سفر: المكان والزمان
اسمها حارة الخوخة درب الحطابة، الحطابة هم الرجال الأشدّاء يلعبون لعبة الحطب (المبارزة بالنبوت)، حينما تريد الوصول إليها عليك أن تركب إلى السيدة عائشة. أيّ مكان يرد فيه اسم أهل البيت يخشع المصريون له، يرتجف قلبهم حبًّا، يدق الحسين على أعتاب مشاعرهم، تطمئن النفوس بأهل البيت، إنهم النجوم الزاهرة في مصر والقاهرة.
قرأت ونقبت عن أهل البيت، السيدة الشريفة عائشة من أولاد جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين الناجي الوحيد من معركة كربلاء، قلبي معلق بهذه المعركة منذ أن سمعت قصتها من أمي، زين العابدين كان طفلاً صغيرًا في حجر السيدة زينب، هو ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وثبت أنها قدمت إلى مصر وسكنت فيها، ظل قبر السيدة عائشة حتى القرن السادس الهجري مزارًا بسيطًا يتكون من حجرة مربعة تعلوها قبة ترتكز على حطتين -صفين- من المقرنصات، إلى أن أحاط صلاح الدين الأيوبي عواصم مصر الإسلامية الأربع، الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة بسور واحد حتى يحصن البلاد من هجمات الصليبين، ففصل هذا السور قبة السيدة عائشة عن باقي القرافة، فرأى صلاح الدين أن يقيم بجانب القبة مدرسة، كما أنّه فتح في السور بابًا سمّاه باب السيدة عائشة، وهو المعروف بباب القرافة.
المسجد الآن بشارع السيدة عائشة عند بداية الطريق إلى درب الحطابة وأعاد بناءه الأمير عبدالرحمن كتخدا في القرن الثامن عشر، عزمت أن أصلي فيه ركعتين، يوجد بالواجهة الغربية للمسجد بابان بينهما المئذنة التي لم يبق منها سوى الدورة الأولى وقد كتب على الباب البحري ما نصه:
مسجد أمه التقي فتراه* كبدور تهدي بها الأبرار
ذو عباد الرحمن قد أرخوه* تلألأ بجبه الأنوار.
وكتب على الباب القبلي ما نصه:
بمقام عائشة المقاصد أرخت* سل بنت جعفر الوجيه الصادق.
وقد كتب على باب القبة ما نصه:
لعائشة نور مضيء وبهجة* وقبتها فيها الدعاء يجاب.
إذا أنت في رحاب أهل البيت اطمئن؛ أهل البيت يحمون من في رعايتهم، من في ولايتهم، لا يضام لهم زائر ولا يغلب لهم نصير ولا يشقى لهم محب لن يظهر ذلك الوجه القبيح ليتني بقيت عمري في أحضان أهل البيت واسترحت من زخم حياة أتعبتني مواجهتها.
تمر بمسجد الرفاعي ويتصور الناس أنه مدفون به سيدي أحمد الرفاعي الذي تنتمي إليه الطريقة الصوفية الرفاعية وقد أخذت منهم عهدًا وأنا طفل صغير وكنت أحضر موالدهم، أكلت معهم الفول النابت والعيش الجاف البلدي محروق الحواف مصنوع في بيوت أبناء الطريقة، والحقيقة أن المسجد لقب بمسجد الرفاعي حيث كان في موقع بناؤه قديمًا «زاوية الرفاعي» نسبة إلى الشيخ المدفون بها علي أبي شباك الرفاعي الموجود قبره بالمسجد حتى الآن، وبعد بناء المسجد نُسبت التسمية طبقًا لما هو مكتوب على جدران المسجد إلى الشيخ العارف بالله السيد أحمد الرفاعي المدفون بالعراق، وجد أحمد الصياد والد الشيخ علي أبي شباك طالعت في كتب التاريخ أن خوشيار هانم منشئة المسجد أنها أم الخديو إسماعيل مدفونة فيه وابنها وبعض من أفراد أسرتهم حتى فاروق آخر ملوك مصر المتوجين أو الحقيقين مصر مر بها بعده ملوك كثر يحكمون من وراء الستار فى كواليس الحياة منعمين أكثر من فاروق ربما حتى لحظتنا الراهنة تجاوزوا الألف فاروق وفاروق الذي مات خارج البلاد ربما كان طامعًا في عفو رب المسجد خالق البشر، وطالعت أيضًا في الكتب الموبوءة بأمراض الكذب والنفاق أنها أسرة ضالة لا تعرف إلا استعباد المصريين وسرقة أموالهم لإقامة الحفلات والقصور وموائد الطعام المزينة بأشهى أنواع الخمور، ياللعجب كنت من كثرة ما قرأت التاريخ المزيف تصورت أنهم لا يعرفون الله ولا يصلون له، إنهم ملوك للخمر ونساؤهم للفحشاء والمنكر.. سلام عليكم أيها الأسرة العلوية، الفاتحة على أرواحكم التي توارت مع أجسادكم في هذا المسجد أكيد إنكم كنتم تخافون الله وإلا لما بنيتم قبوركم في مساجده في بيوته أكيد طمعًا في مغفرته ورغبة في نيل شفاعة نبيه، ولو اعتراف بخطأ وذلل، لكنه ود ومحبة لن يتخلى الله عنكم بعفوه ومنه وفضله.
وفي مواجهته يربض مسجد السلطان حسن ، أنشأه السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون خلال حقبة حكم المماليك البحرية لمصر، المسجدان يشعرانك بأنهما يحرسان القلعة، يحرسان القاهرة، إنهما يحكيان تفاصيل دقيقة عن أزمنة ولّت وانتهت، لكنك تنجذب إليها.. لا مفر من عشق هذا المكان.. كيف يذوب البشر في الحجر.. كنت أتصور أن يتكلم الحجر، يتحدث بلغة الصمت، كلمات الهمس، أبجدية غير أبجديتنا أما أن يذوب البشر في الحجر فلم أشعر بحقيقته إلا وأنا أنظر إلى مئذنتَي المسجدين.. إنهما يحتضنانك كما يحتضنان القاهرة العتيقة أو مصر القديمة كما يقول أهل القاهرة.. أصعد باتجاه القلعة تحديدًا إلى جوار القلعة، الحارة بيوتها نحتها الزمن، ملامحها تحاورك عن عهد المماليك إلى عهد محمد علي لم تتغير كثيرًا لم تؤثر فيها ثورات مصر المتعاقبة الصادقات منها والكاذبة، تنحني حين تحاول دخول بيوت الحارة، كان لدينا باب مثل أبوابها ملحقًا بجزء المنافع بمنزلنا كنا نسميه باب الخوخة، طوال عمري أتوهم أن الجغرافيا في خدمة التاريخ لا يلتقيان لا بد أن تكون الغلبة إما للجغرافيا وإما للتاريخ، الصدام بين جمود المكان وهمس الزمن، الصراع بين صلد الحجر وحركة التاريخ.. هنا لا.. كلا ثم كلا.. التاريخ والجغرافيا يتعانقان، يتفقان على أسري، استرقاقي، لأصبح طوع أيديهما أمشى خلفهما.. سيكلمك الحجر سيحكي لك التاريخ المهم أن يكون قلبك قادرًا على أن يسمع، على أن يفقه.. إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
عشت أشتكي من صراعي مع الزمان والمكان، الجغرافيا القائمة والتاريخ المتحرك حتى الحاضر أكرههما، أبغضهما أحس أنهما يطارداني يستحلان حياتي، أحاول الفكاك منهما لا أقدر، أما هنا فلا أدري لماذ أعشق المكان، أحن إلى الزمان.. المكان هنا لا تشعر أنه منسوب إلى الحاضر إلى الحيز الذي نعيش فيه.. الزمن توقف عند أعتاب الزمن الجميل.. لم يدخل إلى زماننا.. لم يصل إليه بعد الزمن الذي يطحننا من هول ما نلاقيه فيه.. أنا الآن على أعتاب عالم أحبه الجغرافيا والتاريخ لأول مرة يمسكان بيدي.. ينتشلاني من الشعور بالغربة.. هل كان أهلي الذي انحدرت من ظهورهم يعيشون في هذا المكان.. هل روحي كما يقول البعض بتناسخ الأرواح سبق لها أن طافت بهذا المكان، عاشت فيه من الأزل.. لا أدري.. الذي أدركه أن حملاً ثقيلاً سقط من على ظهري.. نفسي المشبعة بالأسى والخوف من الزمان والمكان أصبحت كعصفور صغير أخضر اللون يطير في سعادة يرفرف في سماء حديقة غناء.. لا قيد.. لا قفص.. لا خوف من سهام الصياد وشباك الحياة المميتة وشركها المفزع.