصلاة والسلام عليه عقب الأذان كلها بدع ستحرقون بها في النار، جذبه أهل القرية من على المنبر، قاوم أصدقاؤه وزملاؤه في الدراسة والعقيدة الجديدة الوافدة إلينا.. صدرتهم المدينة لنا يحملون دينًا جديدًا لا نعرفه.. جاءوا بوجه للإسلام غير الذي نؤمن به ونحبه.. قيل إنهم هم الذين هدموا ضريح سيدي الأربعين وإنهم أحرقوا عدة الزفة والدفوف ولبس الدراويش والرايات.. اختفى الدكتور كامل وخفت صوت أصحابه لكن بعض أقوالهم بدأت تتسرب في النفوس وتتسلل إلى قلوبهم وشيئًا فشيئًا لاح لأصحاب الوجه الجديد مسجد على حافة القرية أقيم بالجهود الذاتية وأموال لم نعرف من أين أتت، أما ما لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة فتلك المعركة الشرسة التي شهدتها وأنا في طريقي للمقابر بعد صلاة العيد بمسجدنا المجاور للبيت، أصروا على إقامة الصلاة في الخلاء فقاومهم بعض شيوخ القرية وسالت الدماء خاصة بعد محاولة فرقة منهم التربص بنساء القرية ومنعهن من زيارة القبور قبل صلاة العيد كعادة ألفناها، نذكر أمواتنا عند كل عيد ونبكي لفقدهم عند كل فرحة تطل بوجهها دون حضورهم بعد أن غيبهم الموت بعيدًا في القبور، وإن كانت قبورهم قريبة عند حافة القرية.
لم يؤثر في عقلي ولا قلبي كلام الدكتور كامل جاري وظل ما تعلمته على يد الشيخ محمد فرحات راسخًا في أعماقي لذلك لم يمنعني سباب الدكتور للسادات رغم أني حزنت على سجن كامل واعتقاله وكدت أبكي لبكاء أمه عليه لم يمنعني كل ذلك من البكاء بحرقة يوم مقتل السادات ربما لأني خشيت أن ينفض السلام ويذهب أخي إلى حرب يعلم الله هل سيعود منها أم لا.
تلك كانت صور قديمة لكنها راسخة، أما أحدث صورة معلقة على جدار نفسي فهي غير واضحة ربما تكون بكائي في الجزء العلوي في شقتي في دمنهور لحظة تنحي مبارك، كنت مدركًا ومغتاظًا للفساد الذي في عصره، ظلم وزير الداخلية زكي بدر ومن بعده حبيب العادلي، غياب العدالة الاجتماعية، الضغط النفسي الذي مُورس عليّ لإنهاء موضوع رجل الأعمال وغيره وغيره... إذن، لماذا بكيت بحرقة؟
لا أدري، هل مشاعري غلبت عقلي، هل إنسانيتي أقوى من القناعات السياسة ومرارة الظلم وتزوير الانتخابات التي عانيت منها مع ابن خالتي وصديقي الذى أُسقط فى الانتخابات رغم نجاحه الحقيقى اكثر من مرة ، هل اختفاء الدكتور كامل الدستاوي جاري لسنوات عقب مقتل السادات ثم ظهوره ثم اعتقاله في عهد زكي بدر وخروجه شبه محطم وأمه جارتنا التي كف بصرها وأبوه الذي أنفق كل ما يملك من مال باع القيراطين اللذين يملكهما وعمل أجيرًا ليتخرج ابنه في كلية الطب لا ليدخل ابنه غيابات السجون كهوف الاعتقال تحت الأرض كل ذلك لم يحرك فيّ ساكنًا، لم يجعلني أشمت في مبارك.. كيف ذلك؟
لا أعرف، بكيتُ حتى احتقن وجهي ولم أستطِع أن أفهم كيف كنت أقول أحيانًا لو جاء مبارك بابنه جمال يستحق القتل لن تتحول مصر إلى عزبة جمال أبدًا، ألفت فيه قصائد وصفته بالظلوم والجهول وكافور الإخشيدي ومع ذلك لا أعرف لماذا بكيت، هل بكيت انكسار الإنسان، ذل النفس؟ لا أعرف. يقولون إننا شعب عاطفي، هل تذكرت له بعضًا من صنيعه، شيئًا من الرخاء في عصره، تحسنًا في الحياة ملحوظًا، ورفاهية طرقت الأبواب، مدنًا جديدة، مواصلات، كفاح زوجته وقضائها على شلل الأطفال، مكتبة الأسرة اقتنيت منها أكثر من خمسمائة كتاب، تذكرت معركة العاشر من رمضان، الطيران المصري يدك حصون العدو، مبارك كان قائدًا للطيران، يسخرون منه، السادات كان واعيًا، لا يمكن أن يختاره نائبًا إلا وهو يرى أنه أهل لذلك، لا أدري ربما كل ذلك، وربما كنت أخاف من القادم.. الله أعلم.

أكيد هناك أيضًا صورة لي أنا وبعض الزملاء في المحكمة في ميدان سيدي جابر أنا وأولادي نهتف ضد مرسي «ارحل ارحل.. غور يا اللي بديع عملك طرطور»، أزعم أني صاحب هذا الهتاف، رفضت أن يُشتَم مرسي بأمه، شاركت كل يوم حتى رحل مرسي، رغم سلبيتي أثناء ثورة يناير وبعد نجاحها كنت أشعر بغيرة خفية حين يظهر ثوار البرامج التليفزيونية وبعض الزملاء ممن ركبوا الموجة وتصوروا أنها ثورة ستعيش إلى أبعد من القرن الواحد والعشرين لماذا لا أكون واحدًا منهم حتى تُردد الناس اسمي.. وبعد ثلاثة أعوام، خانتهم الأحداث، حمدت الله أني كنت في قريتي أشاهد عن بعد احتراق نقطة الشرطة رمز الدولة فيها ولم أشارك بأيّ عمل واكتفيت بمعاينة مبنى أمن الدولة المحترق، خاصة بعد تحويل زملائنا إلى مجالس التأديب وسحبهم من على منصة القضاء وإلقائهم في الشارع.

لماذا الصور السياسية فقط هي التي معلقة على جدار نفسي؟ نظرت ووجدت إطارًا فارغًا شعرت أنه للصورة التي ستكون فيما بعد لو مد الله عمري وأنا أمسك يد حفيدي عام 2060 تقريبًا في ميدان التحرير الذي خفت على وظيفتي القضائية من الذهاب إليه في يناير2011 وأنا لا أعرف هل من كان فيه عملاء أم شرفاء أم خليط، لم يعطني أحد الحقيقة وأنا حتى هذه اللحظة لم أكوّن رأيًا وربما لن أكوّن رأيًا في القريب العاجل. المهم أحس أنها ستكون لي أنا وحفيدي ودبابة ربما لن يكون واقفًا فرحًا على الدبابة مثل يوم 28 يناير، ربما يكون واقفًا أمامها معترضًا على نزولها للميدان، الصورة غير واضحة فقط.. جمع من الناس.. دبابة.. أنا وحفيدي.. طائرة تشق عباب السماء.. التفاصيل لم تتضح بعد.

التفت حولي كان ثمة عرق على جبهتي رغم أن تكييف القطار يعمل لكنه يعمل كأي جهاز حكومي بشري أو غير بشري بجزء قليل من طاقته عمدًا أو إهمالاً، مسحت وجهي بمنديل ورقي وتأهبت للنزول إلى القاهرة التي أسميها «آكلة البشر» حيث أذوب فيها وأشعر أني انشطرت أمام مبانيها العالية الشاهقة وسياراتها والأشخاص والزحام الرهيب الذي لا أدري كيف يتحمله سكانها رغم أني في أعماقي أتمنى أن أعيش فيها والحمد الله لم يكن يتعقبني في تلك اللحظة إذ إنه رأف بحالي لشدة الذكريات وجسامتها على صدري الذي بدأت الحساسية تسري فيه دون سبب واضح اللهم إلا أنه كما قيل لي من الأطباء ولم أصدقهم من آثار الأدوية، رغبة في الهرش، واحمرار في الوجه، وتورم في عموم الجسم خاصة الشفتين لعلهما تصمتان للأبد.
أما محطة القطار فكانت تحمل لي مفاجأة غير متوقعة، لمحت شخصًا يبدو من الخلف محمود صديقي، أسرعت الخطى أدركت أنني لن أصل إليه بعد أن عبرنا الحاجز وخف ضجيج القطارات ناديته محمود، التفت يبحث عن الصوت كان هو بالفعل.

- بتعمل إيه عندك؟

رد دون أن يجيبني:

- وأنت؟

قلت:

- أنا ذاهب إلى مولد الترابي.

- مين الترابي؟

- دي قصة ملكش فيها.

- أيوه ما هي دي عادتك، تلاقيه شيخ من بتوعك.

- أيوه، تيجي معايا؟

- ياريت.

- رايح فين بصراحة.

- رايح لخالي يشوف لي حل، تصور تخطوني وجابوا مدير عليّا أحدث مني؟

- ليه؟

- بيقولوا قريب واحد قيادة كبيرة.

- في الجيش؟

- معرفش.

ظهر جامد.

- وخالك؟

- ما أنت عارف إنه كان في المخابرات.

- بس دا معاش؛ يعني ملوش لازمة.

- اخرس.

ضحكت بشدة:

- أهي محاولة.

إلى اللقاء.. إلى اللقاء.

بعد أن خطا بعيدًا ناديت عليه:

- محمود..

- أيوه.

- سلملي على الثورة.

- حسلملك على الترماي.

- مفيش ترمايات يا فلاح.

- حسلملك على المترو، ولا أقول لك خلي الترابي بتاعك يدعو لي هههه...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى