حكاياتي من الذكريات(٤٤)
بين الفن والسياسة :
(عبدالله صالح المسيبلي علمني فن (الافيه) وعبدالله صالح البار أرسلني لاستلام عضوية الحزب الاشتراكي سويا )
كان يوم التحاقي بالمسرح الوطني بعد تخرجي من معهد الفنون الجميلة في سبتمبر ١٩٨٤م يوم فاصل في حياتي المهنية وخصوصا عندما استقبلني كبار نجوم المسرح الوطني وعلى رأسهم عميد المسرح في بلادنا الأستاذ علي احمد يافعي و أبو المسرح الفنان الكبير عبدالله المسيبلي رحمة الله عليه وفي مقدمتهم الناقد والاستاذ والمؤرخ القدير الراحل احمد سعيد الريدي الذي كان مدير إدارة المسارح في الجمهورية ناهيك عن أستاذي د عمر عبدالله صالح الذي كان في وقتها رئيس فرقة المسرح الوطني والذي تخرجت من المعهد على يده ! ولا انسى الترحيب بي من أبناء حينا وعيال الحافة كما نقول النجمان اللامعان اولاد مكرم عنتر الاخوين عمر ومحمد وكانا خير سند لي في تواجدي بالفرقة الوطنية وبصراحة كان كل نجوم المسرح الوطني يشجعون ذلك الشاب القادم إليهم دون تحفظ بل بالعكس ساعدوني بالانخراط والتطبع معاهم بسهولة ويسر ولا أنسى الاخ الشهيد علي الرخم الذي كان دائما يقدم النصح والافادة وقام بتسهيل أمور كثيرة بالجانب الإداري وتوجيهي في كيفية الإجراءات الإدارية لتثبيت الوظيفة خصوصا ان الفترة من سبتمبر حتى ديسمبر سوف اكون مساهم حتى بداية السنة الجديده في ٢ يناير ١٩٨٥م يتم اعتماد المخصص المالي والاداري للوظيفة الرسمية و(بدرجة م٥) ثانوية تخصصية أي ان درجتي الوظيفية تفوق درجة الثانوية العامة (م/١/ ٤) حيث راتبي حدد ٥٦ دينار بينما خريجين الثانوية العامة ٤٨ دينار بفارق ٨ دينار لخريجين المعاهد التخصصية ! كان النظام المالي والإداري في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منظم في الدرجات الوظيفية وفي العلاوات وغيرها وحسب التسلسل الوظيفي يصل الموظف إلى مراكز الإدارة في أي مرفق وفقا للمؤهلات واكتساب الخبرات من سنوات العمل حتى يصل إلى المناصب وليس كما رأيناه ونراه الآن من عبث إداري مابعد ماتسمى بالوحدة وخصوصا بعد الحربين ١٩٩٤م و ٢٠١٥م أصبح الصالح خارج الوظيفة او محلك سر والطالح مديرا او مسؤولا عن ذوي الكفاءات والخبرات !!
نعود إلى حكايتي مع الوظيفة في المسرح الوطني ومن المفارقات التي لم أكن أعلم بها ، حيث أخبرني الأستاذ أحمد ناصر الحماطي والذي هو الآخر واحد من الذين احتووني وأصبح من المقربين لي عندما فاجأني ان لي راتب شهري مساهم ٣٠ دينار خلال الثلاثة أشهر و كان الحماطي حينها مدير المسرح والمسؤول الأول عن صيانته ومسؤول على جميع الفنيين من الإضاءة والصوتيات والصيانة ونظافة المسرح الوطني بشكل عام حيث يعمل تحت قيادته فريق عمل كامل بالإضافة الى وجوده الإعلامي كمقدم جميع الاحتفالات الفنية والسياسية التي كانت تقام بالمسرح الوطني وعلى اتصال مباشر مع الرئاسة !
كل ذلك جعلني انخرط بعزيمة وحيوية في عملي الفني خصوصا كان أول دور أسند لي في مسرحية ( يا خير فائدة) من قبل المخرج عمر عبدالله صالح ومن تأليف الأستاذ الراحل محمد عوض شيخان مؤلف مسرحية غربان يانظيرة فيما بعد ! و انا شخصيا سميتها يا خير فرصة اني امثل امام قامات المسرح في بلادنا منذ أول عمل لي وكان دور بطولة مشتركة مع الكبار من أول لحظة وقفت فيها على خشبة المسرح الوطني وكنت سعيد جدا وانا اقف امام نجم الكوميديا العملاق الراحل عبدالله المسيبلي و نجمة لحج الخضراء الفنانة القديرة لول نصيب ومعهم الفنان الراحل الجميل احمد مطلق و الفنان فؤاد هويدي صديقي العزيز الذي كان أيضا في بداية مشواره بفرقة المسرح الوطني! مما ساعدني كثيرا في التقرب من الأستاذ عبدالله رحمة الله عليه ومنه تعلمت مالم اتعلمه في المعهد واكتسبت خبرات في كيفية صناعة( الافيه) وشهدت المسرحية نجاحا لافتا عند عرضنا لها في المسرح بالتواهي ثم عرض واحد في نادي الوحدة بالشيخ عثمان ! بعد ذلك توالت الأدوار وإنما أبرز ما قدمته خلال عام ١٩٨٥م كان أهم دور لي في مسرحية ضخمة فيها معظم نجوم المسرح الوطني التي أسند لي دور صحفي في مسرحية المهرج للكاتب السوري محمد الماغوط وهي مسرحية للمخرج محمد الرخم باللغة العربية الفصحى والتي وقفت في مشهد واحد امام سالم الجحوشي و عبدالله المسيبلي و ذكرى احمد علي مشهد السجن لحظة اعتقال صقر قريش على الحدود !!! كوميديا سوداء فضيعة! ما اروع محمد الماغوط وما أروع المخرج محمد الرخم هذا الدور الذي جعلني على المسار الصحيح في خطواتي اللاحقة في عالم المسرح ! والمسرحية الثالثة التي لعبت فيها بطولة ثنائية مع العميد علي يافعي كانت من تأليفه وإخراجه بعنوان( ١+١ ) ثم المسرحية الرابعة بعنوان ( كلنا نتعلم ) من تأليف احمد عبدالله سعد وإخراج القدير محمود اربد رحمة الله عليه! كل تلك الأعمال قدمت من سبتمبر ١٩٨٤ حتى مارس ١٩٨٥م ! بالاضافة الى أعمال أخرى متنوعه عملت فني مساعد اضاءة مع الأستاذ العراقي الموسيقي حميد البصري عندما أخرج ( أبجدية البحر والثورة ) من المسرح الغنائي الثوري كان من بطولة نجيب سعيد ثابت و الفنانة العراقية شوقيةالعطار وعملت معهم على الإضاءة وسافرنا إلى أبين وعرضناها هناك بمناسبة افتتاح ساحة الشهداء !
كانت الحياة والعمل في المسرح الوطني عبارة عن متعة وشغف ومن خلال حياتنا بتفاصيلها اليومية حيث نجتمع كل صباح بعد أن نصل للدوام الرسمي في وقت الفطور بالمقهى المعروف بالتواهي حيث كان يأتي إليه غير الثقافة موظفين السياحة و أمن الدولة و شركة الملاحة الوطنية وخصوصا كنا زمان نأتي بالفطور الخبز ملفوف بالجرائد من بيوتنا ونذهب فقط لشراء الشاي والفاصوليا او البيض عيون او مقلي وهنا كانت اللمة تجمع الزملاء والاصدقاء في وجبات الفطور ! وفي ذات يوم وانا كعادتي وفي يدي لفيف الخبز في جريدة قديمه ، استدعاني زميلي الفنان محمد عبدالرحيم ولمن لا يعرفه هو صاحب دور خيران في مسرحية التركة، الذي كان رفيقي أيضا في اتحاد الشباب ( اشيد) بوزارة الثقافة وهو السكرتير الاول للجنة العليا بوزارة الثقافة ومعهد الفنون الجميلة بينما كنت انا سكرتير أول ديوان الوزارة، كان يبدو حزينا حيث قرر أن نفطر سويا في المكتب وأخبرني بقرار رحيله من المسرح وانتقاله للعمل مضيف طيران في اليمدا وأدركت حينها أن الرجل لديه كلام كثير يريد قوله وبالفعل كان خلاصة الكلام أن يصعد نائبه إلى قيادة اللجنة العليا لاشيد الاخ احمد حميد بينما يتم ترفيعي في الانتخابات القادمة إلى منصب سكرتير ثاني اللجنة العليا والاهم ان اكتب طلب فوري للحصول على عضوية الحزب الاشتراكي اليمني قبيل اجتماع لجنة الحزب حتى يتمكن من دعمي في الاجتماع الحزبي الذي كان هو عضو في الحزب حينها ! وبصراحة كان هذا الطلب واحد من امنياتي تحقيقة خصوصا اني كنت ناجحا في العمل الشبابي وعندي حسن سيرة وسلوك في المعهد والوزارة وعلى علاقة ممتازة مع جميع الناس ولم أدرك حينها أن الصراعات الحزبية في ذلك الوقت كانت في أوجها سنة ١٩٨٥م !!
كتبت الطلب فورا بعد أن املئ لي صيغة تقديم الطلب للحصول على عضوية ترشيح للحزب وقدمت له في اليوم التالي اربع صور شمسية ورفقها بالطلب ! عندها جاء دوري حين بدأت اجس نبض زملائي الفنانيين المنتمين للحزب وكان منهم الأستاذ سالم الجحوشي و الأستاذ عمر عبدالله صالح و الأستاذ أحمد ناصر الحماطي و الأستاذ أحمد سعيد الريدي بالاضافة الى محمد عبدالرحيم نفسه واثنان آخرون ، هؤلاء تقريبا كانوا أعضاء في الحزب الذين يشكلون دعما لي امام الأعضاء في ديوان الوزارة والتي تجمعني واياهم احترام وحب وهنا كانت المفاجأة عندما طلب حضوري الاجتماع الحزبي قبل حتى ما تتم الموافقة ودخلت الاجتماع معتقدا أن هناك أعضاء متقدمون آخرون وكان متواجد بيننا السياسي الكبير من ريحة الرئيس سالمين الأستاذ عبدالله صالح البار والذي كما هو معروف في تلك الأيام تم الإفراج عن رجال سالمين بقرار من المكتب السياسي واعادتهم للحياة العملية فتم تعيينه نائبا لوزير الثقافة كنائب آخر مع الست عائدة علي سعيد وبالتالي كان يجب أن يعاد للعمل السياسي الحزبي وينخرط في الحزب تمهيدا لترفيعة إلى منصب عضو اللجنة المركزية في المؤتمر العام الثالث المزمع في أكتوبر ١٩٨٥م !
المهم عندما جاءت نقطة الأعضاء المتقدمين لعضوية الحزب وفقا لجدول الإجتماع ذكر الاسم الاول عبدالله صالح البار وتمت المصادقة بالإجماع ، ثم اتضح اني الوحيد كنت متقدم معه وعندما رأيت يد الوزير راشد ثابت و نائبة الوزير عائدة علي سعيد وهما يرفعان بالموافقة طبعا مع الجميع إلا أن هذه اللحظة كم كانت رائعة من وجهة نظر شاب في مقتبل العمر وأحسست بشعور عظيم خصوصا وإن من كان بجواري ومعي أحد رجال الشهيد بابا سالمين من رجال الدولة التي عشنا خيرها !!
نفس الشعور بعد اسبوع عندما كلفني البار ان اذهب اللجنة المركزية استلم بطاقة ترشيحة مع استلام بطاقة ترشيحي واعتقد انه استلام البطاقة من اللجنة المركزية كانت استثناء في تلك الأيام والله أعلم ! وفعلا تحركت بباص الوزارة واستلمت بطاقتي وبطاقة الأستاذ عبدالله البار بكل فخر وبقيت هذه الذكرى محفورة في وجداني والغريب بعد مرور سنوات طويلة خصوصا اني غادرت في اغسطس ١٩٨٥م للدراسة بالاتحاد السوفيتي وأحداث يناير وغياب البار عن المشهد السياسي مرة أخرى ثم يعود بعد الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية وتحديدا بعد ١٩٩٤م في اعادة تنظيم المؤتمر الشعبي العام تنظيميا في صنعاء قررت ازوره عام ١٩٩٩م قبيل سفري للدراسة العليا ( الدكتوراه) وعندما شرحت امام البوابة في مقر اللجنة الدائمة من انا ولماذا اريد ان اقابله سمح لي بالدخول وكانت العيون تتبعني داخل أروقة المكان و كأني أتيت انتزع منهم وريثه إلا أنني كنت واثق بدخولي لشخص يكبرهم في كل شي وعندما رآني عرفني على طول !!! ما اعظم رجال سالمين وعندما بدأت أذكًره بالمواقف أيام البطاقة الحزبية قال لي فورا طبعا فاكر وارسلتك تحضر بطاقتي من اللجنة المركزية! كانت زيارتي له لمساعدتي بصفة شخصية كوني مسافر على نفقتي والدولة لم تمنحني منحة حينها ودون تردد ادخل يده في جيبه ومنحني مئتان دولار وظل يعتذر لي أن هذا المبلغ الذي في جيبه ولو كان لديه أكثر لدفعه لي وطلب مني العوده بعد يومين سيدبر لي مبلغ أكبر وهذا الكلام كان يكفيني ، حيث أخبرته أن طائرتي غدا إلى سوريا ومنها إلى بيلاروسيا وشكرته ثم ودعته واحتضنته ولم تكن فيه رائحة احد سوى رائحة سالمين !! رحمة الله عليك استاذ عبدالله
د عبدالسلام عامر
يوليو ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٥)
( تم تجريدنا من أرضنا.. بعد الاستيلاء على مزارعنا و مصادرة أكبر بستان الذي كنا ناكل من خيراته مجانا ، تباع لنا في الأسواق حاليا من رجال اغراب لا ينتمون للارض ! هذا البستان الذي ترقد على مشارفه قرية جدتي فاطمة المفقودة )
كان قرار امي رحمة الله عليها بالتحرك مشيا على الأقدام إلى هدفنا المنشود حاسم ، كنت حينها في السنة الدراسية الثانية واخي منصور في الثالثة ابتدائي ، بالنسبة لي اعتقد هي أول زيارة وانا اعي الدنيا إلى قرية جدتي فاطمه رحمة الله عليها ، حيث كانت اللهفة والاشتياق لتلك الزيارة مرسومة في ذهني بطريقة أخرى ولم اكن أدرك معنى ذلك إلا بعد أن وطئت قدماي قرية ( الكدام ) هذه القرية التي تقع على مشارف بستان الحسيني من الجهة الشرقية . كانت رحلتنا وخروجنا من منزلنا الخميس عصرا وتحركنا من عدن إلى الحوطة عاصمة محافظة لحج على الحافلة و كانت هذه الزيارة الأسرية انا وامي واخي منصور هي الرحلة الأولى لأتعرف على لحج ! ولا أعلم أن زرتها وانا رضيع او في سن ما قبل الثلاث السنوات ولا اعتقد ان حصل ذلك لأسباب عديدة ما قبل ١٩٦٧م لذلك لهفة الزيارة و شغف المشاهدة من نافذة الباص وانا بين أحضان امي بالمقعد المخصص لها بينما منصور و (البقشه) بين احضانه احتل المقعد المجاور لأمي ! والبقشه التي قد لا يفهمها الجيل الجديد هي محتويات ملابسنا وبعض الهدايا التي نحملها معنا ملفوفة في قطعة قماش ومربوطه بشكل آمن!
المهم عند وصولنا إلى الحوطة تقريبا مع أذان المغرب واجهتنا اول مشكلة ، حيث في ذلك الزمن مطلع السبعينيات من القرن العشرين كانت سيارات الاجرة التي تنقل الأسر والعائلات من الحوطة إلى مختلف القرى المجاورة تعمل تقريبا طوال النهار حتى المغرب وهي سيارات اللاند روفر والتيوتا بيك اب انما بعد المغرب لا تجد غير الدراجات النارية لنقل الشباب او الرجال الذين يتنقلون في المساء لأسباب مختلفة ومنها على سبيل المثال الذهاب لمشاهدة السينما في العاصمة الحوطة ، ولذلك لم يكن أمام امي أي خيار غير القرار والحسم ان نمضي قدما بالمشي على الاقدام إلى قرية الكدام موطن جدتي فاطمة لزيارتها وزيارة اخوالي المرحوم صالح سعيد هندي و خالي الاصغر فضل ربنا يمده بالصحة والعافية وخالتي ام عبدالخالق سعيد بابحار رحمة الله عليها ، وهم أشقاء امي من ناحية الام !
السير على الأقدام إلى الكدام شي طبيعي في ذاك الزمن ، كانت الناس تقطع المسافات الطويلة بين القرى مشيا على الأقدام ولم يشعرون بالضجر من ذلك كما يحصل مع الجيل الجديد في زمن الخمول والكسل ! لذلك كانت الحركة والمشي لمعظم ابناء الريف وخصوصا الفلاحين رياضة مفيدة ، حيث ان معظم الناس من النساء والرجال مزارعين ولديهم اللياقة ويتمتعون بالصحة الجيدة !
تحركنا صوب القرية في البداية على خط الاسفلت واذا ما استمرينا على خط الطريق كان سيأخذ منا وقت ساعة ونصف تقريبا لكي نصل ! لكن قرار امي اختصار الطريق والمرور عبر الاطيان بين الحقول كان قرار غير موفق وهنا كانت المأساة !! كان الليل قد أسدل ستارة بالظلام ولم يكن لنا شفيع وسط حفيف ورق القصب لزراعة الذره ( الهند) كما نسميه محليا و الحذر من الكلاب الضالة في الوديان ، غير ضوء القمر الخافت الذي لم تكتمل ولادته بعد من الاسبوع الأول منه !! لذلك لم يكن كافي ولم تظهر لنا ملامح أي قرية او بصيص امل لضوء يأتي لنا من أي فانوس على سطح او شرفة ! حيث في تلك المرحلة لم تدخل الكهرباء بعد إلى القرى وحتى الحوطة نفسها لم تدخلها كاملة ! المهم بدء الخوف يعترينا وخصوصا عندما تواجهنا مع قلة من الكلاب الضالة استطعنا أن ندفعهم عنا ورميهم بالحجارة ، وكانت امي متماسكة جدا و تهدي من روعنا عندما ادركنا اننا فقدنا البوصلة بين الاطيان الممتلئة بزراعة الذرة وكأننا وسط بحر من القصب الأخضر و لانعرف اين الشرق من الغرب في ظلام الليل والوقت يطول والتعب يرافق اقدامنا حتى ظهر لنا شبح شخص عن بعد وبيده سراج بطارية يدوي ( تشليت) يضيئ منه نور وتوجهنا مسرعين في اتجاه الضوء حتى وصلنا اليه وأخبرته امي اننا تائهون ولم نعد نعرف أين نحن الآن ؟! كان الرجل هو أحد شراح الأرض ليلا ، أي من يتفقدها والحفاظ على المحاصيل الزراعية للفلاحين من اللصوص وغيرهم ، كان هذا الرجل المنقذ لنا في تلك الليلة التي طالت علينا والتي كانت تبدو لنا ليلة لن تنتهي ابدا ! حينها أخبرنا الرجل أننا ضلينا الطريق إلى الكدام ومتجهون إلى قرية الهجل على ما اتذكر قوله ! ولابد علينا من التحرك في الاتجاه المعاكس المؤدي لقرية الكدام !
تنفسنا الصعداء وتحركنا وفقا لوصفه للوصول إلى القرية وظهرت لنا بوادر انوار من ضوء الفوانيس التي كانت تعلق على بعض دكاكين القرية وكنا نقترب من القرية والأنوار تبدأ أكثر وضوحا وأصوات الناس والقهقهات تصل الينا من بعض السمٌار يتسامرون امام بوابة أول دكان و يجلسون تحت سقيفة يلعبون الورق والبعض الآخر يستمع إلى راديو الدكان فالراديو كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة لأهل القرى في ذلك الزمن ومن خلالها يستمعون إلى السهرات الغنائية وغيرها من البرامج التي تبثها إذاعة عدن بالاضافة الى إذاعة لندن البي بي سي التابع لهيئة الإذاعة البريطانية و الصوت العالمي الوحيد لمعرفة أخبار العالم الآخر كما هو في الزمن الحاضر الفضائيات ! عندها امي عرفت من خلال الدكان الذي يقع نهاية القرية في الجانب الغربي طريق الدروب بين مساكن القرية المؤدي إلى منزل جدتي فاطمة . كان المرور في دروب القرية الضيقة قد ابهرتني ونحن نمر عبر منازل مصنوعة من الطين ووفق بناء هندسي يليق بقرية زراعية وما ان طرقنا باب بيت جدتي ودخولنا اليه حتى احتضنتنا الجدة والسعادة تغمرها و كانت مصدر سعادة لي وانا اشتم منها وهي تعانقني عبق الأرض والمكان اختلطت بطين الأرض وريحة جدتي المعطرة بالفل الذي يتواجد في كل منزل بالقرية نظرا لزراعته في البساتين المحيطة بالقرية على أطراف الحسيني !
الصورة الذهنية للقرية التي ترسخت في مخيلتي منذ ذلك الوقت والتي تشبه كثيرا قرى الصعيد المصري التي شاهدناها في المسلسلات المصرية ، وحتى بيت جدتي وخالي صالح الكبير كان شبيه بدوار العمدة عند المصريين ! حيث كان يتكون من عدة غرف ودوار مفتوح وسط البيت و سلالم تؤدي بك إلى سطح المنزل وتلتحف السماء وانت تشاهد النجوم بالليل أثناء النوم بالنسبة لمن يرغب في النوم بالأعلى كما هو الحال في الدوار الارضي أيضا!
هذه الصورة تخلى عنها الجيل الجديد و تخلى عن البناء من طوب الطين بعد أن دخلت علينا مصانع هائل سعيد وشركاته في الترويج للاسمنت و السراميكا وغيرها من المواد الحضرية التي تستخدم في المدن مما ساعد على تصحر التربة الزراعية وانتشار المباني من الحجر والطوب الصناعي الذي لا يفيد الطقس في المناطق الحارة وخصوصا الريف ورغم دخول مياه الشرب و الكهرباء في مطلع الثمانينات إلا أن الناس استمرت في بناء الطوب من رحم الأرض( الطين ) ولكن مع منتصف التسعينات و بداية الألفية فقدت القرية هويتها وهواها النقي وتحول الشتاء والصيف يحتاج إلى المكيفات بعكس طوب الطين الذي يخفظ درجةالحرارة صيفا وهذا مالمسناه فعلا قبل أن ينتهي كل شي ! ناهيك عن ردم هيكترات من الأراضي الزراعية في الطريق العام المؤدي إلى الحوطة بحجة بناء مشاريع خدمية وهي اساسا خدمة للمسافرين وللمستوطنين الجدد والقادمين من الشمال اليمني إلى عدن وليس لأهل القرى ولا حتى لصالحهم العام !!!
ونرجع لمرجوعنا حيث وصلنا في العاشرة والنصف مساءآ بعد توهان دام لأكثر من أربع ساعات ونصف تقريبا واسقتنا جدتي الماء البارد من الزير في الدوار والذي كان يتم جلبه من بئر القرية في ذلك الوقت الماء النقي الصافي الذي أصبحنا اليوم لانجده في منازلنا بل نشتريه من البقالات ويباع لنا وهو من أرضنا المليئة بالمياه الجوفية والتي استحوذت عليها مؤسسات تجارية يمنية بعد اجتياح الجنوب واحتلاله ١٩٩٤م!
بعد أن ارتشفنا المياه تناولنا وجبة العشاء من السكوع اللحجي و الصانونة وسمك المرجوج الذي يتم الاحتفاظ به بطريقة شعبية في زمن لاتوجد فيه البرادات قبل دخول الكهرباء آنذاك!
قضينا اليوم التالي الجمعة في اللعب مع أبناء خالتي عبدالخالق بابحار واخوته وابناء خالي صالح ايضا الذي كان لديه حينها البنت الكبيرة في الصف الأول الابتدائي والابن نبيل صالح الذي كان عمره أربع سنوات ، طبعا نبيل صالح رحمة الله عليه أصبح فيما بعد لاعب كرة قدم مدافع في نادي الشرارة و توفى منتصف التسعينيات في حادث مرور حيث صدمته قاطرة وهو امام أسفلت القرية يحاول العبور إلى الجهة الأخرى!
أكثر ما شدني في بيت خالتي الذي لا يبعد عن منزل جدتنا وجود البقرة التي كان يزخر بيتها من خيرات اللبن والحقين و الزبدة والسمن و غيرها من المشتقات في طعام القرية المألوف والذي زودتنا به في اليوم التالي اثناء رحيلنا و له نكهة لا تجده في المدينة ومنذ تلك الرحلة أصبحت قرية الكدام هدفي الأول لزيارة الاهل هناك وخصوصا الزيارة الثانية كانت لحضور زواج خالي الاصغر فضل واستمرت بعد ذلك حتى يومنا هذا !!
كبر الأولاد وأصبحوا رجالا و تغيرت القرية وفقدنا نوعية الطعام المميز بعد أن تم افقار الناس وبيع الأراضي الخاصة بهم والمواشي وأصبح ابن القرية عاطل عن العمل مثل ابن المدينة او يعتمد على الوظيفة ان وجدت إلا من رحم ربي ! لم تؤثر بي حالة مما حصل في بلادنا كما حصل لقرية الكدام وهي نموذج لبقية القرى ! لم تعد تشتم لرائحة الأرض من خلال البيت الريفي ولم تجد فيها روح السلف والأجداد في التعاضد وصناعة الزاد و فقدت اهم ميزة وهي الفلاحة وأصبحنا نستورد خضارنا من الشمال اليمني بعد أن قل الإنتاج المحلي لأسباب كثيرة وأهمها المخطط الذي مارسه نظام صنعاء طيلة ثلاثه عقود لتجريدنا من مصادر أرضنا والاستيلاء على مزارعنا و أكبر بساتين بلادنا وهو بستان الحسيني الذي كنا ناكل من خيراته مختلف الفواكه مجانا تباع لنا في الأسواق حاليا من رجال اغراب لا ينتمون للارض ولا لتاريخنا وليسوا منا ! هذه البستان الذي ترقد على مشارفه قرية جدتي فاطمة المفقودة في زمن العصرنه وضياع الهوية و تعطيل الفلاحة !
د عبدالسلام عامر
أغسطس ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٦ )
(لا عاد نفعني كلام عم امعود ولا خرا الغراب)
كان يوم كريه في حياتي بصيف عدن ١٩٨٥م عندما كنت في طريقي إلى المسرح الوطني بجوار حديقة الملكة فيكتوريا بمدينة التواهي حيث تبرز الطائر اللعين المدعو ( الغراب ) على راسي و خلفية قميصي ! كنت عائدا من مهمة عمل شبابي حينها كنت سكرتير أول أشيد في وزارة الثقافة ، كانت الساعه حوالي العاشرة صباحا ولم أجد حل مناسب في تلك اللحظة لغسل شعر رأسي( الافرو) إلا بالجري بسرعة إلى المسرح عبر البوابة الخلفية، مدخل الممثلين وليس بوابة مبنى الوزارة الرئيسي ، وصعدت على الفور إلى حمامات كواليس المسرح كي اغتسل من براز الغراب اللعين الذي صب كمية غير عادية ويبدو كان عنده اسهال !!! بعدها غسلت قميصي بالماء ووصلة صابون لغسل الايد استخدمتها للحاجه! ثم بقيت بالفانلة الداخلية حتى ينشف القميص وحجزت نفسي في غرفة المكياج بالكواليس ، وتركت القميص على إحدى المقاعد تحت المروحة لكي يجف . . في هذه الأثناء دخل الكواليس حارس الوزارة عم ( امعود ) رحمة الله عليه وسألني ماذا حصل معي ؟ خصوصا اني صعدت مسرعا من امامه وكنت اخجل ان يراني أحد والمصيبة فوق راسي وعلى ظهري ، وطبعا كما يقول المثل الشجن قتل العجوز فكان لابد أن يعرف ماذا حصل معي ، والمعروف عن عمنا ( امعود ) له سوابق عجيبه وغريبه عملها وله حكايات متعدده مع الكثير من الزملاء أعضاء فرقة المسرح الوطني ومن أشهر ( طبازته ) والشجن الذي فيه انه ذات ليلة من اجمل ليالي المسرح الوطني أثناء عرض أروع الأعمال الفنية التي قدمت على خشبة المسرح ( مسرحية بونتيللا وتابعه ماتي ) للمؤلف الألماني برتولد بريخت الذي لعب بطولتها عميد المسرح الفنان علي يافعي وفي هذه الليلة الرائعة والجمهور غفير للاستمتاع بأعظم المسرحيات العالمية كان يجب على الفنان علي يافعي في إحدى المشاهد ان يستحم في حوض ويدخل فيه ثم يخلع كافة ملابسه ، طبعا كما تعلمون هناك خدع فنية يتم العمل بها بالمسرح للايحاء وفعلا عمل ذلك علي يافعي بحرفية ورمى ملابسه إلى خارج الحوض ويبقى فقط رأسه ظاهرا للمشاهد ويستكمل حديثة مع إحدى الزميلات التي تشاركه المشهد ، هنا الشجن سيطر على عمنا امعود وصعد من بين الجماهير إلى خشبة المسرح ليتأكد أن علي يافعي فعلا عاري من الملابس


والجمهور في البداية لم يستوعب ويعتقد انه جزء من المسرحية مع انه يرتدي الزي الشعبي المعوز و الكوت!!! وذهب مباشرة إلى الحوض المصنوع ثم ألقى نظرة ولفت إلى الجماهير قائلا بلهجة أهلنا في أبين ؛(رعوه يكذب عليكم رعوه لابس ثياب ماهو شي عريان ) عندها انفجر الجمهور من الضحك وكانت فقرة كوميدية ولا في الخيال 

ونرجع لمرجوعنا واخبرته ان الغراب عملها فوقي ، حينها زمجر وقال ؛ (كل هذا امجري علشان خرا غراب ؟! هيا اسمع رعك اهبل بر اهبل ) ، قلت له لماذا اهبل؟ كذا عيب ياعم تشتمنا! رد عليا قائلا؛ ( ومنوه قال اني اشتمك ياهبل بر الاهبل رع خرا الغراب هذا رزق واجي لك ) عندها استدركت اشياء وحالات مشابهة سمعت بها من بعض الناس ولكن لم أكن يوما مقتنع بها!
المهم بعد أن جف القميص ارتديته وذهبت فورا إلى مكتبي الخاص باتحاد الشباب الذي كنت فيه وهو صالة مراقبة الأفلام السينمائية التي منحتنا استخدامه الست عائدة علي سعيد نائبة الوزير رحمة الله عليها ومفتاحه فقط لدي ولدى العم احمد علي النصري المسؤول عن تدوير الفانوس السحري أثناء مشاهدة الأفلام الجديدة التي محتاجة لرقابة الوزارة قبل أن تعرض للجماهير وهناك وجدت العم احمد النصري وللمعلومة فهو شاعر غنائي كبير ومن أهم أغانيه دق القاع الذي لحنها الموسيقار احمد بن احمد قاسم وغنتها الفنانة الكبيرة فتحية الصغيرة . أخبرته بما حصل معي وحكيت له ماقاله العم امعود وضحك إلا أنه اثنى على كلام امعود ! لم يمر سوى شهر حتى دخل علينا شهر رمضان الكريم وفي هذا الشهر الفضيل كانت المفاجأة !! طبعا كنا انا وزميلي الموسيقي نضال احمد عبدالرحمن و الزميل المسرحي علي سالم الذي كان في السنة الأخيرة من الدراسة بالمعهد فهو كان الدفعة التي بعدي برفقة زميلنا المرحوم محمد ناجي بن بريك كنا بين حين وآخر نسكن عند زميلنا الموسيقي عدنان سالم في منزل بجوار منزل اهله في حي الزيتون كان اهل المنزل مسافرين وتركوه للزميل عدنان يسكن فيه مؤقتا ، يعني كنا عزبة شباب وبصراحة كان نضال وعلي سالم أكثرنا التزاما بالصلاة والصيام انما نحن كنا نصوم ونتكاسل بمواعيد الصلاة وكانت تلك الأيام من اجمل الأيام التي قضيتها بشهر رمضان ، كانت ام عدنان رحمة الله عليها تزودنا بطعام الفطور ونضال يحضر من منزلهم بالقلوعه بعض المؤن ولكن الأجمل وقت السحور كنا نذهب إلى الرصافي نتسحر حيث مقهى يبيع فتة اللبن ! من اجمل ذكرياتي تلك التي توجت في شهر رمضان المبارك حيث كانت المفاجأة التي حصلت لي عندما وصلت لجنة سوفيتية لمقابلة المبعوثين المرشحين من قبل وزارة الثقافة للمقابلة بعد إلاطلاع على ملفات التخصص وتوابعها ففي نهار منتصف شهر رمضان حيث تم استدعائنا لمقابلة اللجنة الروسية بالاضافة الى مدير العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة المرحوم عتيق سكاريب ومدير إدارة المسارح بوزارة الثقافة المرحوم احمد سعيد الريدي رحمة الله عليهما و المترجم الأستاذ قائد فرقة المسرح الوطني د عمر عبدالله صالح بصفة مترجم وعندما حان وقت دخولي كنت على يقين أن تتعثر المنحة خصوصا ان هذا العام تحديدا مطلوب شخص واحد لدراسة المسرح وكان عدد المتقدمين زملاء كثر وهم الأقرب لهذه المنحة في هذا العام وبعد أن تم الانترفيو معهم وجدت نقاش جاد بصوت واطي يدور بين اللجنة والكلام خليط بالروسي والترجمة بالعربي كان بشكل همس ثم طلب مني مغادرة المكتب ! ومرت حوالي نصف ساعة بينما كانت بالنسبة لي نصف سنة !! وانا في الكردور بانتظار خروج اللجنة وعندما فتح الباب وظهر الأول عتيق سكاريب الذي غمز لي وهو مبتسم ثم يليه د عمر عبدالله صالح بابتسامته المعهودة والفرحة ظاهرة في عينية خصوصا انه كان أستاذي بالمعهد بينما الرجل الروسي نظر إلي بابتسامة مع انه كان هناك آخرون حينها سمعت صوت وهو في نهاية الممر عتيق سكاريب يقول لي اذهب الى قسم الكادر ، عندها أدركت أن المنحة أصبحت لي وذهبت مسرعا خلف د عمر عبدالله صالح لكي اتاكد والذي قال لي مبروك الروس اقتنعوا بك لسبب بسيط ان لديك مؤهل داخلي وسنك المناسب ٢١ سنه ! في هذه اللحظة شعرت بفرحة لا استطيع ان أصفها !! جاء على بالي بالمقام الأول وآلدي ثم امي ثم الست عائدة علي سعيد !! لا أدري سبب ذلك انما تذكرت أن الإنسان الأول الذي شعرت انه سيفرح لي بالوزارة هي عائدة علي سعيد والتي اعتبرها امي الثانية بالفعل ، وركضت لمكتبها واخبرتها وفرحت لي وحينها اعطتني نصائحها التي سبق وان حكيتها في حكايات سابقة !
عدت إلى البيت بالمنصورة بعد أن استكملت إجراءات الاستقالة في مكتب مهيوب قصيص مدير الكادر الإداري والمالي رحمة الله عليه وذلك وفق القانون الجديد الذي أصدره مجلس الوزراء ان من يبتعث للدراسة يجب أن يقدم استقالته وكان هذا العام أول عام يطبق فيه القانون وتم تجهيز شيك براتب سبعة أشهر الذي يعتبر راتبي لمدة سبعة أشهر وفقا للميزانية والتي تاتي للموظفين الجدد بعد ستة اشهر واستلمتها كاش بالاضافة الى شهر سبعه يوليو وشهر آخر إضافة كحقوق بعد الاستقالة ! يعني وصول راتبي بعد ستة اشهر من التوظيف مع راتب شهر يوليو وشهر حقوق وكمان منحة دراسية كل ذلك في يوم واحد سبحان الله!!
وصلت للبيت وانا لا أرى الطريق بل كنت في حالة لا توصف من السعادة وكانت الساعة الثانية ظهرا واخبرت امي التي انفجرت بالبكاء!! ، كنت اعتقد من فرحتها ، انما شعورها كان عكس ذلك ، حيث انها لاتريد فراقي وبعد ان هديتها وفهمتها دعت لي رحمة الله عليها !!
و قررت في عصر ذلك اليوم ان اذهب الى الوالد بالفطار إلى خور مكسر بنفسي بدلا عن احد اخواني ، حيث كانت لديه نوبة من الظهيرة إلى الليل في حراسة مؤسسة الدواجن التي تقع في معسكر خالد سابقا ولم أشعر بالجوع او العطش او الإرهاق بل السعادة والفرحة كانت تهون عليا !! كم اتمناها لشبابنا اليوم ان يتحصلو على ماتحصلنا عليه ولو نصفه وان تعود بلادنا إلى دولة العدل والنظام والقانون والمساواة والرفاهية! اتمناها من كل قلبي لهم بذلك ، شريطة أن تكون مؤمن بنفسك وتؤمن بالمعرفة والموهبة التي لديك والإصرار على ذلك !
المهم وصلت إلى الوالد وسلمته الفطور واخبرته بالخبر السعيد عندها صمت الوالد برهة من الزمن ثم قال لي حرفيا ؛ ( لقد غلبتني ياابني لقد انتصرت علي خصوصا اني لم أكن اريدك تدرس فنون وإنما هذه الفنون أحس انها باتوديك إلى أعالي الرتب ) قالها لي بفخر واحساس لأول مرة اراه بهذه السعادة وبعدها صلى العصر و دعا لي وقال ؛ اتوكل دائمآ على الله.. و استئذنته لكي اذهب الى زملائي وأصدقائي في العزبة بالقلوعه !
كان لقائي ثاني يوم بالوزارة أثناء استلام الشيك وتسليم بقية المتطلبات للعلاقات الخارجية لتجهيز جواز السفر ! آه نعم لا تستغرب عزيزي القارئ كانت الوزارة تجهز لنا جوازات السفر وتحضرهم لنا مع تذاكر السفر إلى المطار وتم تحديد السفر لنا بتاريخ ٢٥ أغسطس الذي صادف يوم وقفة عرفات ، المهم أثناء تواجدي باليوم التالي التقيت بالعم امعود وأخبرته اني مسافر للدارسة بالاتحاد السوفيتي حينها صرخ مهللا ؛ ( مش قلت لك رع خرا الغرابي يجيب الرزق ) رديت عليه مستهجنا ايش من رزق والقانون اجاء على راسي طلبو منا تقديم استقالة من العمل !! رد فورا ؛ ياهبيلة لما باترجع بتستلم راتب مضاعف الذي كنت تستلمه لأنك باتطلع كادر ودرجة وظيفية أكبر يامغفل وكمان الحكومة باتعطيك بيت يانطيله والأولوية في الإسكان للكوادر ! والحقيقة فعلا هي كذلك انما الذي ماكان في الحسبان اننا سنعود الى البلاد ١٩٩١م على كارثة الوحدة اليمنية التي فقدنا بعدها جميع تلك الامتيازات ولا عاد نفعنا كلام عمنا امعود ولا خرا الغراب!!!
د عبدالسلام عامر
سبتمبر ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٧)
إلى روح صديقي الفنان عقلان مرشد في ذكراه:
(كنا حريصين على سمعة المسرح العدني أكثر من أنفسنا ! ليس كما حصل للاسف فيما بعد بمشاركة بعض أعمال هابطة وفاشلة مثلت عدن في مهرجانات بعد ١٩٩٤م بأسماء لاتعي معان المسرح ودهاليزه)
عندما فاجأني صديقي الفنان المسرحي ياسر سلام بدعوته لي ان اشارك معه بالعمل المسرحي الذي يسافر به للمشاركة في المهرجان الثالث للمسرح العربي في العاصمة العراقية بغداد كنت غير مستوعب ما يحصل؟! كيف لي أن اؤدي دور بمسرحية خلال أسبوع واحد وطلب مني فورا الحضور إلى فرقة أكتوبر بالشيخ عثمان وإحضار جواز السفر وقال لي سنسافر خلال أيام!!!!
كنت حينها في صلاح الدين مع ام أميرة بعد ولادتها باربعين يوما عند اختي الكبيرة للراحة والاستجمام وكانت الدعوة لي مفاجأة خصوصا ان العمل المسرحي سيشارك في مهرجان عربي ضخم ويحتاج مني بذل مزيد من الجهد لكي التحق بالمجموعة التي قطعت شوطا كبيرا في البروفات بينما انا استدعيت بدلا عن ممثل آخر أراد مخرج العمل ياسر سلام تغييره فكان مقترح الزميل الفنان الراحل عقلان مرشد رحمة الله عليه والزميلة الفنانة إنصاف علوي بطرح اسمي لحل المعضلة لأسباب عديده أهمها المهنية والاحترافية التي يمكن أن تساعده في هذا المأزق وخصوصا سرعة حفظ الحوار المكتوب شعريا باللغة العربية الفصحى وهو ملعبنا في تلك الأيام الخوالي ...
طوال طريقي اليه من صلاح الدين حتى وصلت إلى الشيخ عثمان وانا في توتر واسئلة كثيرة تدور في رأسي لم أجد لها إجابات إلا عندما استمعت إليه وسلمني النص وحدد لي الشخصية المراد تقديمها وهي عبارة عن مجموعة ابطال يتحركون على الخشبة أي انه نوع من أنواع المسرح الشعري لكاتب سوري اعتقد كان الكاتب الكبير ممدوح عدوان على ما اتذكر و المسرحية بعنوان ( لا ) !!
المهم كان الطاقم مكون من الفنان الراحل عقلان مرشد والفنانة إنصاف علوي الذان كانا من اهم مقومات المسرحية بخبراتهم في مساعدت الزميل ياسر في خوض تجربته الاولى آنذاك والمخرج نفسه ياسر سلام و العبد لله والفنانة الشابة إحدى طلابنا بمعهد الفنون فوزية سالمين و الموهبتين الجعدني وارسلان سلام ، عملت معهم البروفات الاوليه لي بينما النص في يدي بعد أن حددت لي مساحة الحركة والميزانسين المرسوم للخطة الإخراجية و انتهينا من البروفات على اساس نلتقي باليوم التالي على امل احفظ النص في ليلة واحدة وبصراحة كنت اتقن ذلك وخصوصا بعد أن قمت بتقطيع الجمل وفقا للرؤية الإخراجية وكيفية الأداء و وعدته اني سأعمل المستحيل في تجاوز مرحلة حفظ النص حتى نتفرغ بعد ذلك للمعايشة في الدور و الحدث الدرامي و الاحساس والصدق وغيرها من أبجديات بناء العرض المسرحي !
عدت في اليوم التالي حسب الاتفاق الرابعة عصرا وما كدت اصل إلى امام فرقة أكتوبر قادما من محطة الهاشمي بعد أن اوصلتني سيارة التاكسي البيجوت قادما من صلاح الدين واذا بأصوات من نوافذ الفرقة تصرخ و زعيق من بعض المتواجدين بالفرقة ولم استوعب ماذا يقولون مع أصوات أبواق السيارات بالشارع العام امام مسجد النور ، ومن لا يعرف اين موقع فرقة أكتوبر هي البناية التي تقع فوق المطعم المجاور لصيدلية الشبوطي والتي كانت سابقا نادي الواي الرياضي و فرقة الشرق الموسيقية فيما بعد ثم أصبحت فرقة أكتوبر المسرحية ! المهم صعدت لاستفهم ماذا حصل؟! وهنا تفاجأت وكالعادة من ياسر سلام يطلب مني بسرعه الذهاب للبيت وإحضار حقيبة السفر و لأننا مسافرين الساعة الثامنة مساء على طيران اليمدا إلى صنعاء!! طبعا كان ذلك في نهاية يناير ١٩٩٢م وحسب كلام الاخ المخرج ياسر صاحب العمل ان الموافقة تمت لدعمنا بالسفر من قبل الاخ نائب رئيس الجمهورية السيد علي سالم البيض ومطلوب حضورنا اليوم التالي في صنعاء لاستلام بدل السفر وقيمة التذاكر ومصروفات السفر من الاردن الى العراق من رئاسة الجمهورية ! هنا أدركت اننا قادمون إلى كارثة خصوصا ضغط الوقت وحكايتي المطينة بطينه! أولا مازال عندي الجواز القديم الجنوبي الذي مكتوب فيه الدول التي مسموح السفر إليها وهي الدول الاشتراكية وسوريا واثيوبيا فقط وأخبرته بذلك ، رد عليا بسيطه سوف نصل صنعاء ونعمل ذلك هناك ، حينها قلت تمام على بركة الله و تحركت فورا إلى صلاح الدين واخبرت العائلة وودعتهم كان الوقت السادسه ثم انطلقت عائدا إلى منزلنا بالمنصورة لاجمع حقيبة السفر ببعض الملابس و تحركت فورا إلى المطار ووصلت السابعه والنصف والتحقت بفريق العمل هناك وركبنا الطائرة من المطار القديم الخاص بالرحلات الداخلية ووصلنا صنعاء التاسعة مساء ونزلنا فندق الكويت وفي اليوم التالي تحرك ياسر سلام إلى رئاسة الجمهورية هو والمندوب الذي كان يعامل له تفاصيل السفر وعاد ومعه المبلغ المالي وبدأت رحلة البحث عن صرف الدولارات وحينها ساعدنا في ذلك رحمة الله علية الفنان محمد المتوكل ، كل ذلك كان شي جميل إلا أن موعد سفرنا الذي أكده المندوب والذي حجز السفر إلى الأردن لم تكن في الحسبان بالنسبة لجميع طاقم الفرقة عندما قال لنا غدا صباحا موعد السفر !! هنا جن جنوني وخصوصا جوازي أولا لم يتم إضافة جميع دول العالم وثانيا عمليا لم نعمل أي بروفات عمليه وكعادته ياسر سلام قال بسيطه سوف نعمل الاضافة في سفارتنا بالاردن

انتفضت وقلت كيف يمكنني الدخول إلى الأردن وكذلك كيف أستطيع المرور من مطار صنعاء ! رد عليا باتسافر يعني باتسافر ولا يهمك!!
المحبط ان السفر في اليوم التالي كان يوم جمعه والا كنا عملنا الاضافة في الخارجية قبل الذهاب إلى المطار ولكن وقعنا وقلت له اوكي سافرو انتم وانا سوف أعدل ليوم آخر ولكن المخرج مصمم وهو رئيس الوفد ولا جدال معه

تحركنا ولو لم يكن الزميل الفنان نبيل حزام كان يودعنا ما كنت عرفت اساسا الخروج من مطار صنعاء وبالمحسوبيه تم ختم جوازي للخروج وغادرنا ووصلنا الأردن وفي تلك الأيام كان التحالف العربي بين العراق واليمن والأردن ! قالها أحدهم؛ لولا العلاقة الطيبة بين البلدين كنا سوف نعيدك على نفس الطائرة ؛ هكذا قال لي الضابط المحترم في الجوازات الأردنية ولو لا انك من اليمن لاوقفناك!! بعدها اعتذرت للضابط وشرحت له كافة التفاصيل والأسباب والخطأ الذي ارتكب من قبل وفدنا وبالفعل تم استدعاء ياسر سلام وطلبوا منه الإسراع إلى السفارة لوضع الاضافة ثم العودة إلى المطار لكي يتم خروجي وبقيت في ضيافة رجال الجوازات الأردنية بكل احترام وقدموا لي القهوة والكعك والابتسامة ! بصراحة انا كنت سعيد للمرمطه التي حصلت لياسر هو وفريق العمل عندما ذهبوا السفاره وهي مغلقة يوم جمعة وبحثوا عن القنصل حتى وصلوا لمنزله والعثور عليه بعد أن أخذو أولا تعليمات من السفير بالإسراع في إضافة جميع دول العالم
عاد ياسر مع فريق العمل إلى المطار بعد أربع ساعات ويتم تأشيرة دخولي إلى الأردن بعد نضال شاق المتسبب الوحيد فيه اللا مبالاه من اخونا ياسر مع اننا طلبنا تأجيل السفر يومين والعناد ركبه وها هو يجني ثمن عناده والفوضويه بما حصل
المهم كانت سيارة الجيمس التي نقلتنا من مطار عمان رجل فلسطيني يعمل بها من نازحين ١٩٦٧م وكان رجل ودود وبدأت رحلتنا عبر البر إلى بغداد وتناولنا وجبة الغدا في عمان السادسة مساء قبل الانطلاق !
اتذكر تلك الليلة كان شتاء قارص وبروده تحت الصفر في براري الأردن والعراق ونحن لا نمتلك غير جاكيتات خفيفة التي نستخدمها في صنعاء وهنا حصلت الفاجعة بعد خروجنا من الحدود الاردنية عندما سلك ( الكليش) قطع فجاءة ونحن في الصحراء وتوقفت السيارة وبدأنا نشعر بالصقيع ونزل الرجل يعمل تحت السيارة ويحاول إصلاحها خصوصا كما فهمنا منه ان ميكانيكي وتحصل معه دائمآ هذه المفاجآت حينها لكي نحاول أن نسخن أنفسنا قررنا نغني ونطرب و اتذكر اني كنت اغني بصوت عالي جدا يا بلادي الثائرين واندمجت وتفجرت مواهب الغناء

وبدأنا نخرج من السيارة لكي نعطي للرجل الممتد تحت السيارة في شتاء صحراء العراق ! دعما معنويا وبدأنا نركض من حول السيارة وخلال ساعة تم إصلاحها و انطلقنا وحينها قال لنا السائق الفلسطيني الحمد لله اننا تجاوزنا مرحلة صعبة كان ممكن ان تحصل لنا وهي غياب قطاع الطرق في نفس المكان الذي توقفت سيارتنا مابين الحدود الأردنية العراقية
ربك ستر علينا لانه كما وصف ؛ اقل حاجه كان ممكن يسرقونكم وإنما الأخطر القتل أيضا شي طبيعي عند قطاع الطرق !!
عندها صمتنا جميعا والهلع محاصرنا حتى وصلنا المنفذ الرئيسي للعراق وتنفسنا الصعداء وبعدها دخلنا في نوم عميق لم نصحى منه إلا ونحن في شوارع بغداد العظيمة بغداد العروبة والأصالة والتي اعتبرها من اهم المدن التي سافرت إليها في العالم !
وصلنا فندق المنصور ووجدنا الزملاء بالفرقة الوطنية المشاركة الرسمية في مسابقة المهرجان بعكس عملنا الذي نشارك به على هامش المهرجان وحينها أطلقوا علينا الزملاء بالوفد العشوائي وبصراحة انا وعقلان مرشد وانصاف علوي وافقناهم على فكرة العشوائي لان كل ما حصل معنا عشوائية في كل شي

بعدها ذهبنا مع المخرج ياسر سلام إلى ورشة الديكور في المؤسسة العامة للسينما والمسرح لكي يعطي لهم خطة الديكور المطلوب والذي انا شخصيا فوجئت بعظمة الديكور المطلوب والذي أبهر العراقيين ! حينها التفت إلى عقلان و إنصاف بنظرة حيرة و قلق ! والكارثة تم تحديد لنا مسرح العرض وكانت المفاجأة مسرح المنصور !!! ما هذا إلى أين نحن ذاهبون يا اخواني كان ذلك حديثي مع الفريق كيف نستطيع أن نقدم مسرحية من سبعة أفراد على خشبة مسرح بعظمة المساحة في مسرح المنصور الذي تقدم عليه أضخم المسرحيات من كثافة بشرية لا تقل عن ثلاثين ممثل وكمبارس و راقصين وراقصات انها خشبة مسرح ضخم أشبه إلى مسارح موسكو التي تقدم علية الاوبرا والباليه!
حينها اتخذنا قرار بعد الجلوس مع اخونا الفنان سالم الجحوشي عضو فرقة المسرح الوطني المشارك بمسرحية الحكمة يمانية مع الأستاذ علي يافعي عميد المسرح وشرحنا لهم الوضع من وراء ياسر سلام على ان نحاول نقنعه انا والجحوشي وانصاف علوي بعد أن أخذ موقف من عقلان في تعطيل عرض العمل وبعد أن فهمناه وجهة نظرنا الأكاديمية التي يستحيل تقديم عرض مسرحي صغير على هكذا خشبة والمؤسف لو لم تكن فكرة الديكور الضخمه كان ممكن نعرض في مسرح صغير لذلك عملنا اتفاق سري مع فوزيه في اليوم التالي الجنرال البروفة ليلة عرض مسرحيتنا ان تفتعل مرضها الخاص بالكلى وبصراحة اختنا فوزية لعبت دور جميل جدا في الحياة دون أن يعرف ياسر نفسه ولابقية المجموعة حتى تكتمل الحبكة وفعلا نجحت الخطة وتم إسعاف فوزيه وتناولت حقنة المهدية الخاصة بالكلى وتم الاعتذار عن تقديم العمل للحالة المرضية التي تعرضت إليها الممثلة ! وخرجنا من هذه الورطة سالمين ! وشكرا يا بنت سالمين

أولا كنا على إدراك ان العمل لم ينضج فنيا ، ثانيا حجم المسرح وخصوصا مسرح المنصور ثالثا والاهم سمعة المسرح في بلادنا وخصوصا المسرح الجنوبي الذي حقق نجاحات باهرة في أعوام سابقة في بغداد وتحديدا مسرحية طاهش الحوبان الذي أخرجها الفنان والمخرج المسرحي والسينمائي منصور اغبري وتأليف الكاتب احمد عبدالله سعد و بطولة عميد المسرح علي يافعي !
خير مافعلناه وتفهم ذلك تماما اخي الفنان الطيب جدا والصادق ياسر سلام والذي تفهم في الاخير بما قررناه خوفا من فشل العمل الذي بصراحة لم يكن يرتقي الى مستوى الحدث وشاركنا بعد ذلك في فعاليات المهرجان في مختلف الندوات وحضور العروض المسرحية بفعالية وحققت مسرحية الحكمة يمانية التي كانت من تأليف علي يافعي وبطولة هاشم السيد وسالم الجحوشي و محاسن سعيد نجاح باهر أثناء عرضها واشادة من النقاد في اليوم التالي حيث قدم العرض بمسرح الغرفة في بيت تاريخي عتيق في قلب بغداد ! واستمتعنا بالسهرات الفنية داخل الفندق والتقينا بالمطرب كاظم الساهر الذي كان وقتها متعاقد بحفلات في فندق المنصور!
وهكذا كانت رحلة الوفد العشوائي الذي انتصرنا له في الاخير وكنا حريصين على عدم تعريض سمعة المسرح العدني أكثر من أنفسنا ! ليس كما حصل فيما بعد حيث تم مشاركة بعض أعمال فاشلة وهابطة مثلت عدن في مهرجانات مختلفة لبعض الأفراد لاتعي معاني المسرح ودهاليزه الذين اساءو لعدن قبل أن أنفسهم مابعد ١٩٩٤م للاسف الشديد !!!
د عبدالسلام عامر
٢٧ سبتمبر ذكرى رحيل الفنان المسرحي
عقلان مرشد
سبتمبر ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات (٤٨)
( بسبب عائلة انطولي زايتسوف Анатолий зайцев : خرجت من الحفلة فائزا بباقات من الزهور والورود والفرحة والسعادة تغمرني في تلك الليلة المخملية )
كنت مارا من امام تمثال كالينين أحد الرجال المؤسسين للاتحاد السوفيتي العظيم في الشارع الأشهر بمدينة مينسك شارع لينين او اوتستراد لينين واذا فجاءة اقابله وجها لوجه بعد عشر سنوات ، كان ذلك في عام ٢٠٠٠م كان الرجل أحد كبار جنرالات الجيش السوفيتي حيث كان من قيادة أركان الجيش في جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفيتية الذي يدعى انطولي زايتسوف Анатолий зайцев ولم اصدق عندما شاهدني صرخ فرحا بي ويناديني باسمي ويأخذني بالأحضان! كان هذا الرجل هو والد زميلتي بالدراسة في أكاديمية الفنون البيلاروسية اوكسانا زايتسفا Оксана Зайцева ، وبفضل تلك الفتاة تعرفت على أسرتها الطيبة والتي كانت بمثابة أسرة سوفيتية نموذجية في علاقتي بهم من الجانب الإنساني المحض ، حيث ذات يوم طلبوا من اكسانا ان توجه لي دعوة من أبيها وأمها للعشاء في منزلهم ، حيث كانت اكسانا نموذج فريد للفتاة الانسانة قبل أن تكون زميلة في الدراسة ومن خلالها عرفت الأسرة عني كوني الطالب الوحيد المغترب الأجنبي في الدفعة الدراسية ! سعدت جدا بهذه الدعوة وكنت قلق خصوصا ان والدها كما أخبرتني جنرال في الجيش وكانت الصورة الذهنية لدي ان قادة الجيش يتميزون بالصرامه ! عندها سألتها عن الكلب و كما أعلم انهم يمتلكون كلب كبير اسود وضخم وطلبت منها ان يحجرو عليه أثناء قدومي لاني لااطيق تلك الكلاب الضخمة والشرسه ! حينها ضحكت وقالت لا تخف سنعمل على ذلك مع ان الكلب متربي وابن ناس

المهم لم تكن تلك الزيارة مجرد دعوة من اهل اكسانا بل كانت مهمة إنسانية من هذه الأسرة النبيلة التي تتكون من اربعة افراد فقط لديهم فتاتين الكبرى اكسانا والصغرى كاتيا ، كما تشكل هذه الأسرة نموذج لتعاليم مهمة الفرد والمجتمع السوفيتي في الإنسانية بل كانت أيضا رسالة سامية تجاهي حيث دعموني طيلة السنوات التي عشتها اثناء الدراسة في مدينة مينسك !
كانت أسرة من الأسر العريقة بالمدينة ومن فئة المثقفين فعلا وكان انطولي رجل مثقف و انسان حقيقي ويمتلك ذخيرة من المعلومات في الادب والثقافة والفنون أبعد ماتتصور وكان رجل شهم و جميل وانيق!!
استمرت علاقتي بكل احترام وتقدير لهذه الأسرة و شكلت تلك العلاقة المتينة مع زميلتي اكسانا في الدراسة العملية حيث كانت الثنائي معي في مادة الحركة المسرحية والمبارزة و مادة الغناء خصوصا انها خريجة مدرسة الموسيقى وتجيد العزف على البيانو وقدمت واياها وصلات غنائية قدمناها في امتحان التخرج إلى جانب المبارزة ! كانت اكسانا انسانة رقيقة وصادقة ومحبة للناس ووفيه وكريمه ، ومن تلك الذكريات في إحدى السنوات بالصيف لم يكن معي المبلغ لشراء تذكرة السفر إلى عدن بالإجازة والذي كان في ذاك الزمن السوفيتي العظيم يقدر بثمانمئة روبل أي حوالي ٢٠٠ دولار ذهابا وايابا !!! فاقرضتني المبلغ دون تردد وكان طبعا وراء ذلك الاب انطولي !! وكان رد الجميل لهم بهدية مني باكياس من (العطريه) الشعيريه وقارورة (عشار) مقبلات من الليمون والفلفل الاحمر الذي وعدت اكسانا ان احضر شي من المطعم العدني وخصوصا انها قد تذوقته عند زياراتها لي بالسكن الجامعي


ونعود إلى مرجوعنا كان لقائي به عند التمثال امام منزلهم وتسائل حينها كيف لك ان تمر من امام عمارتنا دون أن تطرق علينا الباب لزيارتنا ! وقد احرجني إلا أني اعتذرت على الفور واني كنت على عجلة من أمري لكي ااخذ ابنتي أميرة من مدرسة الموسيقى الابتدائية المسائية والتي كانت نفس المدرسة التي درست فيها اكسانا ، حينها تقبل الرجل عذري وبعدها دار بيننا حديث الذكريات وأخبرته اني حاليا عدت للدراسات العليا وأحضر رسالة الدكتوراه ، كما أخبرني هو ايضا انه قد تقاعد من الجيش وكان آثار الزمن على الرجل مع انه مازال يحتفظ بقوامه ووسامته! كما أخبرته اني قد تواصلت مع اكسانا وزرتها إلى بيتها والتقيت بالصديق ساشا زوجها والتقيت باطفالها .
كانت هذه الأسرة النبيلة هي أسرتي الثانية في مينسك وكان يوم تخرجنا في حفل التخرج هي المفاجأة الكبرى لي عندما تم استدعائنا للصعود الى خشبة المسرح وكنا ١٦ طالب وطالبة كان المسرح مكتض بالجمهور وعائلات الطلبة الخريجين والمحبين وفي هذه الأثناء يتم صعود عائلة كل طالب وطالبة لتسليمهم باقات من الزهور و الورود وكانت عائلة أوكسانا Оксана قد أعدت لي شخصيا باقة من الورد وزهور حينها لم أتمالك نفسي وذرفت دموعي حيث لم يتركوني اشعر بإحساس عدم وجود اهلي !! ما اعظم الشعب البيلاروسي و ما أعظم الاتحاد السوفيتي!! حينها لم تتركني أيضا أسرة زميلتي الأخرى الثنائي معي بالتمثيل لينا كوفشيك حيث قدمت لي بوكيت ورد وخرجت من هذه الحفلة فائزا بباقتان من الورود والزهور⚘⚘⚘ و انطلقنا بعدها إلى المطعم للاحتفال مع اساتذتنا والفرحة والسعادة تغمرني بما حصل لي في تلك الليلة المخملية التي لم ولن تتكرر مهما طال الزمن لانه أحيانا لحظة فارقة بحياة الإنسان قد تكون مصدر سعادة أبدية له وهذا ما اعتقده! شكرا لعائلة زايتسوف وشكرا لزميلتي الجميلة أوكسانا زايتسوفا وشكرا لجميع زملائي بالدفعة الدراسية وعلى رأسهم لينا كوفشيك وشكرا لهم جميعا الذين كانوا فعلا خير أسرة لي في غياب اهلي ! انهم مجتمع الفنون مجتمع الثقافة والانسانية .. مجتمع السوفييت !
د عبدالسلام عامر
أكتوبر ٢٠٢٥م
بين الفن والسياسة :
(عبدالله صالح المسيبلي علمني فن (الافيه) وعبدالله صالح البار أرسلني لاستلام عضوية الحزب الاشتراكي سويا )
كان يوم التحاقي بالمسرح الوطني بعد تخرجي من معهد الفنون الجميلة في سبتمبر ١٩٨٤م يوم فاصل في حياتي المهنية وخصوصا عندما استقبلني كبار نجوم المسرح الوطني وعلى رأسهم عميد المسرح في بلادنا الأستاذ علي احمد يافعي و أبو المسرح الفنان الكبير عبدالله المسيبلي رحمة الله عليه وفي مقدمتهم الناقد والاستاذ والمؤرخ القدير الراحل احمد سعيد الريدي الذي كان مدير إدارة المسارح في الجمهورية ناهيك عن أستاذي د عمر عبدالله صالح الذي كان في وقتها رئيس فرقة المسرح الوطني والذي تخرجت من المعهد على يده ! ولا انسى الترحيب بي من أبناء حينا وعيال الحافة كما نقول النجمان اللامعان اولاد مكرم عنتر الاخوين عمر ومحمد وكانا خير سند لي في تواجدي بالفرقة الوطنية وبصراحة كان كل نجوم المسرح الوطني يشجعون ذلك الشاب القادم إليهم دون تحفظ بل بالعكس ساعدوني بالانخراط والتطبع معاهم بسهولة ويسر ولا أنسى الاخ الشهيد علي الرخم الذي كان دائما يقدم النصح والافادة وقام بتسهيل أمور كثيرة بالجانب الإداري وتوجيهي في كيفية الإجراءات الإدارية لتثبيت الوظيفة خصوصا ان الفترة من سبتمبر حتى ديسمبر سوف اكون مساهم حتى بداية السنة الجديده في ٢ يناير ١٩٨٥م يتم اعتماد المخصص المالي والاداري للوظيفة الرسمية و(بدرجة م٥) ثانوية تخصصية أي ان درجتي الوظيفية تفوق درجة الثانوية العامة (م/١/ ٤) حيث راتبي حدد ٥٦ دينار بينما خريجين الثانوية العامة ٤٨ دينار بفارق ٨ دينار لخريجين المعاهد التخصصية ! كان النظام المالي والإداري في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منظم في الدرجات الوظيفية وفي العلاوات وغيرها وحسب التسلسل الوظيفي يصل الموظف إلى مراكز الإدارة في أي مرفق وفقا للمؤهلات واكتساب الخبرات من سنوات العمل حتى يصل إلى المناصب وليس كما رأيناه ونراه الآن من عبث إداري مابعد ماتسمى بالوحدة وخصوصا بعد الحربين ١٩٩٤م و ٢٠١٥م أصبح الصالح خارج الوظيفة او محلك سر والطالح مديرا او مسؤولا عن ذوي الكفاءات والخبرات !!
نعود إلى حكايتي مع الوظيفة في المسرح الوطني ومن المفارقات التي لم أكن أعلم بها ، حيث أخبرني الأستاذ أحمد ناصر الحماطي والذي هو الآخر واحد من الذين احتووني وأصبح من المقربين لي عندما فاجأني ان لي راتب شهري مساهم ٣٠ دينار خلال الثلاثة أشهر و كان الحماطي حينها مدير المسرح والمسؤول الأول عن صيانته ومسؤول على جميع الفنيين من الإضاءة والصوتيات والصيانة ونظافة المسرح الوطني بشكل عام حيث يعمل تحت قيادته فريق عمل كامل بالإضافة الى وجوده الإعلامي كمقدم جميع الاحتفالات الفنية والسياسية التي كانت تقام بالمسرح الوطني وعلى اتصال مباشر مع الرئاسة !
كل ذلك جعلني انخرط بعزيمة وحيوية في عملي الفني خصوصا كان أول دور أسند لي في مسرحية ( يا خير فائدة) من قبل المخرج عمر عبدالله صالح ومن تأليف الأستاذ الراحل محمد عوض شيخان مؤلف مسرحية غربان يانظيرة فيما بعد ! و انا شخصيا سميتها يا خير فرصة اني امثل امام قامات المسرح في بلادنا منذ أول عمل لي وكان دور بطولة مشتركة مع الكبار من أول لحظة وقفت فيها على خشبة المسرح الوطني وكنت سعيد جدا وانا اقف امام نجم الكوميديا العملاق الراحل عبدالله المسيبلي و نجمة لحج الخضراء الفنانة القديرة لول نصيب ومعهم الفنان الراحل الجميل احمد مطلق و الفنان فؤاد هويدي صديقي العزيز الذي كان أيضا في بداية مشواره بفرقة المسرح الوطني! مما ساعدني كثيرا في التقرب من الأستاذ عبدالله رحمة الله عليه ومنه تعلمت مالم اتعلمه في المعهد واكتسبت خبرات في كيفية صناعة( الافيه) وشهدت المسرحية نجاحا لافتا عند عرضنا لها في المسرح بالتواهي ثم عرض واحد في نادي الوحدة بالشيخ عثمان ! بعد ذلك توالت الأدوار وإنما أبرز ما قدمته خلال عام ١٩٨٥م كان أهم دور لي في مسرحية ضخمة فيها معظم نجوم المسرح الوطني التي أسند لي دور صحفي في مسرحية المهرج للكاتب السوري محمد الماغوط وهي مسرحية للمخرج محمد الرخم باللغة العربية الفصحى والتي وقفت في مشهد واحد امام سالم الجحوشي و عبدالله المسيبلي و ذكرى احمد علي مشهد السجن لحظة اعتقال صقر قريش على الحدود !!! كوميديا سوداء فضيعة! ما اروع محمد الماغوط وما أروع المخرج محمد الرخم هذا الدور الذي جعلني على المسار الصحيح في خطواتي اللاحقة في عالم المسرح ! والمسرحية الثالثة التي لعبت فيها بطولة ثنائية مع العميد علي يافعي كانت من تأليفه وإخراجه بعنوان( ١+١ ) ثم المسرحية الرابعة بعنوان ( كلنا نتعلم ) من تأليف احمد عبدالله سعد وإخراج القدير محمود اربد رحمة الله عليه! كل تلك الأعمال قدمت من سبتمبر ١٩٨٤ حتى مارس ١٩٨٥م ! بالاضافة الى أعمال أخرى متنوعه عملت فني مساعد اضاءة مع الأستاذ العراقي الموسيقي حميد البصري عندما أخرج ( أبجدية البحر والثورة ) من المسرح الغنائي الثوري كان من بطولة نجيب سعيد ثابت و الفنانة العراقية شوقيةالعطار وعملت معهم على الإضاءة وسافرنا إلى أبين وعرضناها هناك بمناسبة افتتاح ساحة الشهداء !
كانت الحياة والعمل في المسرح الوطني عبارة عن متعة وشغف ومن خلال حياتنا بتفاصيلها اليومية حيث نجتمع كل صباح بعد أن نصل للدوام الرسمي في وقت الفطور بالمقهى المعروف بالتواهي حيث كان يأتي إليه غير الثقافة موظفين السياحة و أمن الدولة و شركة الملاحة الوطنية وخصوصا كنا زمان نأتي بالفطور الخبز ملفوف بالجرائد من بيوتنا ونذهب فقط لشراء الشاي والفاصوليا او البيض عيون او مقلي وهنا كانت اللمة تجمع الزملاء والاصدقاء في وجبات الفطور ! وفي ذات يوم وانا كعادتي وفي يدي لفيف الخبز في جريدة قديمه ، استدعاني زميلي الفنان محمد عبدالرحيم ولمن لا يعرفه هو صاحب دور خيران في مسرحية التركة، الذي كان رفيقي أيضا في اتحاد الشباب ( اشيد) بوزارة الثقافة وهو السكرتير الاول للجنة العليا بوزارة الثقافة ومعهد الفنون الجميلة بينما كنت انا سكرتير أول ديوان الوزارة، كان يبدو حزينا حيث قرر أن نفطر سويا في المكتب وأخبرني بقرار رحيله من المسرح وانتقاله للعمل مضيف طيران في اليمدا وأدركت حينها أن الرجل لديه كلام كثير يريد قوله وبالفعل كان خلاصة الكلام أن يصعد نائبه إلى قيادة اللجنة العليا لاشيد الاخ احمد حميد بينما يتم ترفيعي في الانتخابات القادمة إلى منصب سكرتير ثاني اللجنة العليا والاهم ان اكتب طلب فوري للحصول على عضوية الحزب الاشتراكي اليمني قبيل اجتماع لجنة الحزب حتى يتمكن من دعمي في الاجتماع الحزبي الذي كان هو عضو في الحزب حينها ! وبصراحة كان هذا الطلب واحد من امنياتي تحقيقة خصوصا اني كنت ناجحا في العمل الشبابي وعندي حسن سيرة وسلوك في المعهد والوزارة وعلى علاقة ممتازة مع جميع الناس ولم أدرك حينها أن الصراعات الحزبية في ذلك الوقت كانت في أوجها سنة ١٩٨٥م !!
كتبت الطلب فورا بعد أن املئ لي صيغة تقديم الطلب للحصول على عضوية ترشيح للحزب وقدمت له في اليوم التالي اربع صور شمسية ورفقها بالطلب ! عندها جاء دوري حين بدأت اجس نبض زملائي الفنانيين المنتمين للحزب وكان منهم الأستاذ سالم الجحوشي و الأستاذ عمر عبدالله صالح و الأستاذ أحمد ناصر الحماطي و الأستاذ أحمد سعيد الريدي بالاضافة الى محمد عبدالرحيم نفسه واثنان آخرون ، هؤلاء تقريبا كانوا أعضاء في الحزب الذين يشكلون دعما لي امام الأعضاء في ديوان الوزارة والتي تجمعني واياهم احترام وحب وهنا كانت المفاجأة عندما طلب حضوري الاجتماع الحزبي قبل حتى ما تتم الموافقة ودخلت الاجتماع معتقدا أن هناك أعضاء متقدمون آخرون وكان متواجد بيننا السياسي الكبير من ريحة الرئيس سالمين الأستاذ عبدالله صالح البار والذي كما هو معروف في تلك الأيام تم الإفراج عن رجال سالمين بقرار من المكتب السياسي واعادتهم للحياة العملية فتم تعيينه نائبا لوزير الثقافة كنائب آخر مع الست عائدة علي سعيد وبالتالي كان يجب أن يعاد للعمل السياسي الحزبي وينخرط في الحزب تمهيدا لترفيعة إلى منصب عضو اللجنة المركزية في المؤتمر العام الثالث المزمع في أكتوبر ١٩٨٥م !
المهم عندما جاءت نقطة الأعضاء المتقدمين لعضوية الحزب وفقا لجدول الإجتماع ذكر الاسم الاول عبدالله صالح البار وتمت المصادقة بالإجماع ، ثم اتضح اني الوحيد كنت متقدم معه وعندما رأيت يد الوزير راشد ثابت و نائبة الوزير عائدة علي سعيد وهما يرفعان بالموافقة طبعا مع الجميع إلا أن هذه اللحظة كم كانت رائعة من وجهة نظر شاب في مقتبل العمر وأحسست بشعور عظيم خصوصا وإن من كان بجواري ومعي أحد رجال الشهيد بابا سالمين من رجال الدولة التي عشنا خيرها !!
نفس الشعور بعد اسبوع عندما كلفني البار ان اذهب اللجنة المركزية استلم بطاقة ترشيحة مع استلام بطاقة ترشيحي واعتقد انه استلام البطاقة من اللجنة المركزية كانت استثناء في تلك الأيام والله أعلم ! وفعلا تحركت بباص الوزارة واستلمت بطاقتي وبطاقة الأستاذ عبدالله البار بكل فخر وبقيت هذه الذكرى محفورة في وجداني والغريب بعد مرور سنوات طويلة خصوصا اني غادرت في اغسطس ١٩٨٥م للدراسة بالاتحاد السوفيتي وأحداث يناير وغياب البار عن المشهد السياسي مرة أخرى ثم يعود بعد الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية وتحديدا بعد ١٩٩٤م في اعادة تنظيم المؤتمر الشعبي العام تنظيميا في صنعاء قررت ازوره عام ١٩٩٩م قبيل سفري للدراسة العليا ( الدكتوراه) وعندما شرحت امام البوابة في مقر اللجنة الدائمة من انا ولماذا اريد ان اقابله سمح لي بالدخول وكانت العيون تتبعني داخل أروقة المكان و كأني أتيت انتزع منهم وريثه إلا أنني كنت واثق بدخولي لشخص يكبرهم في كل شي وعندما رآني عرفني على طول !!! ما اعظم رجال سالمين وعندما بدأت أذكًره بالمواقف أيام البطاقة الحزبية قال لي فورا طبعا فاكر وارسلتك تحضر بطاقتي من اللجنة المركزية! كانت زيارتي له لمساعدتي بصفة شخصية كوني مسافر على نفقتي والدولة لم تمنحني منحة حينها ودون تردد ادخل يده في جيبه ومنحني مئتان دولار وظل يعتذر لي أن هذا المبلغ الذي في جيبه ولو كان لديه أكثر لدفعه لي وطلب مني العوده بعد يومين سيدبر لي مبلغ أكبر وهذا الكلام كان يكفيني ، حيث أخبرته أن طائرتي غدا إلى سوريا ومنها إلى بيلاروسيا وشكرته ثم ودعته واحتضنته ولم تكن فيه رائحة احد سوى رائحة سالمين !! رحمة الله عليك استاذ عبدالله
د عبدالسلام عامر
يوليو ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٥)
( تم تجريدنا من أرضنا.. بعد الاستيلاء على مزارعنا و مصادرة أكبر بستان الذي كنا ناكل من خيراته مجانا ، تباع لنا في الأسواق حاليا من رجال اغراب لا ينتمون للارض ! هذا البستان الذي ترقد على مشارفه قرية جدتي فاطمة المفقودة )
كان قرار امي رحمة الله عليها بالتحرك مشيا على الأقدام إلى هدفنا المنشود حاسم ، كنت حينها في السنة الدراسية الثانية واخي منصور في الثالثة ابتدائي ، بالنسبة لي اعتقد هي أول زيارة وانا اعي الدنيا إلى قرية جدتي فاطمه رحمة الله عليها ، حيث كانت اللهفة والاشتياق لتلك الزيارة مرسومة في ذهني بطريقة أخرى ولم اكن أدرك معنى ذلك إلا بعد أن وطئت قدماي قرية ( الكدام ) هذه القرية التي تقع على مشارف بستان الحسيني من الجهة الشرقية . كانت رحلتنا وخروجنا من منزلنا الخميس عصرا وتحركنا من عدن إلى الحوطة عاصمة محافظة لحج على الحافلة و كانت هذه الزيارة الأسرية انا وامي واخي منصور هي الرحلة الأولى لأتعرف على لحج ! ولا أعلم أن زرتها وانا رضيع او في سن ما قبل الثلاث السنوات ولا اعتقد ان حصل ذلك لأسباب عديدة ما قبل ١٩٦٧م لذلك لهفة الزيارة و شغف المشاهدة من نافذة الباص وانا بين أحضان امي بالمقعد المخصص لها بينما منصور و (البقشه) بين احضانه احتل المقعد المجاور لأمي ! والبقشه التي قد لا يفهمها الجيل الجديد هي محتويات ملابسنا وبعض الهدايا التي نحملها معنا ملفوفة في قطعة قماش ومربوطه بشكل آمن!
المهم عند وصولنا إلى الحوطة تقريبا مع أذان المغرب واجهتنا اول مشكلة ، حيث في ذلك الزمن مطلع السبعينيات من القرن العشرين كانت سيارات الاجرة التي تنقل الأسر والعائلات من الحوطة إلى مختلف القرى المجاورة تعمل تقريبا طوال النهار حتى المغرب وهي سيارات اللاند روفر والتيوتا بيك اب انما بعد المغرب لا تجد غير الدراجات النارية لنقل الشباب او الرجال الذين يتنقلون في المساء لأسباب مختلفة ومنها على سبيل المثال الذهاب لمشاهدة السينما في العاصمة الحوطة ، ولذلك لم يكن أمام امي أي خيار غير القرار والحسم ان نمضي قدما بالمشي على الاقدام إلى قرية الكدام موطن جدتي فاطمة لزيارتها وزيارة اخوالي المرحوم صالح سعيد هندي و خالي الاصغر فضل ربنا يمده بالصحة والعافية وخالتي ام عبدالخالق سعيد بابحار رحمة الله عليها ، وهم أشقاء امي من ناحية الام !
السير على الأقدام إلى الكدام شي طبيعي في ذاك الزمن ، كانت الناس تقطع المسافات الطويلة بين القرى مشيا على الأقدام ولم يشعرون بالضجر من ذلك كما يحصل مع الجيل الجديد في زمن الخمول والكسل ! لذلك كانت الحركة والمشي لمعظم ابناء الريف وخصوصا الفلاحين رياضة مفيدة ، حيث ان معظم الناس من النساء والرجال مزارعين ولديهم اللياقة ويتمتعون بالصحة الجيدة !
تحركنا صوب القرية في البداية على خط الاسفلت واذا ما استمرينا على خط الطريق كان سيأخذ منا وقت ساعة ونصف تقريبا لكي نصل ! لكن قرار امي اختصار الطريق والمرور عبر الاطيان بين الحقول كان قرار غير موفق وهنا كانت المأساة !! كان الليل قد أسدل ستارة بالظلام ولم يكن لنا شفيع وسط حفيف ورق القصب لزراعة الذره ( الهند) كما نسميه محليا و الحذر من الكلاب الضالة في الوديان ، غير ضوء القمر الخافت الذي لم تكتمل ولادته بعد من الاسبوع الأول منه !! لذلك لم يكن كافي ولم تظهر لنا ملامح أي قرية او بصيص امل لضوء يأتي لنا من أي فانوس على سطح او شرفة ! حيث في تلك المرحلة لم تدخل الكهرباء بعد إلى القرى وحتى الحوطة نفسها لم تدخلها كاملة ! المهم بدء الخوف يعترينا وخصوصا عندما تواجهنا مع قلة من الكلاب الضالة استطعنا أن ندفعهم عنا ورميهم بالحجارة ، وكانت امي متماسكة جدا و تهدي من روعنا عندما ادركنا اننا فقدنا البوصلة بين الاطيان الممتلئة بزراعة الذرة وكأننا وسط بحر من القصب الأخضر و لانعرف اين الشرق من الغرب في ظلام الليل والوقت يطول والتعب يرافق اقدامنا حتى ظهر لنا شبح شخص عن بعد وبيده سراج بطارية يدوي ( تشليت) يضيئ منه نور وتوجهنا مسرعين في اتجاه الضوء حتى وصلنا اليه وأخبرته امي اننا تائهون ولم نعد نعرف أين نحن الآن ؟! كان الرجل هو أحد شراح الأرض ليلا ، أي من يتفقدها والحفاظ على المحاصيل الزراعية للفلاحين من اللصوص وغيرهم ، كان هذا الرجل المنقذ لنا في تلك الليلة التي طالت علينا والتي كانت تبدو لنا ليلة لن تنتهي ابدا ! حينها أخبرنا الرجل أننا ضلينا الطريق إلى الكدام ومتجهون إلى قرية الهجل على ما اتذكر قوله ! ولابد علينا من التحرك في الاتجاه المعاكس المؤدي لقرية الكدام !
تنفسنا الصعداء وتحركنا وفقا لوصفه للوصول إلى القرية وظهرت لنا بوادر انوار من ضوء الفوانيس التي كانت تعلق على بعض دكاكين القرية وكنا نقترب من القرية والأنوار تبدأ أكثر وضوحا وأصوات الناس والقهقهات تصل الينا من بعض السمٌار يتسامرون امام بوابة أول دكان و يجلسون تحت سقيفة يلعبون الورق والبعض الآخر يستمع إلى راديو الدكان فالراديو كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة لأهل القرى في ذلك الزمن ومن خلالها يستمعون إلى السهرات الغنائية وغيرها من البرامج التي تبثها إذاعة عدن بالاضافة الى إذاعة لندن البي بي سي التابع لهيئة الإذاعة البريطانية و الصوت العالمي الوحيد لمعرفة أخبار العالم الآخر كما هو في الزمن الحاضر الفضائيات ! عندها امي عرفت من خلال الدكان الذي يقع نهاية القرية في الجانب الغربي طريق الدروب بين مساكن القرية المؤدي إلى منزل جدتي فاطمة . كان المرور في دروب القرية الضيقة قد ابهرتني ونحن نمر عبر منازل مصنوعة من الطين ووفق بناء هندسي يليق بقرية زراعية وما ان طرقنا باب بيت جدتي ودخولنا اليه حتى احتضنتنا الجدة والسعادة تغمرها و كانت مصدر سعادة لي وانا اشتم منها وهي تعانقني عبق الأرض والمكان اختلطت بطين الأرض وريحة جدتي المعطرة بالفل الذي يتواجد في كل منزل بالقرية نظرا لزراعته في البساتين المحيطة بالقرية على أطراف الحسيني !
الصورة الذهنية للقرية التي ترسخت في مخيلتي منذ ذلك الوقت والتي تشبه كثيرا قرى الصعيد المصري التي شاهدناها في المسلسلات المصرية ، وحتى بيت جدتي وخالي صالح الكبير كان شبيه بدوار العمدة عند المصريين ! حيث كان يتكون من عدة غرف ودوار مفتوح وسط البيت و سلالم تؤدي بك إلى سطح المنزل وتلتحف السماء وانت تشاهد النجوم بالليل أثناء النوم بالنسبة لمن يرغب في النوم بالأعلى كما هو الحال في الدوار الارضي أيضا!
هذه الصورة تخلى عنها الجيل الجديد و تخلى عن البناء من طوب الطين بعد أن دخلت علينا مصانع هائل سعيد وشركاته في الترويج للاسمنت و السراميكا وغيرها من المواد الحضرية التي تستخدم في المدن مما ساعد على تصحر التربة الزراعية وانتشار المباني من الحجر والطوب الصناعي الذي لا يفيد الطقس في المناطق الحارة وخصوصا الريف ورغم دخول مياه الشرب و الكهرباء في مطلع الثمانينات إلا أن الناس استمرت في بناء الطوب من رحم الأرض( الطين ) ولكن مع منتصف التسعينات و بداية الألفية فقدت القرية هويتها وهواها النقي وتحول الشتاء والصيف يحتاج إلى المكيفات بعكس طوب الطين الذي يخفظ درجةالحرارة صيفا وهذا مالمسناه فعلا قبل أن ينتهي كل شي ! ناهيك عن ردم هيكترات من الأراضي الزراعية في الطريق العام المؤدي إلى الحوطة بحجة بناء مشاريع خدمية وهي اساسا خدمة للمسافرين وللمستوطنين الجدد والقادمين من الشمال اليمني إلى عدن وليس لأهل القرى ولا حتى لصالحهم العام !!!
ونرجع لمرجوعنا حيث وصلنا في العاشرة والنصف مساءآ بعد توهان دام لأكثر من أربع ساعات ونصف تقريبا واسقتنا جدتي الماء البارد من الزير في الدوار والذي كان يتم جلبه من بئر القرية في ذلك الوقت الماء النقي الصافي الذي أصبحنا اليوم لانجده في منازلنا بل نشتريه من البقالات ويباع لنا وهو من أرضنا المليئة بالمياه الجوفية والتي استحوذت عليها مؤسسات تجارية يمنية بعد اجتياح الجنوب واحتلاله ١٩٩٤م!
بعد أن ارتشفنا المياه تناولنا وجبة العشاء من السكوع اللحجي و الصانونة وسمك المرجوج الذي يتم الاحتفاظ به بطريقة شعبية في زمن لاتوجد فيه البرادات قبل دخول الكهرباء آنذاك!
قضينا اليوم التالي الجمعة في اللعب مع أبناء خالتي عبدالخالق بابحار واخوته وابناء خالي صالح ايضا الذي كان لديه حينها البنت الكبيرة في الصف الأول الابتدائي والابن نبيل صالح الذي كان عمره أربع سنوات ، طبعا نبيل صالح رحمة الله عليه أصبح فيما بعد لاعب كرة قدم مدافع في نادي الشرارة و توفى منتصف التسعينيات في حادث مرور حيث صدمته قاطرة وهو امام أسفلت القرية يحاول العبور إلى الجهة الأخرى!
أكثر ما شدني في بيت خالتي الذي لا يبعد عن منزل جدتنا وجود البقرة التي كان يزخر بيتها من خيرات اللبن والحقين و الزبدة والسمن و غيرها من المشتقات في طعام القرية المألوف والذي زودتنا به في اليوم التالي اثناء رحيلنا و له نكهة لا تجده في المدينة ومنذ تلك الرحلة أصبحت قرية الكدام هدفي الأول لزيارة الاهل هناك وخصوصا الزيارة الثانية كانت لحضور زواج خالي الاصغر فضل واستمرت بعد ذلك حتى يومنا هذا !!
كبر الأولاد وأصبحوا رجالا و تغيرت القرية وفقدنا نوعية الطعام المميز بعد أن تم افقار الناس وبيع الأراضي الخاصة بهم والمواشي وأصبح ابن القرية عاطل عن العمل مثل ابن المدينة او يعتمد على الوظيفة ان وجدت إلا من رحم ربي ! لم تؤثر بي حالة مما حصل في بلادنا كما حصل لقرية الكدام وهي نموذج لبقية القرى ! لم تعد تشتم لرائحة الأرض من خلال البيت الريفي ولم تجد فيها روح السلف والأجداد في التعاضد وصناعة الزاد و فقدت اهم ميزة وهي الفلاحة وأصبحنا نستورد خضارنا من الشمال اليمني بعد أن قل الإنتاج المحلي لأسباب كثيرة وأهمها المخطط الذي مارسه نظام صنعاء طيلة ثلاثه عقود لتجريدنا من مصادر أرضنا والاستيلاء على مزارعنا و أكبر بساتين بلادنا وهو بستان الحسيني الذي كنا ناكل من خيراته مختلف الفواكه مجانا تباع لنا في الأسواق حاليا من رجال اغراب لا ينتمون للارض ولا لتاريخنا وليسوا منا ! هذه البستان الذي ترقد على مشارفه قرية جدتي فاطمة المفقودة في زمن العصرنه وضياع الهوية و تعطيل الفلاحة !
د عبدالسلام عامر
أغسطس ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٦ )
(لا عاد نفعني كلام عم امعود ولا خرا الغراب)
كان يوم كريه في حياتي بصيف عدن ١٩٨٥م عندما كنت في طريقي إلى المسرح الوطني بجوار حديقة الملكة فيكتوريا بمدينة التواهي حيث تبرز الطائر اللعين المدعو ( الغراب ) على راسي و خلفية قميصي ! كنت عائدا من مهمة عمل شبابي حينها كنت سكرتير أول أشيد في وزارة الثقافة ، كانت الساعه حوالي العاشرة صباحا ولم أجد حل مناسب في تلك اللحظة لغسل شعر رأسي( الافرو) إلا بالجري بسرعة إلى المسرح عبر البوابة الخلفية، مدخل الممثلين وليس بوابة مبنى الوزارة الرئيسي ، وصعدت على الفور إلى حمامات كواليس المسرح كي اغتسل من براز الغراب اللعين الذي صب كمية غير عادية ويبدو كان عنده اسهال !!! بعدها غسلت قميصي بالماء ووصلة صابون لغسل الايد استخدمتها للحاجه! ثم بقيت بالفانلة الداخلية حتى ينشف القميص وحجزت نفسي في غرفة المكياج بالكواليس ، وتركت القميص على إحدى المقاعد تحت المروحة لكي يجف . . في هذه الأثناء دخل الكواليس حارس الوزارة عم ( امعود ) رحمة الله عليه وسألني ماذا حصل معي ؟ خصوصا اني صعدت مسرعا من امامه وكنت اخجل ان يراني أحد والمصيبة فوق راسي وعلى ظهري ، وطبعا كما يقول المثل الشجن قتل العجوز فكان لابد أن يعرف ماذا حصل معي ، والمعروف عن عمنا ( امعود ) له سوابق عجيبه وغريبه عملها وله حكايات متعدده مع الكثير من الزملاء أعضاء فرقة المسرح الوطني ومن أشهر ( طبازته ) والشجن الذي فيه انه ذات ليلة من اجمل ليالي المسرح الوطني أثناء عرض أروع الأعمال الفنية التي قدمت على خشبة المسرح ( مسرحية بونتيللا وتابعه ماتي ) للمؤلف الألماني برتولد بريخت الذي لعب بطولتها عميد المسرح الفنان علي يافعي وفي هذه الليلة الرائعة والجمهور غفير للاستمتاع بأعظم المسرحيات العالمية كان يجب على الفنان علي يافعي في إحدى المشاهد ان يستحم في حوض ويدخل فيه ثم يخلع كافة ملابسه ، طبعا كما تعلمون هناك خدع فنية يتم العمل بها بالمسرح للايحاء وفعلا عمل ذلك علي يافعي بحرفية ورمى ملابسه إلى خارج الحوض ويبقى فقط رأسه ظاهرا للمشاهد ويستكمل حديثة مع إحدى الزميلات التي تشاركه المشهد ، هنا الشجن سيطر على عمنا امعود وصعد من بين الجماهير إلى خشبة المسرح ليتأكد أن علي يافعي فعلا عاري من الملابس
المهم بعد أن جف القميص ارتديته وذهبت فورا إلى مكتبي الخاص باتحاد الشباب الذي كنت فيه وهو صالة مراقبة الأفلام السينمائية التي منحتنا استخدامه الست عائدة علي سعيد نائبة الوزير رحمة الله عليها ومفتاحه فقط لدي ولدى العم احمد علي النصري المسؤول عن تدوير الفانوس السحري أثناء مشاهدة الأفلام الجديدة التي محتاجة لرقابة الوزارة قبل أن تعرض للجماهير وهناك وجدت العم احمد النصري وللمعلومة فهو شاعر غنائي كبير ومن أهم أغانيه دق القاع الذي لحنها الموسيقار احمد بن احمد قاسم وغنتها الفنانة الكبيرة فتحية الصغيرة . أخبرته بما حصل معي وحكيت له ماقاله العم امعود وضحك إلا أنه اثنى على كلام امعود ! لم يمر سوى شهر حتى دخل علينا شهر رمضان الكريم وفي هذا الشهر الفضيل كانت المفاجأة !! طبعا كنا انا وزميلي الموسيقي نضال احمد عبدالرحمن و الزميل المسرحي علي سالم الذي كان في السنة الأخيرة من الدراسة بالمعهد فهو كان الدفعة التي بعدي برفقة زميلنا المرحوم محمد ناجي بن بريك كنا بين حين وآخر نسكن عند زميلنا الموسيقي عدنان سالم في منزل بجوار منزل اهله في حي الزيتون كان اهل المنزل مسافرين وتركوه للزميل عدنان يسكن فيه مؤقتا ، يعني كنا عزبة شباب وبصراحة كان نضال وعلي سالم أكثرنا التزاما بالصلاة والصيام انما نحن كنا نصوم ونتكاسل بمواعيد الصلاة وكانت تلك الأيام من اجمل الأيام التي قضيتها بشهر رمضان ، كانت ام عدنان رحمة الله عليها تزودنا بطعام الفطور ونضال يحضر من منزلهم بالقلوعه بعض المؤن ولكن الأجمل وقت السحور كنا نذهب إلى الرصافي نتسحر حيث مقهى يبيع فتة اللبن ! من اجمل ذكرياتي تلك التي توجت في شهر رمضان المبارك حيث كانت المفاجأة التي حصلت لي عندما وصلت لجنة سوفيتية لمقابلة المبعوثين المرشحين من قبل وزارة الثقافة للمقابلة بعد إلاطلاع على ملفات التخصص وتوابعها ففي نهار منتصف شهر رمضان حيث تم استدعائنا لمقابلة اللجنة الروسية بالاضافة الى مدير العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة المرحوم عتيق سكاريب ومدير إدارة المسارح بوزارة الثقافة المرحوم احمد سعيد الريدي رحمة الله عليهما و المترجم الأستاذ قائد فرقة المسرح الوطني د عمر عبدالله صالح بصفة مترجم وعندما حان وقت دخولي كنت على يقين أن تتعثر المنحة خصوصا ان هذا العام تحديدا مطلوب شخص واحد لدراسة المسرح وكان عدد المتقدمين زملاء كثر وهم الأقرب لهذه المنحة في هذا العام وبعد أن تم الانترفيو معهم وجدت نقاش جاد بصوت واطي يدور بين اللجنة والكلام خليط بالروسي والترجمة بالعربي كان بشكل همس ثم طلب مني مغادرة المكتب ! ومرت حوالي نصف ساعة بينما كانت بالنسبة لي نصف سنة !! وانا في الكردور بانتظار خروج اللجنة وعندما فتح الباب وظهر الأول عتيق سكاريب الذي غمز لي وهو مبتسم ثم يليه د عمر عبدالله صالح بابتسامته المعهودة والفرحة ظاهرة في عينية خصوصا انه كان أستاذي بالمعهد بينما الرجل الروسي نظر إلي بابتسامة مع انه كان هناك آخرون حينها سمعت صوت وهو في نهاية الممر عتيق سكاريب يقول لي اذهب الى قسم الكادر ، عندها أدركت أن المنحة أصبحت لي وذهبت مسرعا خلف د عمر عبدالله صالح لكي اتاكد والذي قال لي مبروك الروس اقتنعوا بك لسبب بسيط ان لديك مؤهل داخلي وسنك المناسب ٢١ سنه ! في هذه اللحظة شعرت بفرحة لا استطيع ان أصفها !! جاء على بالي بالمقام الأول وآلدي ثم امي ثم الست عائدة علي سعيد !! لا أدري سبب ذلك انما تذكرت أن الإنسان الأول الذي شعرت انه سيفرح لي بالوزارة هي عائدة علي سعيد والتي اعتبرها امي الثانية بالفعل ، وركضت لمكتبها واخبرتها وفرحت لي وحينها اعطتني نصائحها التي سبق وان حكيتها في حكايات سابقة !
عدت إلى البيت بالمنصورة بعد أن استكملت إجراءات الاستقالة في مكتب مهيوب قصيص مدير الكادر الإداري والمالي رحمة الله عليه وذلك وفق القانون الجديد الذي أصدره مجلس الوزراء ان من يبتعث للدراسة يجب أن يقدم استقالته وكان هذا العام أول عام يطبق فيه القانون وتم تجهيز شيك براتب سبعة أشهر الذي يعتبر راتبي لمدة سبعة أشهر وفقا للميزانية والتي تاتي للموظفين الجدد بعد ستة اشهر واستلمتها كاش بالاضافة الى شهر سبعه يوليو وشهر آخر إضافة كحقوق بعد الاستقالة ! يعني وصول راتبي بعد ستة اشهر من التوظيف مع راتب شهر يوليو وشهر حقوق وكمان منحة دراسية كل ذلك في يوم واحد سبحان الله!!
وصلت للبيت وانا لا أرى الطريق بل كنت في حالة لا توصف من السعادة وكانت الساعة الثانية ظهرا واخبرت امي التي انفجرت بالبكاء!! ، كنت اعتقد من فرحتها ، انما شعورها كان عكس ذلك ، حيث انها لاتريد فراقي وبعد ان هديتها وفهمتها دعت لي رحمة الله عليها !!
و قررت في عصر ذلك اليوم ان اذهب الى الوالد بالفطار إلى خور مكسر بنفسي بدلا عن احد اخواني ، حيث كانت لديه نوبة من الظهيرة إلى الليل في حراسة مؤسسة الدواجن التي تقع في معسكر خالد سابقا ولم أشعر بالجوع او العطش او الإرهاق بل السعادة والفرحة كانت تهون عليا !! كم اتمناها لشبابنا اليوم ان يتحصلو على ماتحصلنا عليه ولو نصفه وان تعود بلادنا إلى دولة العدل والنظام والقانون والمساواة والرفاهية! اتمناها من كل قلبي لهم بذلك ، شريطة أن تكون مؤمن بنفسك وتؤمن بالمعرفة والموهبة التي لديك والإصرار على ذلك !
المهم وصلت إلى الوالد وسلمته الفطور واخبرته بالخبر السعيد عندها صمت الوالد برهة من الزمن ثم قال لي حرفيا ؛ ( لقد غلبتني ياابني لقد انتصرت علي خصوصا اني لم أكن اريدك تدرس فنون وإنما هذه الفنون أحس انها باتوديك إلى أعالي الرتب ) قالها لي بفخر واحساس لأول مرة اراه بهذه السعادة وبعدها صلى العصر و دعا لي وقال ؛ اتوكل دائمآ على الله.. و استئذنته لكي اذهب الى زملائي وأصدقائي في العزبة بالقلوعه !
كان لقائي ثاني يوم بالوزارة أثناء استلام الشيك وتسليم بقية المتطلبات للعلاقات الخارجية لتجهيز جواز السفر ! آه نعم لا تستغرب عزيزي القارئ كانت الوزارة تجهز لنا جوازات السفر وتحضرهم لنا مع تذاكر السفر إلى المطار وتم تحديد السفر لنا بتاريخ ٢٥ أغسطس الذي صادف يوم وقفة عرفات ، المهم أثناء تواجدي باليوم التالي التقيت بالعم امعود وأخبرته اني مسافر للدارسة بالاتحاد السوفيتي حينها صرخ مهللا ؛ ( مش قلت لك رع خرا الغرابي يجيب الرزق ) رديت عليه مستهجنا ايش من رزق والقانون اجاء على راسي طلبو منا تقديم استقالة من العمل !! رد فورا ؛ ياهبيلة لما باترجع بتستلم راتب مضاعف الذي كنت تستلمه لأنك باتطلع كادر ودرجة وظيفية أكبر يامغفل وكمان الحكومة باتعطيك بيت يانطيله والأولوية في الإسكان للكوادر ! والحقيقة فعلا هي كذلك انما الذي ماكان في الحسبان اننا سنعود الى البلاد ١٩٩١م على كارثة الوحدة اليمنية التي فقدنا بعدها جميع تلك الامتيازات ولا عاد نفعنا كلام عمنا امعود ولا خرا الغراب!!!
د عبدالسلام عامر
سبتمبر ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات ( ٤٧)
إلى روح صديقي الفنان عقلان مرشد في ذكراه:
(كنا حريصين على سمعة المسرح العدني أكثر من أنفسنا ! ليس كما حصل للاسف فيما بعد بمشاركة بعض أعمال هابطة وفاشلة مثلت عدن في مهرجانات بعد ١٩٩٤م بأسماء لاتعي معان المسرح ودهاليزه)
عندما فاجأني صديقي الفنان المسرحي ياسر سلام بدعوته لي ان اشارك معه بالعمل المسرحي الذي يسافر به للمشاركة في المهرجان الثالث للمسرح العربي في العاصمة العراقية بغداد كنت غير مستوعب ما يحصل؟! كيف لي أن اؤدي دور بمسرحية خلال أسبوع واحد وطلب مني فورا الحضور إلى فرقة أكتوبر بالشيخ عثمان وإحضار جواز السفر وقال لي سنسافر خلال أيام!!!!
كنت حينها في صلاح الدين مع ام أميرة بعد ولادتها باربعين يوما عند اختي الكبيرة للراحة والاستجمام وكانت الدعوة لي مفاجأة خصوصا ان العمل المسرحي سيشارك في مهرجان عربي ضخم ويحتاج مني بذل مزيد من الجهد لكي التحق بالمجموعة التي قطعت شوطا كبيرا في البروفات بينما انا استدعيت بدلا عن ممثل آخر أراد مخرج العمل ياسر سلام تغييره فكان مقترح الزميل الفنان الراحل عقلان مرشد رحمة الله عليه والزميلة الفنانة إنصاف علوي بطرح اسمي لحل المعضلة لأسباب عديده أهمها المهنية والاحترافية التي يمكن أن تساعده في هذا المأزق وخصوصا سرعة حفظ الحوار المكتوب شعريا باللغة العربية الفصحى وهو ملعبنا في تلك الأيام الخوالي ...
طوال طريقي اليه من صلاح الدين حتى وصلت إلى الشيخ عثمان وانا في توتر واسئلة كثيرة تدور في رأسي لم أجد لها إجابات إلا عندما استمعت إليه وسلمني النص وحدد لي الشخصية المراد تقديمها وهي عبارة عن مجموعة ابطال يتحركون على الخشبة أي انه نوع من أنواع المسرح الشعري لكاتب سوري اعتقد كان الكاتب الكبير ممدوح عدوان على ما اتذكر و المسرحية بعنوان ( لا ) !!
المهم كان الطاقم مكون من الفنان الراحل عقلان مرشد والفنانة إنصاف علوي الذان كانا من اهم مقومات المسرحية بخبراتهم في مساعدت الزميل ياسر في خوض تجربته الاولى آنذاك والمخرج نفسه ياسر سلام و العبد لله والفنانة الشابة إحدى طلابنا بمعهد الفنون فوزية سالمين و الموهبتين الجعدني وارسلان سلام ، عملت معهم البروفات الاوليه لي بينما النص في يدي بعد أن حددت لي مساحة الحركة والميزانسين المرسوم للخطة الإخراجية و انتهينا من البروفات على اساس نلتقي باليوم التالي على امل احفظ النص في ليلة واحدة وبصراحة كنت اتقن ذلك وخصوصا بعد أن قمت بتقطيع الجمل وفقا للرؤية الإخراجية وكيفية الأداء و وعدته اني سأعمل المستحيل في تجاوز مرحلة حفظ النص حتى نتفرغ بعد ذلك للمعايشة في الدور و الحدث الدرامي و الاحساس والصدق وغيرها من أبجديات بناء العرض المسرحي !
عدت في اليوم التالي حسب الاتفاق الرابعة عصرا وما كدت اصل إلى امام فرقة أكتوبر قادما من محطة الهاشمي بعد أن اوصلتني سيارة التاكسي البيجوت قادما من صلاح الدين واذا بأصوات من نوافذ الفرقة تصرخ و زعيق من بعض المتواجدين بالفرقة ولم استوعب ماذا يقولون مع أصوات أبواق السيارات بالشارع العام امام مسجد النور ، ومن لا يعرف اين موقع فرقة أكتوبر هي البناية التي تقع فوق المطعم المجاور لصيدلية الشبوطي والتي كانت سابقا نادي الواي الرياضي و فرقة الشرق الموسيقية فيما بعد ثم أصبحت فرقة أكتوبر المسرحية ! المهم صعدت لاستفهم ماذا حصل؟! وهنا تفاجأت وكالعادة من ياسر سلام يطلب مني بسرعه الذهاب للبيت وإحضار حقيبة السفر و لأننا مسافرين الساعة الثامنة مساء على طيران اليمدا إلى صنعاء!! طبعا كان ذلك في نهاية يناير ١٩٩٢م وحسب كلام الاخ المخرج ياسر صاحب العمل ان الموافقة تمت لدعمنا بالسفر من قبل الاخ نائب رئيس الجمهورية السيد علي سالم البيض ومطلوب حضورنا اليوم التالي في صنعاء لاستلام بدل السفر وقيمة التذاكر ومصروفات السفر من الاردن الى العراق من رئاسة الجمهورية ! هنا أدركت اننا قادمون إلى كارثة خصوصا ضغط الوقت وحكايتي المطينة بطينه! أولا مازال عندي الجواز القديم الجنوبي الذي مكتوب فيه الدول التي مسموح السفر إليها وهي الدول الاشتراكية وسوريا واثيوبيا فقط وأخبرته بذلك ، رد عليا بسيطه سوف نصل صنعاء ونعمل ذلك هناك ، حينها قلت تمام على بركة الله و تحركت فورا إلى صلاح الدين واخبرت العائلة وودعتهم كان الوقت السادسه ثم انطلقت عائدا إلى منزلنا بالمنصورة لاجمع حقيبة السفر ببعض الملابس و تحركت فورا إلى المطار ووصلت السابعه والنصف والتحقت بفريق العمل هناك وركبنا الطائرة من المطار القديم الخاص بالرحلات الداخلية ووصلنا صنعاء التاسعة مساء ونزلنا فندق الكويت وفي اليوم التالي تحرك ياسر سلام إلى رئاسة الجمهورية هو والمندوب الذي كان يعامل له تفاصيل السفر وعاد ومعه المبلغ المالي وبدأت رحلة البحث عن صرف الدولارات وحينها ساعدنا في ذلك رحمة الله علية الفنان محمد المتوكل ، كل ذلك كان شي جميل إلا أن موعد سفرنا الذي أكده المندوب والذي حجز السفر إلى الأردن لم تكن في الحسبان بالنسبة لجميع طاقم الفرقة عندما قال لنا غدا صباحا موعد السفر !! هنا جن جنوني وخصوصا جوازي أولا لم يتم إضافة جميع دول العالم وثانيا عمليا لم نعمل أي بروفات عمليه وكعادته ياسر سلام قال بسيطه سوف نعمل الاضافة في سفارتنا بالاردن
المحبط ان السفر في اليوم التالي كان يوم جمعه والا كنا عملنا الاضافة في الخارجية قبل الذهاب إلى المطار ولكن وقعنا وقلت له اوكي سافرو انتم وانا سوف أعدل ليوم آخر ولكن المخرج مصمم وهو رئيس الوفد ولا جدال معه
تحركنا ولو لم يكن الزميل الفنان نبيل حزام كان يودعنا ما كنت عرفت اساسا الخروج من مطار صنعاء وبالمحسوبيه تم ختم جوازي للخروج وغادرنا ووصلنا الأردن وفي تلك الأيام كان التحالف العربي بين العراق واليمن والأردن ! قالها أحدهم؛ لولا العلاقة الطيبة بين البلدين كنا سوف نعيدك على نفس الطائرة ؛ هكذا قال لي الضابط المحترم في الجوازات الأردنية ولو لا انك من اليمن لاوقفناك!! بعدها اعتذرت للضابط وشرحت له كافة التفاصيل والأسباب والخطأ الذي ارتكب من قبل وفدنا وبالفعل تم استدعاء ياسر سلام وطلبوا منه الإسراع إلى السفارة لوضع الاضافة ثم العودة إلى المطار لكي يتم خروجي وبقيت في ضيافة رجال الجوازات الأردنية بكل احترام وقدموا لي القهوة والكعك والابتسامة ! بصراحة انا كنت سعيد للمرمطه التي حصلت لياسر هو وفريق العمل عندما ذهبوا السفاره وهي مغلقة يوم جمعة وبحثوا عن القنصل حتى وصلوا لمنزله والعثور عليه بعد أن أخذو أولا تعليمات من السفير بالإسراع في إضافة جميع دول العالم
عاد ياسر مع فريق العمل إلى المطار بعد أربع ساعات ويتم تأشيرة دخولي إلى الأردن بعد نضال شاق المتسبب الوحيد فيه اللا مبالاه من اخونا ياسر مع اننا طلبنا تأجيل السفر يومين والعناد ركبه وها هو يجني ثمن عناده والفوضويه بما حصل
المهم كانت سيارة الجيمس التي نقلتنا من مطار عمان رجل فلسطيني يعمل بها من نازحين ١٩٦٧م وكان رجل ودود وبدأت رحلتنا عبر البر إلى بغداد وتناولنا وجبة الغدا في عمان السادسة مساء قبل الانطلاق !
اتذكر تلك الليلة كان شتاء قارص وبروده تحت الصفر في براري الأردن والعراق ونحن لا نمتلك غير جاكيتات خفيفة التي نستخدمها في صنعاء وهنا حصلت الفاجعة بعد خروجنا من الحدود الاردنية عندما سلك ( الكليش) قطع فجاءة ونحن في الصحراء وتوقفت السيارة وبدأنا نشعر بالصقيع ونزل الرجل يعمل تحت السيارة ويحاول إصلاحها خصوصا كما فهمنا منه ان ميكانيكي وتحصل معه دائمآ هذه المفاجآت حينها لكي نحاول أن نسخن أنفسنا قررنا نغني ونطرب و اتذكر اني كنت اغني بصوت عالي جدا يا بلادي الثائرين واندمجت وتفجرت مواهب الغناء
وبدأنا نخرج من السيارة لكي نعطي للرجل الممتد تحت السيارة في شتاء صحراء العراق ! دعما معنويا وبدأنا نركض من حول السيارة وخلال ساعة تم إصلاحها و انطلقنا وحينها قال لنا السائق الفلسطيني الحمد لله اننا تجاوزنا مرحلة صعبة كان ممكن ان تحصل لنا وهي غياب قطاع الطرق في نفس المكان الذي توقفت سيارتنا مابين الحدود الأردنية العراقية
عندها صمتنا جميعا والهلع محاصرنا حتى وصلنا المنفذ الرئيسي للعراق وتنفسنا الصعداء وبعدها دخلنا في نوم عميق لم نصحى منه إلا ونحن في شوارع بغداد العظيمة بغداد العروبة والأصالة والتي اعتبرها من اهم المدن التي سافرت إليها في العالم !
وصلنا فندق المنصور ووجدنا الزملاء بالفرقة الوطنية المشاركة الرسمية في مسابقة المهرجان بعكس عملنا الذي نشارك به على هامش المهرجان وحينها أطلقوا علينا الزملاء بالوفد العشوائي وبصراحة انا وعقلان مرشد وانصاف علوي وافقناهم على فكرة العشوائي لان كل ما حصل معنا عشوائية في كل شي
بعدها ذهبنا مع المخرج ياسر سلام إلى ورشة الديكور في المؤسسة العامة للسينما والمسرح لكي يعطي لهم خطة الديكور المطلوب والذي انا شخصيا فوجئت بعظمة الديكور المطلوب والذي أبهر العراقيين ! حينها التفت إلى عقلان و إنصاف بنظرة حيرة و قلق ! والكارثة تم تحديد لنا مسرح العرض وكانت المفاجأة مسرح المنصور !!! ما هذا إلى أين نحن ذاهبون يا اخواني كان ذلك حديثي مع الفريق كيف نستطيع أن نقدم مسرحية من سبعة أفراد على خشبة مسرح بعظمة المساحة في مسرح المنصور الذي تقدم عليه أضخم المسرحيات من كثافة بشرية لا تقل عن ثلاثين ممثل وكمبارس و راقصين وراقصات انها خشبة مسرح ضخم أشبه إلى مسارح موسكو التي تقدم علية الاوبرا والباليه!
حينها اتخذنا قرار بعد الجلوس مع اخونا الفنان سالم الجحوشي عضو فرقة المسرح الوطني المشارك بمسرحية الحكمة يمانية مع الأستاذ علي يافعي عميد المسرح وشرحنا لهم الوضع من وراء ياسر سلام على ان نحاول نقنعه انا والجحوشي وانصاف علوي بعد أن أخذ موقف من عقلان في تعطيل عرض العمل وبعد أن فهمناه وجهة نظرنا الأكاديمية التي يستحيل تقديم عرض مسرحي صغير على هكذا خشبة والمؤسف لو لم تكن فكرة الديكور الضخمه كان ممكن نعرض في مسرح صغير لذلك عملنا اتفاق سري مع فوزيه في اليوم التالي الجنرال البروفة ليلة عرض مسرحيتنا ان تفتعل مرضها الخاص بالكلى وبصراحة اختنا فوزية لعبت دور جميل جدا في الحياة دون أن يعرف ياسر نفسه ولابقية المجموعة حتى تكتمل الحبكة وفعلا نجحت الخطة وتم إسعاف فوزيه وتناولت حقنة المهدية الخاصة بالكلى وتم الاعتذار عن تقديم العمل للحالة المرضية التي تعرضت إليها الممثلة ! وخرجنا من هذه الورطة سالمين ! وشكرا يا بنت سالمين
أولا كنا على إدراك ان العمل لم ينضج فنيا ، ثانيا حجم المسرح وخصوصا مسرح المنصور ثالثا والاهم سمعة المسرح في بلادنا وخصوصا المسرح الجنوبي الذي حقق نجاحات باهرة في أعوام سابقة في بغداد وتحديدا مسرحية طاهش الحوبان الذي أخرجها الفنان والمخرج المسرحي والسينمائي منصور اغبري وتأليف الكاتب احمد عبدالله سعد و بطولة عميد المسرح علي يافعي !
خير مافعلناه وتفهم ذلك تماما اخي الفنان الطيب جدا والصادق ياسر سلام والذي تفهم في الاخير بما قررناه خوفا من فشل العمل الذي بصراحة لم يكن يرتقي الى مستوى الحدث وشاركنا بعد ذلك في فعاليات المهرجان في مختلف الندوات وحضور العروض المسرحية بفعالية وحققت مسرحية الحكمة يمانية التي كانت من تأليف علي يافعي وبطولة هاشم السيد وسالم الجحوشي و محاسن سعيد نجاح باهر أثناء عرضها واشادة من النقاد في اليوم التالي حيث قدم العرض بمسرح الغرفة في بيت تاريخي عتيق في قلب بغداد ! واستمتعنا بالسهرات الفنية داخل الفندق والتقينا بالمطرب كاظم الساهر الذي كان وقتها متعاقد بحفلات في فندق المنصور!
وهكذا كانت رحلة الوفد العشوائي الذي انتصرنا له في الاخير وكنا حريصين على عدم تعريض سمعة المسرح العدني أكثر من أنفسنا ! ليس كما حصل فيما بعد حيث تم مشاركة بعض أعمال فاشلة وهابطة مثلت عدن في مهرجانات مختلفة لبعض الأفراد لاتعي معاني المسرح ودهاليزه الذين اساءو لعدن قبل أن أنفسهم مابعد ١٩٩٤م للاسف الشديد !!!
د عبدالسلام عامر
٢٧ سبتمبر ذكرى رحيل الفنان المسرحي
عقلان مرشد
سبتمبر ٢٠٢٥م
***
حكاياتي من الذكريات (٤٨)
( بسبب عائلة انطولي زايتسوف Анатолий зайцев : خرجت من الحفلة فائزا بباقات من الزهور والورود والفرحة والسعادة تغمرني في تلك الليلة المخملية )
كنت مارا من امام تمثال كالينين أحد الرجال المؤسسين للاتحاد السوفيتي العظيم في الشارع الأشهر بمدينة مينسك شارع لينين او اوتستراد لينين واذا فجاءة اقابله وجها لوجه بعد عشر سنوات ، كان ذلك في عام ٢٠٠٠م كان الرجل أحد كبار جنرالات الجيش السوفيتي حيث كان من قيادة أركان الجيش في جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفيتية الذي يدعى انطولي زايتسوف Анатолий зайцев ولم اصدق عندما شاهدني صرخ فرحا بي ويناديني باسمي ويأخذني بالأحضان! كان هذا الرجل هو والد زميلتي بالدراسة في أكاديمية الفنون البيلاروسية اوكسانا زايتسفا Оксана Зайцева ، وبفضل تلك الفتاة تعرفت على أسرتها الطيبة والتي كانت بمثابة أسرة سوفيتية نموذجية في علاقتي بهم من الجانب الإنساني المحض ، حيث ذات يوم طلبوا من اكسانا ان توجه لي دعوة من أبيها وأمها للعشاء في منزلهم ، حيث كانت اكسانا نموذج فريد للفتاة الانسانة قبل أن تكون زميلة في الدراسة ومن خلالها عرفت الأسرة عني كوني الطالب الوحيد المغترب الأجنبي في الدفعة الدراسية ! سعدت جدا بهذه الدعوة وكنت قلق خصوصا ان والدها كما أخبرتني جنرال في الجيش وكانت الصورة الذهنية لدي ان قادة الجيش يتميزون بالصرامه ! عندها سألتها عن الكلب و كما أعلم انهم يمتلكون كلب كبير اسود وضخم وطلبت منها ان يحجرو عليه أثناء قدومي لاني لااطيق تلك الكلاب الضخمة والشرسه ! حينها ضحكت وقالت لا تخف سنعمل على ذلك مع ان الكلب متربي وابن ناس
المهم لم تكن تلك الزيارة مجرد دعوة من اهل اكسانا بل كانت مهمة إنسانية من هذه الأسرة النبيلة التي تتكون من اربعة افراد فقط لديهم فتاتين الكبرى اكسانا والصغرى كاتيا ، كما تشكل هذه الأسرة نموذج لتعاليم مهمة الفرد والمجتمع السوفيتي في الإنسانية بل كانت أيضا رسالة سامية تجاهي حيث دعموني طيلة السنوات التي عشتها اثناء الدراسة في مدينة مينسك !
كانت أسرة من الأسر العريقة بالمدينة ومن فئة المثقفين فعلا وكان انطولي رجل مثقف و انسان حقيقي ويمتلك ذخيرة من المعلومات في الادب والثقافة والفنون أبعد ماتتصور وكان رجل شهم و جميل وانيق!!
استمرت علاقتي بكل احترام وتقدير لهذه الأسرة و شكلت تلك العلاقة المتينة مع زميلتي اكسانا في الدراسة العملية حيث كانت الثنائي معي في مادة الحركة المسرحية والمبارزة و مادة الغناء خصوصا انها خريجة مدرسة الموسيقى وتجيد العزف على البيانو وقدمت واياها وصلات غنائية قدمناها في امتحان التخرج إلى جانب المبارزة ! كانت اكسانا انسانة رقيقة وصادقة ومحبة للناس ووفيه وكريمه ، ومن تلك الذكريات في إحدى السنوات بالصيف لم يكن معي المبلغ لشراء تذكرة السفر إلى عدن بالإجازة والذي كان في ذاك الزمن السوفيتي العظيم يقدر بثمانمئة روبل أي حوالي ٢٠٠ دولار ذهابا وايابا !!! فاقرضتني المبلغ دون تردد وكان طبعا وراء ذلك الاب انطولي !! وكان رد الجميل لهم بهدية مني باكياس من (العطريه) الشعيريه وقارورة (عشار) مقبلات من الليمون والفلفل الاحمر الذي وعدت اكسانا ان احضر شي من المطعم العدني وخصوصا انها قد تذوقته عند زياراتها لي بالسكن الجامعي
ونعود إلى مرجوعنا كان لقائي به عند التمثال امام منزلهم وتسائل حينها كيف لك ان تمر من امام عمارتنا دون أن تطرق علينا الباب لزيارتنا ! وقد احرجني إلا أني اعتذرت على الفور واني كنت على عجلة من أمري لكي ااخذ ابنتي أميرة من مدرسة الموسيقى الابتدائية المسائية والتي كانت نفس المدرسة التي درست فيها اكسانا ، حينها تقبل الرجل عذري وبعدها دار بيننا حديث الذكريات وأخبرته اني حاليا عدت للدراسات العليا وأحضر رسالة الدكتوراه ، كما أخبرني هو ايضا انه قد تقاعد من الجيش وكان آثار الزمن على الرجل مع انه مازال يحتفظ بقوامه ووسامته! كما أخبرته اني قد تواصلت مع اكسانا وزرتها إلى بيتها والتقيت بالصديق ساشا زوجها والتقيت باطفالها .
كانت هذه الأسرة النبيلة هي أسرتي الثانية في مينسك وكان يوم تخرجنا في حفل التخرج هي المفاجأة الكبرى لي عندما تم استدعائنا للصعود الى خشبة المسرح وكنا ١٦ طالب وطالبة كان المسرح مكتض بالجمهور وعائلات الطلبة الخريجين والمحبين وفي هذه الأثناء يتم صعود عائلة كل طالب وطالبة لتسليمهم باقات من الزهور و الورود وكانت عائلة أوكسانا Оксана قد أعدت لي شخصيا باقة من الورد وزهور حينها لم أتمالك نفسي وذرفت دموعي حيث لم يتركوني اشعر بإحساس عدم وجود اهلي !! ما اعظم الشعب البيلاروسي و ما أعظم الاتحاد السوفيتي!! حينها لم تتركني أيضا أسرة زميلتي الأخرى الثنائي معي بالتمثيل لينا كوفشيك حيث قدمت لي بوكيت ورد وخرجت من هذه الحفلة فائزا بباقتان من الورود والزهور⚘⚘⚘ و انطلقنا بعدها إلى المطعم للاحتفال مع اساتذتنا والفرحة والسعادة تغمرني بما حصل لي في تلك الليلة المخملية التي لم ولن تتكرر مهما طال الزمن لانه أحيانا لحظة فارقة بحياة الإنسان قد تكون مصدر سعادة أبدية له وهذا ما اعتقده! شكرا لعائلة زايتسوف وشكرا لزميلتي الجميلة أوكسانا زايتسوفا وشكرا لجميع زملائي بالدفعة الدراسية وعلى رأسهم لينا كوفشيك وشكرا لهم جميعا الذين كانوا فعلا خير أسرة لي في غياب اهلي ! انهم مجتمع الفنون مجتمع الثقافة والانسانية .. مجتمع السوفييت !
د عبدالسلام عامر
أكتوبر ٢٠٢٥م