2-
كلّ النسوة متأهّبات ، فقد كان يوما ليس كبقيّة الأيّام ، لم يكن الإبكار لإشعال مجامر الفحم في وسط الدار ، وجلب الماء من سيدي الجليس إلاّ عادة يومية لنساء الحارة والدّار ولرجالها على حدّ سواء ، لكنّ ما رافقها من شغف محمّل بجرعة من الوطنية و الفخار هو ما جعل ذاك اليوم مختلفا ، أشرقت شمسه على غير عادتها ... شعاع يوحي بسعادة واعدة ، فلا غرابة وقد انتظر الجميع زيارة العندليب الأسمر "عبدالحليم حافظ"، تلك الزيارة المنتظرة التي جعلت كلّ نسوة الدّار يعجّلن في قضاء شؤون بيوتهنّ و إعداد الغداء الذي حضر على غير العادة قبل إعداد أباريق القهوة على ما تبقّى من سحاق الجمر ، فلم يحظ قِدر من قدور النسوة بقطعة لحم ، لولا ما استعاضته من عولة خليع الزير المخزّن .
كنّ ينتظرن ما تجود به " اللاّ العطرة" من أخبار حول زيارة العندليب وليس بمثل تلك الأخبار و لا غيرها بالتي تخفى عن العطرة ، سيّدة نساء الحارة ، فالكلّ يقدّرها ويتقرّب منها بالهدايا والهبات ، و الكلّ يهمّ بتزويدها بالأخبار من معارف والدها وزوجها المتوفّى ... أخبرت العطرة النسوة بأنّ العندليب سيغنّي في ملعب " تروبان" (ملعب الشهيد رمضان بن عبد المالك حاليا) ، طرن فرحا وقد دنا الأمل السعيد من أغلبهن ، وتبدّت في وجوههنّ أمارات الرضا ، فبضع خطوات توصلهنّ إلى الملعب لن تحول دون حضورهنّ ، ولن تثير امتعاض رجالهنّ .
اشتدّ الخصام بيني وبين " مراد" (ابن جارتنا اللاّ ياسمين ) ، كلانا يرغب بشدّة في أن يذهب بكيس حبّات البن المحمّص إلى مطحنة سيدي بوعنابة ، يا لغرابة الموقف ! لم يكن مراد يطيق تلك المهمّة المملّة ، فكيف يصرّ على أدائها اليوم ؟ في تلك الأثناء دخل " عمّي رابح " ( والد عبد الحكيم بوعزيزالذي ربّاه ) ، وشهد خصامنا ، ولم يملك إلاّ أن قال :
ــــ دع عنك مهمّة طحن القهوة ، الشوارع آهلة بالناس و الحرّاس ، و فلّة شاطرة ستتدّبر أمرها ، أمّا أنت فستكون معي ضمن المدعوين من فنّاني المدينة الذين كلّفوا باستقبال الفنان الكبير عبد الحليم حافظ .
ابتسم مراد ابتسامة وشت بما غمره من فرح ، فبعد أن كان يتحجّج بكيس البنّ لرؤية ضيف قسنطينة ، ها هو سيحضر كفنّان رفقة عمّي رابح ، أشار لي بحاجبيه مجاكرة وقال كالمتحدّي :
ــــ سأكون مطربا كبيرا مثله قريبا يا فلّة .
غادر إلى حيث أخذ زينته كاملة و حمل العود رفقة عمّي رابح وخرجا والسعد يحذوهما والفخار يراودهما عن غير تردّد ، وما وجدت نفسي إلاّ و أنا أغبطهما على ما خصّهما فنّهما به من سعادة ...سارعت لحمل الكيس وركضت به نحو الخارج وقد سبقني شغفي للتجوّل في أزقة المدينة ، فحتّى أمّي لم تمطرني كعادتها بالوصايا والتهديدات إذا ما تأخرت ، ولم يكن ليهمّها الأمر على النحو الذي كانت توصيني في سائر الأيام .
...... يتبع .......
كلّ النسوة متأهّبات ، فقد كان يوما ليس كبقيّة الأيّام ، لم يكن الإبكار لإشعال مجامر الفحم في وسط الدار ، وجلب الماء من سيدي الجليس إلاّ عادة يومية لنساء الحارة والدّار ولرجالها على حدّ سواء ، لكنّ ما رافقها من شغف محمّل بجرعة من الوطنية و الفخار هو ما جعل ذاك اليوم مختلفا ، أشرقت شمسه على غير عادتها ... شعاع يوحي بسعادة واعدة ، فلا غرابة وقد انتظر الجميع زيارة العندليب الأسمر "عبدالحليم حافظ"، تلك الزيارة المنتظرة التي جعلت كلّ نسوة الدّار يعجّلن في قضاء شؤون بيوتهنّ و إعداد الغداء الذي حضر على غير العادة قبل إعداد أباريق القهوة على ما تبقّى من سحاق الجمر ، فلم يحظ قِدر من قدور النسوة بقطعة لحم ، لولا ما استعاضته من عولة خليع الزير المخزّن .
كنّ ينتظرن ما تجود به " اللاّ العطرة" من أخبار حول زيارة العندليب وليس بمثل تلك الأخبار و لا غيرها بالتي تخفى عن العطرة ، سيّدة نساء الحارة ، فالكلّ يقدّرها ويتقرّب منها بالهدايا والهبات ، و الكلّ يهمّ بتزويدها بالأخبار من معارف والدها وزوجها المتوفّى ... أخبرت العطرة النسوة بأنّ العندليب سيغنّي في ملعب " تروبان" (ملعب الشهيد رمضان بن عبد المالك حاليا) ، طرن فرحا وقد دنا الأمل السعيد من أغلبهن ، وتبدّت في وجوههنّ أمارات الرضا ، فبضع خطوات توصلهنّ إلى الملعب لن تحول دون حضورهنّ ، ولن تثير امتعاض رجالهنّ .
اشتدّ الخصام بيني وبين " مراد" (ابن جارتنا اللاّ ياسمين ) ، كلانا يرغب بشدّة في أن يذهب بكيس حبّات البن المحمّص إلى مطحنة سيدي بوعنابة ، يا لغرابة الموقف ! لم يكن مراد يطيق تلك المهمّة المملّة ، فكيف يصرّ على أدائها اليوم ؟ في تلك الأثناء دخل " عمّي رابح " ( والد عبد الحكيم بوعزيزالذي ربّاه ) ، وشهد خصامنا ، ولم يملك إلاّ أن قال :
ــــ دع عنك مهمّة طحن القهوة ، الشوارع آهلة بالناس و الحرّاس ، و فلّة شاطرة ستتدّبر أمرها ، أمّا أنت فستكون معي ضمن المدعوين من فنّاني المدينة الذين كلّفوا باستقبال الفنان الكبير عبد الحليم حافظ .
ابتسم مراد ابتسامة وشت بما غمره من فرح ، فبعد أن كان يتحجّج بكيس البنّ لرؤية ضيف قسنطينة ، ها هو سيحضر كفنّان رفقة عمّي رابح ، أشار لي بحاجبيه مجاكرة وقال كالمتحدّي :
ــــ سأكون مطربا كبيرا مثله قريبا يا فلّة .
غادر إلى حيث أخذ زينته كاملة و حمل العود رفقة عمّي رابح وخرجا والسعد يحذوهما والفخار يراودهما عن غير تردّد ، وما وجدت نفسي إلاّ و أنا أغبطهما على ما خصّهما فنّهما به من سعادة ...سارعت لحمل الكيس وركضت به نحو الخارج وقد سبقني شغفي للتجوّل في أزقة المدينة ، فحتّى أمّي لم تمطرني كعادتها بالوصايا والتهديدات إذا ما تأخرت ، ولم يكن ليهمّها الأمر على النحو الذي كانت توصيني في سائر الأيام .
...... يتبع .......