محمد محمود غدية - العجوز والغياب

في مقهي تخفف من الرواد جدرانه رطبه .. فالوقت شتاء .. فوق مقعد متهالك جلس ذلك العجوز .. محني الرأس علي المنضدة وأمامه جريدة .. في رتابة شيخوخته البائسة .. يتأمل كيف انه قليلاً ما استمتع بالأعوام حين كانت لديه القوة و الشباب .. لكن هذا التفكير الطويل .. يصيب العجوز بالدوار .. عيناه أشبه بجمرتين تتوهجان و تنطفئان .. يخرج من فمه بخار الماء غزيراً لا يمكنه المضي إلي أماكن أخري وبحار أخري .. لا مدن أخري أفضل من مدينته و دائماً تتبعه المدن و ملاعب الصبا و الذكريات .. ما أن يتخلص من يومه الرتيب .. حتي يلي أخر رتيباً مثله .. نفس اللحظات تأتي وتمضي ثم تحدث مرة أخري .. المطر يغسل البيوت و الشوارع أصبحت لامعة .. الناس تختبئ تحت المظلات و مداخل البنايات .. لا يحتسي قهوته في تلذذ كما ينبغي .. لكنه يدفع بها في جوفه مرة واحدة .. قفزت ابتسامة باهته بوجه العجوز .. ربما سبح بخياله إلي الزمن الجميل .. حيث نضارة الشباب والأصدقاء الذين تفرقوا كالأسنان التي تباعدت وتساقطت هي الأخرى بفعل الزمن ..
كحبات المسبحة المنفرطة حين يمسكها خيط واهن .. يركض الآن في بساتين البهجة .. متأبطاً ذراع محبوبته التي لم يتزوجها .. أمام عبثية الحياة التي وضعت في طريقه العثرات .. لأننا في الغالب لا نتزوج من نحب ولا نحب من نتزوج .. ثنائية متنافرة ليست مستغربة .. فلا الزواج توقف و لا أغلقت مكاتب عقود الزواج .. فهي بضاعة رابحة .. قوامها قليل من الحب و قليل من التسامح .. وستدهش للنتائج .
تراجعت ابتسامة العجوز .. حلت مكانها أمتعاضة أظهرت الحفر والتجاعيد بوجهه .
حين توقف أمام أحدي صفحات الجريدة هزته رعشة مفاجئة .. لابد أنه الصقيع وبرد الشتاء .. أحكم غلق المعطف حول جسده الناحل الذي لا يبين و الذي لو أدلي به من شرفة المقهي لأنزلق خارجه .. و بقي معطفه الفارغ منه .. يأتيه النادل بقدح ثان من القهوة فيدفع به في جوفه .. يسقط رأسه علي المنضدة .. مستسلماً لنومٍ ليس هادئاً .. لكنه نعاس خفيف تتبعه إفاقة علي عالم موحش .. و لطمات مفاجئة .. لا يمكن الفكاك منها .. مضت ساعة ورأس العجوز ساكن لا يتحرك .. اقترب منه أحد رواد المقهي الذي أفزعه سكون العجوز المطبق .. في محاولة لإفاقته .. يرفض النادل افاقته قائلاً :
أنه يفعل ذلك منذ عشرين عاماً .. كل يوم يختار نفس المنضدة و المقعد المتهالك
ومعه الجريدة التي لا تفارقه .. لأن بها صورة سيارة ابنه الوحيد التي تهشمت اثر اصطدامها بحافلة بنزين في حادث مروع .. راح ضحيته الابن و الزوجة و الأبناء .. ولحقت بهم زوجته التي تركته وحيداً .

و هذا البالطو الذي يرتديه طول الوقت كان لابنه ..
يمارس نفس الطقوس .. يدفع بالقهوة في جوفه غير مستمتع بها .. مفتقداً لمشاعر الألفة و الدفء ..
في غياب الزوجة والأبناء إنه الآن في إغفاءة قليلة ..
متخففاً من بعض أحماله .. استعداداً لرحيل أطول .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى