طاهر أحمد الزارعي - الساقط في أتون حلم

لا زلت أتوق إلى تفسير حلمي.. ذلك الحلم الطاغي الذي ما زال يقبع في تجاويف عقلي.. ويئن قلبي به كلما تذكر لحظة الارتعاش ولحظة الصراخ ولحظة الاستيقاظ على امتداد الفزع.. وكنت وقتها في قمة الهم واستغراب الفكر وحيرة الذاكرة.
أما وقد وافاني الاستيقاظ الهائم.
نظرت من ثقب نافذة بيتي.. تلك النافذة المتهالكة والتي تفصح عن خارطة الجمال الذي ينزف من طبيعة العالم الخارجي.. شاهدت الجبل القابع على أرض القرية صامداً في كينونته لم يزل متمسكاً بجذور التراب دون حراك.. يا لهوله ويا لروعته!
أظنه بعد حلمي قد كبر قليلاً وتنفس الأفق واعتلت حافته خطوة واحدة.. أو عدة خطوات وهناك تحت متاهات العتمة كان يسكن ذاك الحلم.. رابضاً بملء خيالاته على عتبة القلق والسقوط.
كنت ذات حلم..أتسلق صخوراً صلبة وكبيرة تفترش السفح بحجمها اللااعتيادي وقد أصاب ظهري انحناء مقوس جراء ثقل الحقائب التي عليه! لا أعلم عنها سوى أنها حقائب محملة ثقيلة لم يتسن لي معرفة ما بداخلها.. أردت مواصلة التسلق لكن صخور الجبل القاسية وقفت في وجهي ومنعتني من جادة السير والاتجاه.
أغنيتي الساذجة البسيطة التي كنت أرددها نسيتها..
ألوان الحقائب والثياب التي كنت أرتديها نسيتها..
مسافة التسلق التي تسلقتها نحو الجبل قد نسيتها أيضاً..
الضجيج الذي دار من حولي لم أستطع أن أميزه..
كان ذلك بعد انتهاء الحلم حيث لم أعد أتذكر تلك الأشياء الواقفة أمامي، وحاولت مراراً أن أقتطف موقفاً لأتذكره لكن بلادة ذاكرتي ربما لم تساعدني على إسعاف العقل بتلك الاشياء فهي محاطة بأسوار النسيان ومحبوسة داخل أسلاك التشتت!!
بكيت وأغمدت بقايا دموعي في أروقة صدري..
وقرر العقل أن يفسر كل ذلك.. وأن يحول قناع ذاك الحلم
الذي تقمصني منذ الوهلة الأولى إلى حقيقة وحيدة هي الحقيقة الصادقة.. لم أعد احتمل ذلك.. وأصبح تفسير الحلم أمراً يجب تنفيذه ذهبت إلى أحد مفسري الأحلام كان شيخاً تظهر عليه علامات الوقار نوعاً ما.. عرضت عليه حلمي.. كان منصتاً جيداً إلى حين انتهائي .. أصابته أعجوبة متأنية ما لبث بعدها أن حرك حاجبيه ببلاهة فلم يتخيل حلماً يمثل هذا طرح علي أسئلة مهرولة وكنت أجيبه في حدود المعقول دون مبالغة.
* كم الساعة كان حلمك؟
الساعة الثالثة فجراً تقريباً.
* أين مكان الحلم يا فتى؟
بالطبع في بيتي.
* قل لي بالتحديد؟
في غرفتي المشرفة على جبل القرية.
* ما لون تلك الحقائب التي على ظهرك؟
لا أعلم.
* هل كانت ثقيلة؟
كانت كذلك.
* أتلعم ماذا بداخلها؟
كلا.
* الضجيج الذي سمعته هل كان مؤذياً؟
ماذا تقصد أيها الشيخ.
* أقصد هل يؤذي سمعك؟
كان شديداً على سمعي.
* إذا!
إذا ماذا يا شيخ؟؟
* صمت لحظات.. قبض على لحيته المتخمة بالبياض وأدار بيده المتشققة عليها نصف دورة وأكمل:
كانت تلك الذنوب.
* الذنوب؟
نعم.. الذنوب التي ارتكبتها.
* متى؟
عندما كنت صغيراً.
* ولم هي ثقيلة أقصد الحقائب؟
لأن ذنوبك تلك كانت كبيرة.. كبيرة جداً يا فتى!
لم أكن لأطيل معه الحديث حيث بدت على وجهه آثار ألاعيب.. ترنح بطوله الفارع كالثمل ابتسم في وجهي بسخرية وصفعني بلهجة سؤال حاد:
ماذا ستعمل لتكفر عن هذه الذنوب؟
لم أعره أي اهتمام.. سلمته المبلغ اعتلته ضحكة شاهقة وهجرته وبلهفة مضيت واتجهت إلى الجبل تحت وطأة الليل والمتشح بالسواد تسلقت نصف الجبل بصعوبة بالغة حتى شارفت على نصف نهايته استكنت على صخرة لأزيل التعب رأيت في القمة رسومات ملونة تتحرك في آخره.. أشجار خضراء مثمرة.
ظلالاً وارفة. وحياة مليئة بالحركة والزهو والأفراح تريد استقبالي.
أسرعت من خطواتي اللاهثة على الرغم من صلابة الصخور.. تشبثت بالكثير منها.. أسرعت أكثر إلى مكان الجذب كانت الأرض من تحتي تناديني بصيحات خفيفة.. تركتها لأفوز بالنداء الأعلى.. الأعلى فقط اتضحت الرؤية تماماً.. انخفضت جميع الأصوات وضاق المدى.. تغير لون الأشجار أصبحت مصفرة ذابلة.. اشتعلت الأشجار بكاملها ورحلت الظلال.. واحترقت جميع الثمار.. ولم تعد تلك الحياة كما عهدتها قبيل لحظات.. وتابعت التحديق في المكان والأفق والأرض والمدى حيث تكمن الحقيقة الواضحة.. حملقت في القمة تطاير الشرر في الأمكنة وتلاشت جميع الشواهد وانفتحت فوهات الجبل كفم تنين أدرت عيني في داخل الأجواء أيقنت لحظتها أنني أتسلق نحو الفراغ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى