محمد بشكار - أعتذر عَن كُلِّ ما كَتبتْ..!

لا أعرف لماذا كلما كَتبتُ ندمت أشدَّ الندم على ما كتبني كرها، و كأني اقترفتُ جريرةً لا يمحو حبرَها الأسود إلا الحمَّام البلدي الذي يقبع بدخانه في حومتنا و الذي لشدة سخونته يزيل مع الأوساخ جلود مرتاديه فيبدون في الخروج كالشِّياه المسلوخة لفرط حمرتهم ..!

لا أعرف لماذا أندم بعد كل كتابةٍ كنت أحبُّها تُسعد الناس، و تحول النبض في قلوبهم إلى دَقَّةٍ مراكشية ليرقصوا طرباً، فإذا هي تُقَلِّبُ في أنفسهم مواجع لا تندمل، و مع ذلك يشكرونني على الجُهد الذي بذلته في وصف حالتنا التي لن تزيد بكاءَهم إلا ضحكاً..!

أعتذر عن كل ما كَتبتُ، لأَنِّي فشلت حتى الآن في قول ما ليس بنفسي من باب مجاملةِ واقعنا المعيش الذي لا يرحم بشظفه أحدا؛ كان يمكن أن أغمض عيني، أن أدفع بالتي هي أحسن، أن أغُضَّ الطرْف، أن أتحدث في نفسي، أن أدخل بالحبر الأبيض بدل أن أُسَوِّدَ مع الورق وجوه القرّاء بالحبر الأسود؛ كان علي أن أكْبِتَ ما أكتب و أمضي بعيدا إلى الخلاء لأنفجر بما يقلقني و أكسب حسنة الكاظمين الغيظ، أن أضع القُطن في أذني كي أنصت لعظامي، و أضعه في أنفي كي لا أشم رائحة الفساد التي صارت جيفتُها هي لحمنا الذي نأكله في كل طعام..!

أعتذر للقلم الذي ألقيتُ على كاهله المهيض شللي و اسْتَحْمَلَ ثِقل ما أكتب إلى آخر قطرةٍ في مداده لتفيض روحه الطاهرة مع كلماتي..!

أعتذر للورقة التي تفْقدُ بما أكتب بياضها، و كأني أُسَوِّد صحيفتها بذنوب لم تَقْتَرِفْهَا إلا بيدي..!

أعتذر عن كل ما كتبتُ في الشِّعر الذي استغل جموحي الأرعن حتى زِغْتُ في كل ما سطرتهُ عن الخط المستقيم وزاغ معي الغاوون، فكدتُ أُضَيِّعُ كل فرصة قد تُدخلني الجنة لولا أن رحمة الله واسعة..!

أعتذر للوقت الذي أنفقْتُه بخساً في الكتابة، و لو جمعت ساعاته بعضُها على بعضٍ، لتراكمت فصارت أياما و أعواما ثم عقودا، و لكُنْتُ انتبهت فيها لنفسي و هي تسرقني في حلمها، لاستفدت من عمر إضافي أخصصه لعائلتي التي ما زالت تضع اسمي في ركن المتغيبين عساها تستردني من كلِّ ما أكتب..!

أعتذر لدُور النشر التي طبعَتْ دواويني و لم يَنُبْهَا من الشِّعر الذي هجره الناس إلا كسادا..!

أعتذر لعيْنَيَّ اللتين أطفأتُ ضوءهما في كتابة ما حسبتهُ قد ينير العقول في زمن عمَّته أفكارٌ ظلامية تزهق أرواح الأبرياء..!

أعتذر للحياة التي لم تجد في المسافة التي بين تاريخ ميلادي و مماتي، العمر الكافي لأعيشها طولا و عرضاً..!

أعتذر للكُتب التي تشرئبُّ بأعناقها من مكتبتي تريد أن تنفعني فلا أملك لها بكسلي إلا ضرّاً، و بَدَلَ أن أَقْرَأها أنبطحُ بينها لتَقْرَأَنِي..!

أعتذر لكل النساء اللواتي لم يجدن في شخصيتي مراهقةً مفرطة بطيشها في الهرمونات، و أحببنني سرّا دون أن أعلم، فانتهين إلى كراهيتي و ما زلن يَكِدَنَ لي كيْداً..!

أعتذر لبلادي لأَني قصَّرت في حقِّها أرجُلي و لم أزُرْهَا في غُرفة الإنعاش الوطني حيث تجري كل العمليات الممكنة و المستحيلة، لأجل أن تستردَّ وعْيَها عسى تلحقَ بباقي الدول التي سبقتها في الركب الحضاري..!

أعتذر لأَنِّي لا أستطيع التوقُّف عن الكتابة في واقع أقوى مني حين يستفزُّني و يُمسك بيدي ليكتُبَني كأنه يعبر بأعمى من الرصيف إلى الرصيف في شارع الورقة، غير أن الكلمات في سرعتها أشبه بالسيارات تُكبِّدنا يوميا خسائر في الأرواح بسبب حوادث النشر..!

أعتذرُ لكلِّ من ضيَّع وقته في قراءة اعتذاراتي و لم يجدْ لي في أحَدِها عُذرا..!


(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 12 يناير 2017)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى