إبراهيم الديب - "العرقسوس"...

حاسة الشم لها تأثير كبير على شهية المرء عندما يقع تحت طائلة الجوع، في بداية تجولي وتسكعي :فى أحياء وشوارع دمياط وازقتها فى محاوله لفض ما غمض من اسرار المدينة وعوالمها الخفية بعد تجاوز فترة الصبا واحساس ببروز نفسي : فى علاقة جدلية شبه معقدة لحد ما بيني وبينها، لكوني أعتبر كل ما عرفت ومارست من تجربة في حياتي واكتسبت من خبرة وكابدت : جزءًا من نفسي يظل صداه باقيا بها يطل من داخلي دوم شعور مني.
أول رائحة داهمتني وأنا اطوي شارع أبو الوفا تحت قدمي وعمري لا يتجاوز الثانية عشر كانت: رائحة البن المطحون وهي تسلل فواحة من محلات السقعان لطحن البن ثم تنتشر الرائحة متوغلة يحملها الأثير متجاوزة المنطقة وما زال العمل مستمرا بطحن كميات كبيرة في هذه المحلات قائما على قدم وساق وبصورة اشد من الماضي ، وليس هناك علامة تفيد توقفها في القريب العاجل أو بعد حين من الدهر ، كاستمراري تناوله بشغف شبه قسراً عني وعملية توقفي شبه مستحيلة، عشقت هذه الرائحة الفواحة عندما تسللت لأنفي أول مرة قبل أن تصبح قهوة وادركت حينها أنها ليست مجرد رائحة عابرة بل علاقة تشبه القضاء والقدر وما زالت مستقرة قابعة لها ظل في نفسي بل أدمنت القهوة وهذه حكاية يطول شرحها ، فكنت أتعمد السير ببطء قبالة محلات السقعان للاستمتاع برائحة البن المطحون فترة أطول املا منه كهوف صدري.
ورائحة أخرى تفوح من وسط المدينة وتحديداً من مطعم محمود اللفات الذى يقبع محله في منطقة القنطرة بجوار سوق السمك القابع أمام الكوبري المعدني الذي يربط شرق المدينة بغربها ، عم محمود اللفات لا يكف عن وضع بهارات مزيجها :فلفل وكمون على قطعة دهن لا تغادر مقلاته ؛ المشتعل تحتها ناراً يعوم في زينها كبدة ,وفشة, وطحال, وقلب, ليتوحد كل ما سبق يتفاعل كل ويعمل بنشاط شديد بإصداره لأصوات، وشطشطة تعزف أجمل سيمفونية محببة لاذن الجائع ثم تواصل بعدها رائحة، محتويات مقلاته في مداعبة و دغدغة حاسة شم الجائعين في رسالة صامتة عبقري ومهني محترف يحملها الاثير تحول أغلب من تسلل لداخله ذبونا لعم محمود اللفات ، ويظل الدخان يمارس نشاطه في الدوران والتوغل يدور في رحلة تجواله اليومية سارحا لا قوة تصده ولا ترده في الأزقة ودروب سوق الحسبة وشارع العطارين القابع أمام المحل منذ فجر التاريخ وصبوته.. لا شك أن الرجل فناناً مبدعاً في مجال عمله الذي تحول بمرور الوقت لهواية يمارسها بنجاح : بجر الجائعين أمثالي وسبب ذلك رائحة تسللت لأنفي من مركزه جاذبة له من اتجاهات مطعمه الاربع بعد وقوعهم تحت طائلتها..
ورائحة كرهتها ونفرت منها .،قبل شعوري بتقلصات شديدة فى: القولون والمعدة ومغص يعمل في تمزيق بطني هي رائحة: العرقسوس الذى رأيت بائعه وبرطمناته النظيفة :تبرق متلألئة في منهت دعوة لاكتشافها، لأنه اللقاء الأول بيني و بينها ، وسألت البائع عن الاسم فقال: عرقسوس ، فعجبني الاسم، واعتقدت أن الطعم سينال إعجابا أكثر فناولته قرشاً ثمنا للكوب الذى ناوله لي ممتلئاً عن اخره.
وعند الرشفة الأولى شعرت مباشرةً بعدم رغبة وعزوف عن المواصلة لكراهية رائحته وكانت سبباً في تضافر كل حواسي المادية والمعنوية على رفضها له بقوة لم اعهدها في نفسي، لصد سريان هذا المشروب وعدم وصوله وتسربه لمعدتي ، ولم تستسغه حاسة الشم لدي بالتخلل لمسام جسدي ثم إحساس بأنى لم أعد أرى جيدا, وأن المجرة بكاملها ومعها مجموعتنا الشمسية ، و الأرض التي اقف عليها :تدور وارتفع الشارع للسحاب ثم تقيأت... قبل سقوطي ممددا على الأرض؛ فاقداً للوعى والرجل يصرخ خوفا على ومن المارة أفقت بعدها ... والكثير من الناس حولي..... ووجدتني غارقاً في مياه ألقيت فوق رأسي؛ لمساعدتي فى استعادة وعيي..... أما بقية الأشخاص اللذين يحيطون ببائع العرقسوس و يضربونه وهم يسألونه لماذا ضربني للحد الذي فقدت فيه وعيي ، والرجل يقسم أنه لم يفعل ، ولم يرفعوا ايديهم عنه إلا بتبرئتي لساحته لكون فقدي للوعي : سببه رشفة عرقسوس.... قبل أن يستغرق اغلب الحضور في الضحك غير مصدقين ما حدث ومعهم البائع..... .ومن يومها إذا نظرت لعربة العرقسوس أو وقعت عيني عليه فى أي مكان ؛ لتبدأ مباشرة تقلصات شديدة بالعمل فى القولون والمعدة وأفقد شهيتي للطعام لفترة ليست بالقصيرة...


إبراهيم الديب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى