لطيفة زهرة المخلوفي - صبايا العنب: موتٌ على الطريق وحياةٌ تُحْصَد في الحقول.

لا يتوقف السحق الطبقي والحيف الجندري الذي يطال عمالة النساء بمختلف وحدات الإنتاج، في تأنيث القطاعات الشاقة والزهيدة الأجر. بل يمتد إلى سفك دمائهن على الاسفلت.
لعل الترجمة الأبرز هي أوضاع العاملات الزراعيات. فما تكابده نساء ضيعات هوارة واشتوكة ..الخ. هو نفسه ما تعيشه نساء حقول العنب وقس عليها في النموذج المصري. حيث تحول الطريق الاقليمي السريع بمحافظة المنوفية صباح الجمعة 27 يونيو 2025، إلى مسرح جريمة مكتملة الأركان. حصدت فيها أرواح 18 فتاة من قرية كفر السنابسة، مركز منوف، إلى جانب وفاة السائق. ونجاة عاملة واحدة.
ارتبطت تفاصيل الواقعة باصطدام الميكروباص الذي يقل العاملات بشاحنة نقل ثقيل تعرف باسم "تريلا" كان سائقها تحت تأثير المخدرات. كانت الفتيات متوجهات إلى بيع قوة عملهن بمزارع العنب بمنطقة السادات، لكن مسار الرحلة تغير فبدل الحقل كانت الوجهة هي القبر.
هذه الفاجعة الأليمة ليست مجرد حادث سير عابر. بل صورة مصغرة لواقع الاستهتار بأرواح العاملات، والإهمال، غياب الرقابة، وانهيار منظومة الحماية الاجتماعية. معظم المتوفيات في سن المراهقة، يعملن في قطف العنب بأجر يومي لا يتجاوز 180 جنيها. تم نقلهن في ميكروباص متهالك على غرار النقل الذي يوفره أرباب العمل، فضلا عن اكتظاظه بأكثر من 22 راكبة، دون أي إجراءات سلامة.

1751689776780.png

وفي هذا الصدد أفادت شهادة الناجية الوحيدة، "حبيبة الجيوشي" بأن الفتيات يجلسن فوق أرجل بعضهن، في ازدحام خانق، دون أحزمة أمان أو تهوية. تقول بحرقة وألم: "كنا بنضحك ونغني، وفجأة كل حاجة سكتت... صحيت لقيت نفسي وسط صراخ ودم."
حادث الطريق الإقليمي لا يمكن فصله عن الواقع البنيوي القاسي الذي ترزح تحت نيره النساء العاملات في القطاع الزراعي. فبحسب تقرير شبكة "سيادة"، تمثل النساء بمصر نحو 45% من القوى العاملة الزراعية، خاصة في المزارع التصديرية التي تتطلب عمالة كثيفة في مهام مثل الحصاد والتخزين. ورغم ذلك تشتغل أغلبهن في ظروف غير رسمية، دون عقود أو تأمينات، ويتقاضين أجورًا زهيدة مقابل عمل شاق يمتد لساعات طويلة.
كما أشارت تقارير أخرى إلى أن 94% من أعمال الحصاد في صعيد مصر تقوم بها النساء، و67% في الوجه البحري، ومع ذلك لا يمتلكن سوى 5.2% من الأراضي الزراعية. كما أن وسائل النقل التي تُستخدم لنقلهن إلى الحقول متهالكة وغير آمنة، وهو ما يفسر تكرار الحوادث المأساوية مثل حادث الطريق الإقليمي والحوادث الكثيرة التي عرفتها الطرق المؤدية الضيعات الفلاحية في النموذج المغربي.
إلى جانب هذا الوضع الهش حيث يتم العمل في ظروف مناخية قاسية، وفي ظل رش الأرض بمبيدات لها تأثيرات على الصحة، في انعدام تام لأدوات الوقاية والحماية. وهو ما عبرت عنه شهادة عاملة زراعية في حقول الطماطم: "نشتغل من الفجر للمغرب، نركب عربية نقل زي البهائم، وناكل طماطم مرشوشة بالمبيدات عشان مفيش غيرها."
فضلا عن كل ما سلف تُمتهن كرامة العاملات الزراعيات بأشكال شتى من العنف الجنسي، حيث الابتزاز عنوان عريض والتحرش سلوك يومي. والحصول على فرص تحسن طفيف في ثقل العمل يقتضي تقديم مقابل جنسي.
يتهافت أرباب العمل للاجابة عن سؤال، من المسؤول ؟ بتزييف الحقائق، وتسفيه جوهر الأزمة لكي يبرئوا أنفسهم. مكتفيين بالقول أن المذنب الوحيد في حادث صبايا العنب نموذجا هو سائق "تريلا" الذي قاد تحت تأثير المخدرات في انعدام تام للمسوولية. لكن انصافا للحقيقة فهو ليس الوحيد الذي يجب توجيه أصابع الاتهام نحوه. بل الشبكة الكاملة التي تنتج وتعيد إنتاج العنف البنيوي، من أبرز ملامحها البنية الطرقية الرديئة، أولا ؛ الطريق الإقليمي يفتقر إلى الإنارة، الإشارات التحذيرية، والمطبات. ورغم أنه عَرف حوادث كثيرة لم يتم التدخل الجاد من وزارة النقل أو الإدارة العامة للمرور. ثانياً ؛ وسائل نقل العاملات هي ميكروباص متهالك، غير آمن ويحمل عددا يفوق طاقته، دون رقابة مرورية. علاوة على غياب معايير السلامة أو التفتيش الدوري على المركبات التي تقل العاملات. وهو ما يكشف مسؤولية الدولة في رعاية جشع أرباب العمل على حساب أرواح النساء.
ثالثاً، عمالة فتيات قاصرات، أعمار الضحايا تراوحت بين 14 و22 عاما، وبعضهن لم يُكملن تعليمهن. فالحاجة الاقتصادية دفعت أسرا كاملة إلى إرسال بناتهن للعمل في ظروف غير إنسانية. رابعاً؛ غياب الحماية الاجتماعية، حيث لا تأمين صحي، لا نقل آمن، لا عقود عمل. فالعاملات في الزراعة من أكثر الفئات هشاشة في سوق العمل المصري، وغالبا ما يُحرمن من أبسط حقوقهن.
شيّعت قرية كفر السنابسة بناتها في جنازات مهيبة، امتزجت فيها الزغاريد بالبكاء، والغضب والصدمة. وهو ما باح به تصريح والد إحدى الضحايا بقوله : "ملك كانت راجعة تجهز لفستان خطوبتها، رجعت في كفن أبيض"،
كان خروج سكان القرية وداعا لبناتهن، ودعوة بالقصاص ومحاسبة كل من تسبب في هذه الكارثة.
وهو ما قابلته الحكومة المصرية بصرف تعويضات لأسر الضحايا (100 ألف جنيه لكل أسرة).
إذا افترضنا أن هذه الإجراءات نفذت هل هي كافية في واقعة صبايا العنب، لم تكن مجرد حادثة مرورية، ليتم الاكتفاء بتعويض الأسر أو اعتقال ومحاسبة السائق. إنها تجسيد حي لتقاطع القهر الطبقي مع التهميش الجندري. فهؤلاء الفتيات لم يُقتلن فقط على الطريق، بل قُتلن قبل ذلك بكثير بالسياسة الطبقية، التي تفتقد لأي بعد اجتماعي، مما فَرض عليهن ترك حجرات الدراسة، والعمل بأجر زهيد، والتنقل في وسائل نقل غير آدمية، دون حماية قانونية أو اجتماعية.
ختاما، واقع النساء في القطاع الفلاحي نتيجة حتمية لتسلط المعنف الأكبر الذي يرعى مزيد من تفقير المفقرين، واغناء الأغنياء خاصة مع توغل مافيات الزراعة التصديرية، في ظل سيادة بنية اقتصادية تُعيد إنتاج التمييز الجندري تحت مسميات "التمكين الاقتصادي"، فتُختزل النساء في أدوار هامشية، ويُنظر إليهن كأيدٍ عاملة رخيصة، لا كذوات لهن الحق في الأمان والكرامة.
تداخل الطبقة والجندر هنا ليس نظرية، بل واقع يومي تعيشه آلاف النساء في الحقول، حيث يُنتج الغذاء بعرق أجسادهن، بينما يُقابلن باللامرئية في السياسات والخطابات.
إن دماء الفتيات على الإسفلت يجب أن تكون لحظة وعي جماعي، لا مجرد رثاء عابر. وعلينا أن نسأل: من يزرع الأرض؟ ومن يحصد الألم؟ ومن يدفع الثمن حين تتقاطع الهشاشة مع الإهمال؟
المطلب هو العدالة لا التمكين، والعدالة لا تبدأ من محاسبة سائق، بل من مساءلة نظام يرى في النساء المفقرات مجرد أرقام في قوائم العمالة، لا أرواحا تستحق الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى