عوض ابراهيم احمد ارباب - حسناء المآتة، او غادة الغروب.. قصة قصيرة

ليس بالضرورة ان كل ما نمر به فى حياتنا من مواقف واحداث هو من صنع المقادير لوحدها فحسب، فبعضها نحدثه بغبائنا، ونقع فيه بسوء تقديرنا للامور، واندفاعنا الغير مدروس، وعدم إعمال ميزان العقل، وبعضها ربما اخترناه بمحض ارادتنا وشاركنا فى نسج وحياكة خيوطه بايدينا مع علمنا التام بمآلات وتداعيات صنعنا الذى ربما لم نتقنه فيجرنا الى عاقبة وخيمة قد تلقى بنا الى التهلكة، فنكون بذلك كذاك الذى نفخ قربته وربطها ونزل بها الى النهر ليعبره وهو لا يجيد السباحة وحين انحلت العقدة وفرغت القربة من الهواء، صاح الرجل مستغيثا وهو يوشك على الغرق، غير انه لم يجد سوى ردا ساخرا من شيخ طاعن فى السن كان يجلس بالبر وهو يصيح فيه؛ يداك أوكتا وفوك نفخ.
وقصتى رغم ما بها من غرابة، إلا ان نهايتها الطريفة الأليمة فى آن، جعلتنى احمل قلبى فى يدى وقد صار حفنة رماد تذروها الرياح.
صاح ابى وهو يهم بوضع كومة القش فى احدى (عدلتى ) الخُرج؛ ياحامد فك وثاق الحمار وضع السرج على ظهره..
علا نهيق الحمار وهو يحرك اذنيه كأنه يرسل شارة ترحيب معبرا بها عن سعادته بحلول موعد الاوبة الى الديار..
كانت الشمس قد مالت الى المغيب حين بدأ اصدقاء ابى فى التوافد الى حواشتنا، وهم على التوالى بحسب ترتيب قرب حواشتهم من حواشتنا التى تقع فى آخر بيت من النمرة؛ احمد ود المامون الملقب بالدّقّاقة.. سعيد منجل بكسر الميم، وللقبه قصة طريفة لا يتسع المجال لذكرها.. الطاهر بركات، او الطاهر حركات كما يحلو لابى ان يناديه.. وأخيرا عبد الله ود جار النبى..
بدأ هؤلاء الاربعة فى التوافد واحد تلو الآخر، وكان آخرهم عبد الله ود جار النبى حادى ركبنا الذى طالما اشجى مسامعنا بحدائه الذى ينطلق من حنجرته عذبا شجيا فتطرب لسماعه حتى الحجارة الصماء.
اعتدت منذ صغرى على هذا البرنامج الروتينى الذى يتكرر طوال ايام موسم الزراعة، فأبى واصدقائه لا يحلو لهم الرواح الا بصحبة بعضهم بعضا، وقد كان هذا ديدنهم منذ ان وعيت فى هذه الدنيا، وما رايتهم حادوا عنه البته إلا ان يكون لاحدهم عذر، يحرصون على ذلك رغم انهم فى غدوهم يفدون وحدانا..
كنا نمر فى طريق عودتنا برواكيب الرعاة البائسة التى نصبوها على الاراضى البور.. فنراهم وقد تحلقوا حول قطعانهم وهم يتأهبون لعملية الحلب.
وهذا المنظر تقريبا من اكثر المناظر قربا الى نفسى حين رواحنا ساعة المغيب، لا سيما عندما يصل الى اسماعنا ثغاء الحملان الصغيرة وهى تنطلق عدوا بحثا عن امهاتها التى غابت عنها طوال فترة النهار..
فى صغرى كنت اذهب رديفا لابى، وكانت تسكرنى وتنعش روحى رائحة عرقه، التى تضوع كنفثة دعاش زفرت بها تشققات الارض الجرز حين تعانق ذرات ترابها حبيبات المطر.. كنت الصق ارنبة انفى بظهره وانا احيط وسطه بذراعَىَّ الصغيرتين خشية ان اقع على ظهرى فاموت مبكيا على طفولتى، وكنت دائما ما اتخيل نفسى ملقيا على الارض وقد انكسرت رقبتى وفاضت روحى، فأتخيل القبر ووحدتى بين جدرانه التى تضيق وتضيق حتى تنهرس جراء ضغتها القاسية عظامى.. وحين تطوف بذهنى الصغير مثل هذه الخواطر السوداء ازداد تشبثا بأبى خصوصا عندما يرفع الحمار بقوائمة الامامية عاليا وهو يعبر جدولا يمتلىء ماء..
لم اصدق عيني حين رفعت الي بيدها محيية، كانت تقف فى وسط الحقل تحمل فى يدها خرقة بيضاء تشبه علما صغيرا كانت تهش بها على اسراب الطيور التى ادركت ان موعد رواحها قد دنا فازداد شرهها وهى تهجم بمناقيرها الحادة على قناديل الذرة (الملبِّنة ) لتبطن منها حتى لا تعود خماصا كما غدت..
إن بعضا من الصدف ربما كان لها بالغ الاثر فى حياتنا، وقد تغير واقع حياتنا من النقيض الى النقيض، ومن المؤكد ان محاسن الصدف هى وحدها التى جعلت اطار دارجتى الخلفى ينفجر اليوم دون سائر الايام، الامر الذى اضطررت معه لان اسلك هذا الطريق البعيد عن مسارنا الذى اعتادته خطانا..
كنت اسير راجلا وانا امسك بمقود دراجتى حين مررت بفتاتى التى عشقتها منذ اول اشارة.. ما هذا الجنون؟
إننى تركت ابى وصحبه يتأهبون للرجوع عبر طريقهم الذى ألفته حوافر دوابهم، وربما حاديهم عبد الله ود جار النبى الآن يرفع عقيرته بألحانه الطروبة، ومن المؤكد ان سعيد منجل قاطعه مناكفا وهو يسخر منه، فقد كانا كقطبين متشابهين لا يتفقان ابدا.. كنت ترانى فى غاية المتعة وانا اتابع بشغف حكاويهم ومزاحهم ونكاتهم التى كثيرا ما الهمت ود جار النبى بعضا من مواويله، وماكنت لأفارقهم لو لا وجود بعض الوحل على الطريق الذى يصعب معه المسير راجلا لا سيما وانا ادفع بدراجتى امامى..
فى البداية ظننت ان اشارتها ربما هى حركة ارادت بها طرد الطيور التى تزاحمت حولها، ولكنى تساءلت؛ ان كان فعلا ذلك كذلك، فما مغزى تلك البسمة الساحرة التى ارتسمت على شفتيها وهى تشيعنى بنظراتها حتى غبت عنها؟.. ترى ابنة من من هؤلاء العربان الذين يسكنون هذا الحيز من الارض البور، ويعملون فى حراسة المزارع؟.
كنت افكر فيها طوال المسافة التى قطعتها سيرا على قدمى حتى وصلت الى البيت..
لم انم ليلتها.. فقد اجفل طيف غادة الغروب -كما اسميتها لاحقا- النوم من عيني..
وخلال شهر ونصف كنت امر يوميا على غادتى.. وكانت تحيينى بذات الاشارة والابتسامة، وكنت كلما مررت بها ازددت تعلقا وغراما.
كانت فارعة الطول، وفى عينيها الواسعتين حور او هكذا كان يخيل الى، فطوال هذه الفترة لم اكن لأجرؤ على الاقتراب منها، فقد اكتفيت برؤيتها من على البعد الى ان جاء ذلك اليوم، ويا ليته لم يجيئ..
كنت قد قررت مصارحتها بحبى، إذ لم أشا ان تسير الامور على ذلك النحو، حتى لا اكون نهبا للسهد والارق وحرقة الوجد..
استأذنت ابى فى الذهاب بعد ان احتلت عليه، فأذن لى على مضض.. امتطيت دراجتى وانطلقت بها نحو وجهتى.. ركنت دراجتى بجانب الجدول ثم عبرته الى داخل الحقل.. كنت افكر فى ما ساقوله.. سمعت وجيب قلبى وانا اقترب رويدا رويدا.. القيت عليها بالسلام.. لم اسمع منها رد.. يا ويلتاه، ءأحببت صماء؟ اعدت عليها تحيتى مرة أخرى وانا اقترب أكثر.. كانت تنظر الى ببلاهة.. كانت نظرتها ثابتة، لم ترمش.. لم تتحرك.. لم تنبس ببنت شفة.. تسمرت فى مكانى وفغرت فاهى كالمعتوه، وقد الجمت الدهشة لسانى، فغادة الغروب التى احببتها بكل جارحة فيَّ، لم تكن الا خيال مآتة.

عوض ابراهيم احمد ارباب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى