عصام القدسي - قمر قديم.. قصة قصيرة

الشمس تبسط أشعتها، فوق المتنزه، مظلة من زعفران. وعلى مقربة منها، تصفن بقايا غيوم رمادية. المتنزه بدا خاليا. أمس هطل المطر، فترى الأشجار مغسولة، تشع اخضرارا، والحشائش مبللة، وبدت أزهار الأمس تسبح بالضوء، كما تفتقت براعم عن أزهار جديدة. نظر إلى ساعته، لقد جاء مبكرا. لم تزل نصف ساعة على الموعد..

هذا الصباح استيقظ مبكرا كعادته، وشعر بالبهجة تغمره بعطر فواح يملأ صدره، وقبل أن يبحث عن سرها، تذكر المكالمة التي تلقاها في ساعة متأخرة من ليلة أمس، استرجعها كلمة كلمة، انتعش فؤاده. وأخذ يفكر، هل يعقل هذا بعد كل هذي السنين.!!، وهل لازال يصلح للعشق والغرام.!!. غادر فراشه مسرورا، هبط درجات السلم بتأن، دخل المطبخ، جلس على كرسيه الذي اعتاده. البيت يسوده السكون. فالكل نيام، مسح نظارته ولبسها، اخرج من جيبه كيس الدواء. رفع أنبوبة القطرة التي وصفها له الطبيب قبل أيام، قطرّ في عينيه، رن في أذنه صوت الطبيب “إنها بداية نزول الماء الأبيض لا تجهد عينيك بالقراءة “، لكنه لم يكترث، وأمضى الليل كله مع ماركيز يلتهم روايته الحب في زمن الكوليرا ويمضي، جنبا إلى جنب، مع بطلها الدكتور خوفينال اوربينو، كانت أحداثها تجري أمامه جريا. وهو متشبث بها كطفل فوق دراجة جديدة، بالرغم من غشاوة أمام عينيه تحاول أن تثنيه عن مواصلة القراءة..

الوقت لم يزل مبكرا على الموعد. نهض. تناول قدح ماء. بحث بعينين كليلتين، في الكيس ثانية، تناول حبتين من دواء السكر. ظن بالأمس إن رحلة العمر، قاربت محطتها الأخيرة، وان كل شئ انتهى.. منذ زمن، أصبح عازفا عن الحياة. كل يوم يزداد جسده ضعفا، ويزداد هو وحدة، قبل أعوام كان يحتل الصالة بفوضى كتبه وأوراقه وأقلامه وسجائره وأدويته ثم طلب أن تخصص له غرفة لوحده. استقر فيها متوحدا مع ذاته، لأنه لم يعد يطيق صوت التلفزيون أو يرى زوجته أو أحدا ممن في البيت يطل عليه، أو يسمع أصواتهم. ولم يكتف بهذه العزلة، وأراد المزيد، فانتقل إلى غرفة في الطابق الأعلى كان قد غادرها ولده بعدما تزوج فيها. لقد كبر الأبناء واعتمدوا على أنفسهم فقرر أن يتخلى أخيرا، عن لعب دور الأب أو البطولة وهرب إلى القمة يطل من فوقها بلا اهتمام. واكتفى بالقراءة وسماع الموسيقى والتدخين ومشاهدة بعض برامج التلفزيون التي يختارها بعناية. واليوم يروم المزيد من الهروب. ترى إلى أين.؟ إلى أذيال نجمة في السماء.؟ ولكن مكالمة الأمس أعادت إليه الحياة وبعثت في نفسه التفاؤل من جديد. تنفس بارتياح” لم تزل الدنيا بخير”.

تطلع إلى الساعة، في معصمه. ورمى ببصره إلى مدخل المتنزه، فتى وفتاة يجتازان البوابة ويتجهان نحوه. ثم ينعطفان إلى اليسار ويختفيان بين الأشجار. انبثقت أشجانه،ردد في سره ” وذو العشق القديم وان تعزى /مشوقا حين يلقى العاشقينا “، وتفتق ذهنه عن ذكريات مواعيده الغرامية وأخذت تنهال مثل نهر عذب. حين كان شابا، لم يكن يخلو من المواعيد يوما. النساء تطارده لوسامته وروح المرح التي تلازمه. زفر، كل شئ غار في أخاديد الزمن وخلف وراءه رماد ذكريات. ولكن ما حصل أمس جعله يتراجع عن أفكاره المتشائمة، يبدو إن النبع لم يجف تماما فما زالت اوشاله تنتظره بالمفاجآت..

البارحة كان في غرفته يقرأ، وكانت الساعة تقارب الثانية، طوى الكتاب وتهيأ للنوم. رن هاتفه الخلوي، أجفل، فنادرا ما يتصل به احد. ترى من يتصل به، في هذه الساعة المتأخرة.؟ عاد ولبس نظارته رقم مجهول فتح الخط :

– آلو.. من.؟

سمع ضحكة أنثى : _ لا تقل انك لم تعرف صوتي.. وإلا سكت قلبي.!!

– صوتك ليس غريبا علي.. لكنني.- تلكأ قليلا -.. لم اعد أتذكر.

– أنا جنان..؟

– جنان من.؟ أمهليني لأتذكر.

– جنان.. جنة…

– من.؟

– ياااااااااالله.. مابك يارجل.؟

– آآآه..تذكرت.

– لا.. لم تتذكر.. أنا جنة.. إهييي.. تذكر وإلا أغلقت.

– تذكرت.. ” أمل حياتي يا حب غالي “.؟

– هااااهاااهاا…!!

– ما الذي ذكرك بي بعد انقضاء العمر ورحيل السنين.؟

– اشتقت لأيامنا الحلوة..

– وزوجك.؟

– غادرني مبكرا.. فبقيت وحيدة.

وزفرت بحسرة : _أريد أن أراك..؟

– لم اعد شابا.. بلغت الواحد والستين.

– لا يهم..

وحددا موعدا. الشمس تهبط، والمتنزه مازال خاويا إلا من الشابين خلف الأشجار وفلاح منكب على مسحاته، يبدو من بعيد. وسرح بخياله إلى جنان بل جنة، كما كان يحلو له أن يدعوها، وعاد إلى أيامها اللذيذة. كان زمن الشباب وكانت مع أسرتها تسكن مقابل بيتهم، كان لم يزل طالبا وكانت هي تعاني الضجر، فكانت كلما ذهب أهلها وخلى لها البيت تدعوه إليها وتلقم آلة التسجيل، شريطا لأم كلثوم، فترقص له، وترفع ثوبها، فتبدو كنوز جسدها الناعم الأبيض كالحليب. وتتلوى وتتمايل وتقفز، مقلدة الراقصة سهير زكي الشهيرة آنذاك.

– ألا تخافين أن يباغتنا اهلك.؟

تضحك من الأعماق : سأدعي انك جئت من اجل..

– من اجل ماذا.؟

– أي شئ.. إصلاح المكواة..إصلاح الحنفية..الكهرباء.. أو من اجل هذا..

وتشير إلى ما بين فخذيها.. لم يقابل يوما، فتاة أكثر منها صدقا ولا جرأة ولا مرحا.. ويبتسم، كم كانت تكيد له وتلعب به لتضحك مثل طفلة. فذات مرة، كانا معا يلهوان، وتظاهرت إنها تصغي إلى دقات على باب المنزل، سألها : – مابك..

صرخت فجأة : أهلي..!!.. لقد عادوا..اختبئ. اختبأ تحت السرير، ولما كاد يختنق. انحنت وأخذت تنظر إليه وتقهقه بضحكة مجلجلة.

– أخفتك..!!

– ملعونة.. كاد قلبي أن يتوقف..

وتذكر متى رآها آخر مرة، ربما قبل أربعين سنة أو أكثر، قبل يوم زفافها بليلة. كان عائدا من المقهى وسمعها تناديه، التفت فرآها على ضوء المصباح الخافت تقف خلف باب بيتهم اقترب منها فسحبته من ذراعه احتضنته وقبلته بجنون ثم تأوهت وتحشرج صوتها :

– غدا ارحل..

اغرورقت عيناه بالدموع. ونظر إليها مندهشا فهو لم يرها يوما، ضعيفة، مستسلمة كهذه اللحظة. ولكنها لم تلبث أن مسحت دموعها، وهمست في أذنه : _ أخشى أن أكون فقدت زهرتي.؟ خفق قلبه بشدة ونطق بصعوبة : مستحيل.. ضحكت وقد شعرت بهزيمته : _ امزح معك.. لم يصل بنا الأمر لهذا الحد.

– ماكرة.. نشفت دمي.

بعد زواجها بأيام انتقلت أسرتها من المحلة وانصرف هو إلى دروسه، فماتت الفرصة في أن يراها ثانية وأصبح ما بينهما ماضيا لن يعود. لكنه قبل سنوات كان يسمع نتفا من أخبارها من قريبة له. كان يعتبرها مخلوقا استثنائيا، بظرفها وجمالها. ترى كم تغيرت الآن. وهل شاخت مثله. وظل خياله يرحل في الماضي البعيد. يفلي أياما خلت.

وانتبه إلى الشمس تغمر مجلسه. نظر في معصمه. مرت ربع ساعة على الموعد. لاشك أن عائقا ما أخرها، فلينتظر.

انتقل إلى مقعد آخر وحاول أن يلج عالم خياله ثانية لكنه وجده موصدا، فاخذ يتلهى بتأمل ما حوله. وأحس باليأس يتسلل إلى نفسه، لكنه ظل ينتظر، حتى قاربت الظهيرة، وبدأ الجو يتغير بسرعة مذهلة وتكفهر السماء. قرر المغادرة ولكنه قبل أن يغادر مد يده في جيبه. اخرج هاتفه وضغط أزراره فسمع صوتا متوجعا : – آسفة حبيبي.. أكاد أموت غيضا.. فاجأني الم عرق النسا، فلم استطع مغادرة الفراش،.. دعها لفرصة ثانية.

أغلق الهاتف.

ونظر إلى الغيوم من فوقه تتلبد بسرعة فيظلم المكان شيئا فشيئا. وتعصف الريح بالأشجار فتنحني أغصانها وتتناثر أوراقها وتصطدم بوجهه. نهض من مجلسه يجرجر رجليه، ودفقات الريح تدفعه وتكاد تقتلعه من مكانه. عاد إلى عزلته وأغلق باب غرفته، جلس ساكنا حزينا، يتطلع إلى السقف لكنه تذكر شيئا. مد يده في جيبه، تلمس هاتفه الخلوي بحنو، واخذ يبتسم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى