ليلى تباني - شيء من عطر أمّي.... (3)

(3)

سلكت طريقا بين الأزقة ، اختصرت فيها الوقت ، حتّى أسترق بعضا منه لأعبر على طريق السوابط (لفظة تركية مفردها ساباط وهي ممرات مغطاة على شكل أقواس) كانت الطريق الوحيدة التي توصلني إلى الملعب حيث سيحضر العندليب ، لم يكن يعنيني آنذاك صوته وغناؤه ولا شكله ، بالقدر الذي كان يشدّني المنظر المهيب للناس وهم يتوافدون قبالة الملعب . دخلت طاحونة عمّي حمّو ، حيّيته واستعجلته بطحن البنّ ، متحجّجة بوعيد أمّي ، ترك محمصة البن ولبّى لي طلبي ، أعاده إلى الكيس ،واستلم مني ثمن الطحن وسلّمني قطع الحلوى كعادته لي ولأخي
استلمت الكيس وسرت مهرولة ، نحو وجهتي ، لم أكن أحسّ لقدميّ وهما تقطعان تلك المسافة ، حتّى أنّني لم أكن أعي بالأمكنة التي أصلها و أخلّفها ورائي ، عبرت السوابط وميدان المدفع الذي كان محاطا كليا بالحرّاس، ولم أجد من بدّ إلاّ أن أكبح من سرعتي، فقد اكتظّ المكان بالناس والحراس ورجال الدرك ، انزوت النسوة الملتحفات بالملاءة السوداء في ركن محروس بينما توزّع الرجال والشباب في كلّ الأرجاء فعجّ الممرّ المؤدي الى الملعب عبورا بسجن "الكديا"، لدرجة أنّني كنت اتنقل وسط حشد من الجمهور المتدافع و أنا أشعر بأنّ قدمي لا تلامسان الأرض ، وجدت أنّه من المستحيل أن أكمل المسير ، وسرعان ما تراجعت وعدت من حيث أتيت ، سرت وكيس البنّ بيدي.
بخطوات متباطئة فما هرولت من أجله لم أصله ، فما الدّاعي إلى الإسراع إذن ؟وصلت الدّار فوجدتها قد خلت من الحركة إلاّ قطّ مراد الذي ركن إلى زاوية بوسط الدار تعلوها عريشة دالية مورقة تمتد أفقيا فتغطّي جزءا كبيرا من الداير ... صمت مطبق على الدّار ، بل هو حزن دخيل من صنيع أمّي التي ظلّت وفية لحزنها على وفاة والدي رغم مرور ثلاث سنوات على وفاته، جعل كلّ الجيران يتضامنون معها ويشفقون لحالها فيجاملونها ويتداعون للحزن إكراما لها. دخلت حجرة أمّي فوجدتها تقبع في مجلسها ، تحت شبّاك حجرتها الموارب ، تكابد مرارة الفقد وقساوة التمسك بالتقاليد والأعراف البائسة التي تجعل من الأرملة جثّة مؤهولة بالأحزان تنتظر أجلها، توجّهت بنظرها نحوي وهي تمسك الإبرة والقسطبيلة وترقع بعضا من ثيابنا ، يبدو أنّها تمارضت حتى تداعى جسدها للمرض ، فجعلت من مرضها بل من وهمها سببا لرفضها حضور الأعراس والحفلات والمناسبات السعيدة ، لقد ضاعت منها فرصة حضور حفل العندليب كالحلم ، تماما كما ضاع جزء كبير من زمانها ، أقبلت عليها أحادثها ، فتوقّفت عن الخياطة وبادلتني الحديث ، كنت ــــ ورغم صغر سنّي ـــــــ الأقرب لها ، أفهمها رغم صمتها السَّكوت ، لكأنّني أفهم شغفها بالفنّ والحياة، وأدرك أيضا مكابرتها الشديدة في الإصرار على تلبّس مسحة الحزن والتجلّي بها أمام القريب والغريب ، قالت وهي ترمقني بنظرة استغراب :
ـــ أراك عدت سريعا يا فلّة ، ألم تكن الشوارع مزدحمة ؟
ـــ بلى كانت مكتظة ، وحاولت المرور إلى شارع الملعب ، لكنّني لم أوفّق، رغم ذلك لمحت جماعة من النساء الملتحفات يتجمهرن بالقرب من مدخل الملعب .
صمتت برهة من الزمن وقالت متحسّرة:
ـــ الأكيد أنّ اللاّ العطرة وبناتها ونسوة الدار هناك ضمنهنّ ، ياااه يا ابنتي لو كان والدك معنا ، لكنت رافقته إلى الحفل ، لقد كان محبّا للفن وكلّ الأسطوانات التي أحضرها لا تخلو من أغاني أمّ كلثوم وفريد الأطرش و عبد الحليم حافظ...
فهمت من كلام أمّي أنّها كانت ترغب في الحضور ، لكنّها تداري رغبتها بالتمنّع المصطنع . وضعت كيس البنّ على مائدة المطبخ ، ورحت ألاعب أخي كمال الذي لم يقطع عامه الرابع . أنهيت مشهد الضحية الذي تتقنه أمّي في كلّ مناسبة ، لتبدأ مشاهد أخرى تأتي تباعا بكلّ نسيجها المتنكّر للحياة ، وتظهر في زيّ يوحي بالنهاية والفناء ، حتّى خيّل إلي أنّ أمّي أوّل أرملة على وجه المعمورة ، توفّي زوجها وتركها في أوج شبابها الخصب ... آه لو كان لي ولاء على أمّي و أجرؤ على الإفصاح بما يجثم على صدري ! لكنت واجهتها بما أحدّث به نفسي في كلّ مرّة:
ــــ سيّدة هاته الدّار أرملة ، تركها زوجها هي الأخرى في أوج شبابها رفقة بناتها الثلاثة ، لكنّني لم أر قط حزنا ارتسم على ملامحها ولو من باب الذكرى ، لطالما كانت اللاّ العطرة مثال المرأة القويّة الصامدة المقبلة التي يهابها الجميع ، لكنّها أيضا تلك السيّدة الحنون الكريمة المضياف التي تسعد الجميع أيضا ، ماذا لو كانت أمّي مثلها؟
عادت النسوة متأخّرات في مساء الخميس ذاك ، نزعن ملاءاتهن و اجتمعن وسط الدار قرب الفسقية، يسترجعن لحظات حفل العندليب كانت أمّي تجتمع رفقتهنّ ، فهي منذ الصباح ترقُب قدومهنّ بشغف كبير كانت فالة ابنة العطرة أوّل من بدأت الحديث لتلحقها بقية النسوة قالت كالمغازلة :
ــــ لم أكن أتوقع أن حليم بكلّ تلك الوسامة و الأناقة و البهاء رغم سمار بشرته .
ردّت زهور بامتعاض :
ـــ وهل تكتمل الرجولة إلاّ بالسمار يا فهيمة ؟ لو لم يكن زوجي السي العربي أسمرا لما أخذته .
كان لعتيقة الماشطة رأي آخر ، حيث قاطعتهنّ قائلة :
ــــ أمّا أنا فأسرني صوته العذب و إحساسه ، ليته أكمل الحفل .
قالت أمّي مستفهمة عن السّبب :
ــــ ألم يكتمل الحفل ؟
ـــ للأسف كان تيار الكهرباء عذولا ، انقطع فجأة و أبى إلاّ ان يتوقّف الحفل ، لم يغن حليم سوى أغنية " إلوي إلوي يا دنيا " .والغي الحفل اثرها .
تسامرت النسوة ماشاء لهنّ ، حتّى أنهت أمّي الحديث وقالت بنبرة استسلام :
ـــ من لها زوج فهو تاج على رأسها ، فلتدع الله أن يحفظه لها و لأولادها ، أما العازبات فأتمنّى أن ترزقن بابن الحلال الذي يسركنّ ...
في تلك الأثناء قطعت العطرة حديثهن وقد سمعت منه ما أثار فضولها وقالت كالمعاتبة :
ـــ و أرجو من الله أن يرزقك زوجا يسرك يا "خيرة " ، فأنت في عزّ شبابك و ألف من يتمنّاك ، لم ترفضين العرسان وتدفنين نفسك وسط الأحزان؟
حدجتها أمّي بنظرة مشتّتة المعنى ، وغادرت مجلسهنّ في صمت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى