احماد بوتالوحت - ليل المدينة

(1)
مقهى قديم ، كراسي متآكلة، طاولات مخلعة، مطحنة البن التي تضرب عن العمل أكثر مما تعمل ، عصارة القهوة التي تتوقف فجأة دون سابق إنذار . بالداخل عاطلون عن العمل ، متقاعدون ، بائعوا سجائر بالتقسيط ، ملمعوا الأحذية ، سماسرة ، لصوص ، مهربون ، بائعوا الخمور في السوق السوداء .
فضاء معزول عن الزمن ، وعلى الحائط خلف " الكونتوار " عقارب الساعة متوقفة عن الدوران منذ زمن بعيد ، المرآة تعكس رؤوساً ملت منها الحياة وملت هي الحياة ، رؤوساً طحنتها الأيام ، داخلها أفواه بلا أسنان تلوك بذاءات وشتائم ، الضحكات في الأفواه مشوهة كأنها تصدر عن كهوف . شخوص تتشابه في رفضها للحياة ، تلتصق نواصيها بالواجهة الأمامية للمقهى ، تلتهم سيقان وأرداف النساء ، وتستمني في خيالاتها . في هذا الفضاء الممسوخ يتبوأ " مسعود" مقعده ، غارقا في معطفه الطويل المهتريء وطاقيته البنية ، رافعا ياقة المعطف إلى الأعلى درءاً لبرد يتوهمه ، " مسعود" الذي تأخر به الزمن حتى شاخ بين كراسي المقهى وموائدها واعتبره جلساؤه خارجا عن دائرة الموت . إصدقاؤه القدامى تسربوا من عقد الحياة أو هاجروا وتركوا خلفهم مدينة عاهرة مغتصبة من طرف الأغراب ، تغص شوارعها بالعاطلين عن العمل ، وبشحادين جدد وفدوا إليها من القرى المجاورة التي توالت عليها سنون الجفاف والِإمْحَال . الأغراب إستولوا على كل شيء ، الدور الفاخرة والفنادق والحانات ، والمقاهي ، والمحلات التجارية العصرية والسيارات الفاخرة حتى الأرصفة إستولوا عليها ولم يتركوا للراجلين غير الإسفلت يشتركونه مع دواليب السيارات . وحدهم المجانين لم يتغيروا و تشبتوا بأمكنتهم الهامشية القديمة ، ولم يأبهوا للتغيير الذي زحف على الأمكنة وفتح شهية الإستثمار الفاحش الذي لم يحترم فضاء المدينة .
(2)
يتيه "مسعود " في ليل المدينة ، يدخل حانة ، يشرب حتى يثمل ، يثير فيها فوضى ، يلقي به الندل خارجها ، يدخل حانة أخرى تلفظه بدورها ، وهكذا يجد نفسه في شارع المدينة ، يقصد أحد مهربي الخمور، يقتني نبيذاً رخيصاً وفي الحديقة العمومية وعلى أحد الكراسي الذي نُهِبَتْ بلاطاته الرخامية ، يجلس ، يدس القناني تحت مقعد الكرسي ، يحتفظ بواحدة بجانبه ، يفتحها ثم يشرع في الشرب من فمها مباشرة ، كأنه يمص حلمة ثدي ، كان الظلام من حوله كثيفاً رغم الأضواء الكابية التي ترسلها نجوم كسولة علقت في مناطق متفرقة ونائية من السماء ، أرغمته برودة الليل ان يسحب ركبتيه داخل كنزته إلى أعلى صدره ويلتف بمعطفه آخداً وضع جنين في رحم أمه ، أحس بالوحدة والوحشة تنخران عظامه ، سحابة ضيم خيمت عليه ، تذكر أن الموت تأخر به كثيراً ثم كيف أمهله في محطات كثيرة وآخرها في حادث سير ذهب ضحيتها أحد أصدقاءه وخرج هو منها سالماً ، بساقين مهروستين ، أجبرته هذه الحالة أن يقضي شهوراً ينط على عكازين ثم تخلى عنهما فيما بعد قبل ان يستعيد توازنه فمشى متمايلاً يعتمد على الفراغ . لم يصدق أنه أفلت من موت محقق وهو يرى نفسه بعد الحادث يأكل ويمشي ويتغوط ككل المخلوقات ، ولم يدر في خَلَدِهِ أن الموت الذي أفلت منه سابقاً والذي جعله يعتقد أنه اصبح في منجى عنه ، يراقبه الآن وهو يعب نبيذه على مهل في وضعه الجنيني ذلك .كان جسمه يرتعد من البرد ويهتز بفعل أفاويق متكررة جعلته يتقيأ الخمرة التي شربها على معدة فارغة .
ـ رجل بئيس ! قال الموت . ثم أضاف
ـ ماذا سأجني من حرمانه من الحياة التي لم يعشها كما ينبغي لرجل مثله ؟.
كان مقرراً أن يجهز عليه في تلك الليلة ـ ولذلك ركن الموت عربته على رصيف الطريق المسفلت المحيط بالحديقة غير بعيد من المقعد الذي يجلس عليه " مسعود" ـ إلا أنه أمهله هذه المرة كذلك ليتسنى له الإستمتاع اكثر بالحياة . وبما أنه من غير اللائق ان يدخل الموت ملكوت السماء وعربته فارغة فقد قرر البحث عن رجل آخر ، لم يكن ذلك الرجل بعيداً ، كان أحد المشردين الذي ينام على مقعد آخر في ركن مظلم من الحديقة ، عبأ الموت روحه في كيس وساق عربته نحو السماء ، وفي نفس الوقت غادر مسعود مقعده مترنحاً ومترنماً بمقطع من أغنية حزينة . وفي ساعات الصباح الأولى وجد المتشرد متخشباً ومتجمداً ، كما يحدث بين فينة وأخرى لأغلب مشردي المدينة في ليالي الصقيع .


احماد بوتالوحت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى