بقلم: المحامي علي أبو حبلة
الفصل الأول: الجدار الذي يزهر
في مدينةٍ تُشبه كل المدن، وجامعةٍ تشبه الوطن في عناده وأمله، كان يقف كل صباحٍ رجلٌ بزيٍّ بسيط، لا يلفت النظر إلا بابتسامةٍ هادئةٍ تشبه صلاة الفجر.
كان الناس يعرفونه من صمته أكثر مما يعرفونه من كلامه. يقف عند البوابة، لكنه لم يكن يحرس المكان فقط… بل كان يحرس شيئًا في داخله، حُلماً مؤجلاً اسمه الطفل الذي لم يأتِ.
سنواتٌ من الانتظار كانت تمرّ كالفصول، تتبدّل وجوه الطلبة، ويبقى هو هناك، يُخفي وجعه بين خطوات العابرين. لم يكن يشتكي، كان فقط ينظر إلى الأطفال أحياناً بنظرةٍ طويلةٍ صامتةٍ كأنها دعاء.
الفصل الثاني: الطفلة التي خرجت من الضوء
في يومٍ رماديٍّ، ظهرت في حياته طفلةٌ صغيرةٌ، كأنها قادمةٌ من رحم الغيم. لا تحمل اسماً معروفاً ولا نسباً واضحاً، فقط عيونٌ واسعةٌ تشبه الينابيع حين تفيض بالماء بعد العطش الطويل.
اقترب منها، فأمسكت إصبعه بثقةٍ غريبة، وكأنها تعرفه منذ الأزل.
في تلك اللحظة، شعر أنه يُولَد من جديد، وأن الفقد الطويل لم يكن سوى تمهيدٍ لمعجزةٍ صغيرةٍ بحجم كفّها.
عاد إلى بيته ذلك المساء، وقال لزوجته بصوتٍ مبحوح:
"وجدت الطفلة التي لم تلدها الأيام لنا، لكن أرسلها الله من رحم رحمته."
ابتسمت المرأة التي أنهكها الانتظار، وقالت:
"إذن فلنُنجبها من قلوبنا."
ومنذ تلك الليلة، تحوّل البيت الهادئ إلى بستانٍ صغيرٍ تُزهر فيه الضحكات.
الفصل الثالث: ولادة بلا دم
كانت تلك الطفلة، التي سمّياها "نُور"، تكبر كما يكبر الأمل في قلبٍ لا يعرف اليأس.
قالت أول كلمة: "بابا"، فارتجف قلبه كمن سمع وعدًا من السماء.
ثم قالت "ماما"، فبكت المرأة وهي تضحك، لأنّ الكلمة حملت لها عمرًا من الانتظار في حرفين.
لم تكن الطفلة من دمهم، لكنها كانت من دعائهم، من سجدةٍ طويلةٍ في جوف الليل، من يقينٍ بأنّ الله لا يُعطي صدفةً، بل حكمة
الفصل الرابع: رجلٌ من ظلال الرحمة
وحين وصلت الحكاية إلى رجلٍ كبير المقام، كان يرى في عمله خدمة الناس لا سلطةً عليهم، مسّه ضوء القصة كما تمسّ الشمس وجه الورد، فقال:
"من أنجب الرحمة يستحق أن يُكافأ بنورٍ من العدل."
فجعل من العلم جسراً لتلك الطفلة، وكتب بخطّه قراراً لا يُنسى، كأنه يُوقّع على وثيقة إنسانية باسم الضمير.
لم يكتب اسماً ولا رقماً، كتب فقط:
“الرحمة تستحق أن تتعلّم.”
ومن يومها، صارت الحكاية تتناقلها القلوب لا الأوراق، تُروى في المقاهي، في الممرات، في دعواتٍ صامتةٍ كل مساء.
الفصل الخامس: ثمار القلب
كبرت "نُور"، وصار الرجل العاديّ رمزاً لبطولةٍ لا تحتاج لدرعٍ أو وسام.
كان الناس يقولون:
“ذاك الذي أنجب من رحم قلبه طفلةً علّمتنا معنى الأبوة.”
أما هو فكان يجيب بابتسامةٍ هادئة:
“الدم يورّث الحياة، لكن الرحمة تخلقها.”
وكانت الطفلة، كلما سُئلت عن والدها، تقول بثقةٍ طفلةٍ تعرف يقينها:
“بابا ما ولَدني… بس الله بعثني لعنده عشان أولَد قلبه.”
الفصل السادس: حين تُنبت الرحمةُ وطناً
وفي ختام الحكاية، لم يبقَ من الأسماء شيء، لكن بقي الأثر:
رجلٌ لم يُنجب من الجسد، فأنجب من الروح.
امرأةٌ لم تعرف المخاض، فعرفت الولادة من الحنان.
وقائدٌ لم يكتفِ بالقول، بل آمن أن الرحمة سياسةٌ بحدّ ذاتها.
وحين يسألك أحدهم:
“هل ما زال في هذه الأرض خير؟”
فاذكر له حكاية رجلٍ نبتت على يده طفلةٌ من نورٍ، ليعرف أن الإنسانية لا تموت، وأن الله حين يُحبّ عبداً… يُورثه قلباً يُنجب الرحمة.
الخاتمة: عبرةٌ لأهل القلوب
في نهاية الحكاية، يتبيّن أن الخير ليس فعلاً عابرًا، بل حياةٌ تُزرع في حياةٍ أخرى.
منح ذاك الرجل الطفلة بيتًا، فأعطته السماء معنى الوجود.
وبين العطاء والأثر، تتجلّى سنّة الله في خلقه: أن من يُحسن إلى الناس، يُكرمه الله بأن يُحسّن أثره فيهم.
واليوم، في غزة الجريحة، حيث فقد الآلاف أهلهم وأحبتهم،
تحتاج الأرض إلى قلوبٍ تُشبه قلب “أبو نور ”،
قلوبٍ تُعيد الدفء لمن بردت أرواحهم،
وأيادي تمتدّ دون سؤالٍ أو انتظارٍ،
لتقول للطفل اليتيم والمكلوم:
"ما زال في الأمة من يراك بعين الرحمة، لا بعين الشفقة."
فليكن كلّ واحدٍ منا بذرة خير،
يُطعم جائعًا، يُضمّد جرحًا، يُعلّم جاهلًا، أو يُواسي مكلومًا.
لأنّ الرحمة لا تحتاج ثروةً ولا منصبًا، بل قلبًا حيًّا يعرف أن العطاء عبادة.
هكذا فقط…
تُشفى غزة من جراحها،
وتُولد إنسانيتنا من جديد،
حين نكون كلنا "أبا لنور " في موضعنا،
نُحسن كما أُحسن إلينا،
ونُضيء عتمة العالم بشعاع من خيرٍ لا ينطفئ.
الفصل الأول: الجدار الذي يزهر
في مدينةٍ تُشبه كل المدن، وجامعةٍ تشبه الوطن في عناده وأمله، كان يقف كل صباحٍ رجلٌ بزيٍّ بسيط، لا يلفت النظر إلا بابتسامةٍ هادئةٍ تشبه صلاة الفجر.
كان الناس يعرفونه من صمته أكثر مما يعرفونه من كلامه. يقف عند البوابة، لكنه لم يكن يحرس المكان فقط… بل كان يحرس شيئًا في داخله، حُلماً مؤجلاً اسمه الطفل الذي لم يأتِ.
سنواتٌ من الانتظار كانت تمرّ كالفصول، تتبدّل وجوه الطلبة، ويبقى هو هناك، يُخفي وجعه بين خطوات العابرين. لم يكن يشتكي، كان فقط ينظر إلى الأطفال أحياناً بنظرةٍ طويلةٍ صامتةٍ كأنها دعاء.
الفصل الثاني: الطفلة التي خرجت من الضوء
في يومٍ رماديٍّ، ظهرت في حياته طفلةٌ صغيرةٌ، كأنها قادمةٌ من رحم الغيم. لا تحمل اسماً معروفاً ولا نسباً واضحاً، فقط عيونٌ واسعةٌ تشبه الينابيع حين تفيض بالماء بعد العطش الطويل.
اقترب منها، فأمسكت إصبعه بثقةٍ غريبة، وكأنها تعرفه منذ الأزل.
في تلك اللحظة، شعر أنه يُولَد من جديد، وأن الفقد الطويل لم يكن سوى تمهيدٍ لمعجزةٍ صغيرةٍ بحجم كفّها.
عاد إلى بيته ذلك المساء، وقال لزوجته بصوتٍ مبحوح:
"وجدت الطفلة التي لم تلدها الأيام لنا، لكن أرسلها الله من رحم رحمته."
ابتسمت المرأة التي أنهكها الانتظار، وقالت:
"إذن فلنُنجبها من قلوبنا."
ومنذ تلك الليلة، تحوّل البيت الهادئ إلى بستانٍ صغيرٍ تُزهر فيه الضحكات.
الفصل الثالث: ولادة بلا دم
كانت تلك الطفلة، التي سمّياها "نُور"، تكبر كما يكبر الأمل في قلبٍ لا يعرف اليأس.
قالت أول كلمة: "بابا"، فارتجف قلبه كمن سمع وعدًا من السماء.
ثم قالت "ماما"، فبكت المرأة وهي تضحك، لأنّ الكلمة حملت لها عمرًا من الانتظار في حرفين.
لم تكن الطفلة من دمهم، لكنها كانت من دعائهم، من سجدةٍ طويلةٍ في جوف الليل، من يقينٍ بأنّ الله لا يُعطي صدفةً، بل حكمة
الفصل الرابع: رجلٌ من ظلال الرحمة
وحين وصلت الحكاية إلى رجلٍ كبير المقام، كان يرى في عمله خدمة الناس لا سلطةً عليهم، مسّه ضوء القصة كما تمسّ الشمس وجه الورد، فقال:
"من أنجب الرحمة يستحق أن يُكافأ بنورٍ من العدل."
فجعل من العلم جسراً لتلك الطفلة، وكتب بخطّه قراراً لا يُنسى، كأنه يُوقّع على وثيقة إنسانية باسم الضمير.
لم يكتب اسماً ولا رقماً، كتب فقط:
“الرحمة تستحق أن تتعلّم.”
ومن يومها، صارت الحكاية تتناقلها القلوب لا الأوراق، تُروى في المقاهي، في الممرات، في دعواتٍ صامتةٍ كل مساء.
الفصل الخامس: ثمار القلب
كبرت "نُور"، وصار الرجل العاديّ رمزاً لبطولةٍ لا تحتاج لدرعٍ أو وسام.
كان الناس يقولون:
“ذاك الذي أنجب من رحم قلبه طفلةً علّمتنا معنى الأبوة.”
أما هو فكان يجيب بابتسامةٍ هادئة:
“الدم يورّث الحياة، لكن الرحمة تخلقها.”
وكانت الطفلة، كلما سُئلت عن والدها، تقول بثقةٍ طفلةٍ تعرف يقينها:
“بابا ما ولَدني… بس الله بعثني لعنده عشان أولَد قلبه.”
الفصل السادس: حين تُنبت الرحمةُ وطناً
وفي ختام الحكاية، لم يبقَ من الأسماء شيء، لكن بقي الأثر:
رجلٌ لم يُنجب من الجسد، فأنجب من الروح.
امرأةٌ لم تعرف المخاض، فعرفت الولادة من الحنان.
وقائدٌ لم يكتفِ بالقول، بل آمن أن الرحمة سياسةٌ بحدّ ذاتها.
وحين يسألك أحدهم:
“هل ما زال في هذه الأرض خير؟”
فاذكر له حكاية رجلٍ نبتت على يده طفلةٌ من نورٍ، ليعرف أن الإنسانية لا تموت، وأن الله حين يُحبّ عبداً… يُورثه قلباً يُنجب الرحمة.
في نهاية الحكاية، يتبيّن أن الخير ليس فعلاً عابرًا، بل حياةٌ تُزرع في حياةٍ أخرى.
منح ذاك الرجل الطفلة بيتًا، فأعطته السماء معنى الوجود.
وبين العطاء والأثر، تتجلّى سنّة الله في خلقه: أن من يُحسن إلى الناس، يُكرمه الله بأن يُحسّن أثره فيهم.
واليوم، في غزة الجريحة، حيث فقد الآلاف أهلهم وأحبتهم،
تحتاج الأرض إلى قلوبٍ تُشبه قلب “أبو نور ”،
قلوبٍ تُعيد الدفء لمن بردت أرواحهم،
وأيادي تمتدّ دون سؤالٍ أو انتظارٍ،
لتقول للطفل اليتيم والمكلوم:
"ما زال في الأمة من يراك بعين الرحمة، لا بعين الشفقة."
فليكن كلّ واحدٍ منا بذرة خير،
يُطعم جائعًا، يُضمّد جرحًا، يُعلّم جاهلًا، أو يُواسي مكلومًا.
لأنّ الرحمة لا تحتاج ثروةً ولا منصبًا، بل قلبًا حيًّا يعرف أن العطاء عبادة.
هكذا فقط…
تُشفى غزة من جراحها،
وتُولد إنسانيتنا من جديد،
حين نكون كلنا "أبا لنور " في موضعنا،
نُحسن كما أُحسن إلينا،
ونُضيء عتمة العالم بشعاع من خيرٍ لا ينطفئ.