سعيد قاسمي - رجل أضاع ظله.. قصة قصيرة

لم يرض بوشعيب بواقعه كأستاذ للتعليم الابتدائي. كان يعي جيدا أنه ولج مهنة التدريس رغما عن إرادته، وبدافع مساعدة عائلته الفقيرة، التي تقطن بأحد الدواوير التابعة لمنطقة دكالة، سيما وأنه الولد البكر لوالده الفلاح الصغير الذي يكتفي بحرث أرض مساحتها صغيرة، والذي يجد صعوبة كبيرة في إعالة أبنائه الثلاثة وبناته الأربع .
الهشاشة والظروف الصعبة، دفعتا بوشعيب إلى ولوج مدرسة المعلمين، مباشرة بعد حصوله على الشهادة الثانوية، أو ما كان يصطلح عليه آنذاك، «شهادة البروفي». وهي المدرسة التي قضى بها سنتين من التكوين، حيث تم تعيينه كمعلم بإحدى المؤسسات جنوب الصويرة / موكادور.
الوظيفة الجديدة كأستاذ للتعليم الابتدائي، انتشلت بوشعيب من واقعه المزري نفسيا وماديا، وزودته بطاقة إيجابية، بل شكلت لديه حافزا قويا لبناء مؤسسة اجتماعية، فوقع الاختيار على زميلة تشتغل بالمجموعة المدرسية المجاورة. لكنه أصيب بخيبة أمل، عندما أعلنت رفضها صارخة في وجهه « أنا لن أقبل بالزواج من معلم، لأني أحلم بعريس من عائلة ميسورة، وله من المال والجاه ما يضمن لي حياة سعيدة « .
لم يكن بوشعيب ينتظر ردا يقزم صورته أمام الزملاء، هو الذي كان يعلق آمالا كبيرة على أستاذة تتقاسم معه بناء عش الزوجية، فكان لهذا الرفض بتلك اللغة، بتلك الكلمات، بتلك القسوة في ذبذبات الصوت، تأثير على نفسيته. فكان أن اختار امرأة بديلة، تسكن بالدوار المجاور لبيت أسرته، فتزوجها خلال العطلة الصيفية .
كان رد فعل من أجل الثأر لنفسه، واختار مجرد «ربة بيت»، جعل منها امرأة ليسكن إليها، هي التي لم تتجاوز الصف الثالث ابتدائي. وبسبب تباين المستوى الثقافي والفكري والعاطفي الوجداني.. ظلت العلاقة بينهما مختزلة في إنجاب الأطفال .
دافع الثأر كانت نتيجته ستة أولاد، ثلاثة ذكور ومثلهم من الإناث. وهذه «الفحولة» التي ظل يفتخر بها الأستاذ ويعتبرها عنوان رجولته، سيما أنه تزوج في سن العشرين، وكانت أربع عشرة سنة، كافية لإنتاج هذه «الزريعة» من الأبناء بالتناوب بين الإناث والذكور .
علاقة بوشعيب الزوجية علاقة كلاسيكية، عند زملائه، ما جعله يحس في دواخله أنه تسرع في اختيار شريكة حياته، حيث كان يطيل النظر في المعلمات اللواتي يشتغلن بالمجموعة المدرسية التي يعمل بها، أو المجموعات المجاورة، فيتحسر كثيرا ويقول في قرارة نفسه: «لقد أسأت الاختيار، لكن ماذا عساي أفعل وأنا المثقل بالأولاد وأجرتي لا تتجاوز ألفا وستمائة درهم دون خصم « التريتة «.
وضعية «بوشعيبنا»، شكلت لديه حافزا للترشح إلى مباراة سلك المفتشين، لكن التوفيق لم يحالفه في أكثر من مرة، إلا أن المرة الثالثة كانت ثابتة، حيث اجتاز المباراة بنجاح في الامتحانات الكتابية والشفهية، فكانت فرحته لا توصف، وهو يستقبل تهاني الزملاء والزميلات، وعلى إيقاع النشوة بالنجاح، أقام حفلا عائليا رفقة الزوجة والأبناء، وخلال هذا الحفل الصغير، سرقته لحظة شرود، هو الذي لا يزال جرح الماضي ثاويا في دواخله، وطرح سؤالين عريضين: « هل ستتغير حياتي بعد التخرج من مركز تكوين المفتشين ؟ وكيف سيكون شعور الأستاذة التي رفضت الزواج مني عندما تعلم أني أصبحت مفتشا تربويا « ؟
المرور من مركز تكوين مفتشي التعليم للسلك الابتدائي، أشبه بسراط من التحديات النفسية والذهنية خلال ثلاث سنوات. وكان الطالب المفتش بوشعيب آنذاك يقاسي كثيرا عند تحضير العروض والتهيئ للفروض والتوفيق بين الدراسة والأسرة، وقد نالت منه هذه المعاناة مأخذها، لدرجة أنه قرر في أكثر من لحظة طلب الإعفاء والعودة إلى التدريس بالقسم، خصوصا وأن نتائجه لم تكن تتجاوز عتبة المتوسط، شأنه شأن مجموعة من الطلبة، سيما وأن بعض الأساتذة، كانوا يتلذذون بممارسة ساديتهم على مجموعة القسم .
معاناة الطالب المفتش بوشعيب ومن معه، لم تكن تقتصر على الجانب النفسي فقط، بل امتدت إلى ما هو اقتصادي، حيث اضطر جلهم إلى استئجار شقق بمواصفات بسيطة، وينضاف إلى سعر الإيواء مصاريف الإطعام والاستنساخ والتنقل ..فضلا عن مصروف العائلة بعيدا عن الرباط، فوجد صاحبنا بوشعيب نفسه مضطرا إلى الاقتراض من مؤسسة بنكية، ومن إحدى شركات السلف، سلفتين لسد حاجياته ومتطلبات أبنائه الستة، الذين يتابعون دراستهم بالمدرسة العمومية .
مرت ثلاث سنوات من التكوين النظري والتدريب الميداني، توجها أخيرا بوشعيب بنجاح، وانتابته فرحة عارمة بعدما استبدل إطار «معلم»، وأضحى يحمل صفة «مفتش تربوي» للتعليم الابتدائي، حيث تم تعيينه بإحدى المديريات التابعة للجنوب، وكم كان إحساسه غريبا وهو يوقع محضر الدخول ويحضر اجتماع توزيع مقاطعات التفتيش .
ولإجراء أول زيارة صفية، اضطر المفتش بوشعيب أن يستأجر سيارة أجرة لقطع مسافة أربعين كيلومترا، وأن يزدحم داخل سيارة للنقل السري عبرت به طريقا غير معبدة، ورغم وعورة المسالك، فإن بوشعيب كانت تغمره فرحة عارمة، وهو يمارس مهامه الجديدة كمفتش، يعطي التوجيهات ويبدي الملاحظات ..
طبيعة عمل المفتشين الذين يعملون بعيدا عن مقر سكناهم، كما هو الشأن بالنسبة لبوشعيب الذي يقطن بالجديدة، تفرض على المفتش برمجة أيام العمل في أسبوع على الأكثر، ثم العودة إلى بيته لقضاء ما يناهز شهرا من الزمن رفقة العائلة، لكن المفتش بوشعيب اختار أن يعكس الآية، وأضحى يقضي مدة طويلة قريبا من منطقة التفتيش المسندة إليه، وهذا الاختيار الاضطراري، فرضته مشاعر وأحاسيس وعواطف كانت أقوى من شخصه، حيث أعجب بمعلمة زارها بقسمها وتعلق بها، بل فاتحها في موضوع الزواج، رغم أنها لا تتجاوز ربيعها الرابع والعشرين، وكان يخشى أن ترفض طلبه كما حدث له مع الزميلة التي كانت تعمل بإحدى المجموعات المدرسية المجاورة للفرعية التي كان يشتغل بها كمدرس، لكن الاستاذة حسناء فوجئت بالموضوع وطلبت مهلة التفكير والاستشارة، سيما وأنها علمت أنه متزوج وأب لستة أبناء .
وفي انتظار الرد، دخل المفتش بوشعيب في الإجراءات القانونية لتطليق امرأته التي كانت دائما مستسلمة طائعة، والتي تقاسمت معه سنوات المحنة والمعاناة، لكنه نسي ذلك بممحاة النكران، وضرب بمصير أبنائه عرض الحائط، أمام نزوة فجرتها مكبوتات داخلية، فحاول الانتقام لذاته، بعدما أصبح مفتشا، يقينا منه أنه يتمتع بسلطة معنوية تعبد له الطريق للزواج من أي أستاذة يختارها .
اختارت الأستاذة حسناء أن تلعب بعواطف المفتش فقررت تمديد فترة الاستشارة، وفي كل مرة يفاتحها بوشعيب في الموضوع، تجيبه ببرودة دم : « لماذا أنت مستعجل هكذا ؟ وهل من السهل الحسم في اختيار شريك الحياة بهذه السرعة « ؟ وتواصل حديثها وهي تضع كبرياء مفتشها تحت أقدامها « أنت متزوج ولك أولاد وبنات وتكبرني بأزيد من خمس عشرة سنة، وهذه المعطيات تتطلب مني دراسة متأنية ومساحة زمنية غير قصيرة لإعلان الموافقة أو الرفض « .
تأكد للمفتش بوشعيب أنه داس على كبريائه، وأضحى لعبة في يد شابة صغيرة السن، جميلة المظهر، حديثة العهد بمهنة التدريس، لكن ماذا عساه يفعل، وهو الذي عبر لمعشوقته أنه مستعد للتضحية ماديا ومعنويا لأجل أن يتزوجها .
لقد أصبح رقما آخر في لائحة من رجال التعليم، ممن يقعون ضحية عمى في التصالح مع ذواتهم وحقيقة واقعهم، فيعودون إلى صبا ما عادت الطبيعة تمنحه سبب وجود، تماما مثل تلك الجدة التي «حتى كبرت، عاد تفكرت خريق وذنيها».
الغيابات المتكررة والطويلة لبوشعيبنا عن عائلته، أدخلت زوجته منعطف التشكيك في سلوكه، فذهب بها تفكيرها ـ كأي امرأة ـ إلى اتهامه بإنشاء بيت ثان صحبة امرأة ثانية، ولم تنتظر طويلا، لتفاتحه في الموضوع ذات ليلة من ليالي شهر مارس، موجهة سؤالا بنبرة الشك :
ـ واش الخدمة نساتك في امراتك وأولادك ؟
ـ عمل المفتش ليس سهلا، كثرة الاجتماعات وكثرة الزيارات والمصادقة على الامتحانات والتكليف بحل المشاكل أوزيد، أوزيد، أوزيد ..
ـ اللي كايغيب على امراتو واولادو أكثر من شهر، شي حاجة شاداه ، أو على هاذ القبال كون غير بقيتي معلم .
ـ صافي ماصبتي ماتقولي، بغيتيني نرجع معلم، وشتي دابا غادي نوريك آش قادر ندير .
ـ آش غادير، هجرتي بيتك، وما بقيتيش كتسول في ولادك، ما تكون غير تزوجتي .
ـ كا تهميني، ودابا عاد غادي نوريك الزواج، موعدنا دار القاضي .
بدا بوشعيب قلقا، وشرع في إعداد حقيبة السفر، ثم غادر البيت ليلا، تاركا زوجته تجهش بالبكاء، وتوجه صوب المحطة ينتظر أول حافلة متوجهة إلى الجنوب، وعلى طول مسافة الطريق، سرقته سهوة نوم، فشرع في بناء قصر من الأحلام صحبة الاستاذة حسناء، فتصور نفسه عريسا خلال حفل عرس افتراضي، يرد التحية على المدعوين، ويأخذ صورا مع العروسة، وهما يشربان الحليب ويتناولان التمر .. فاستيقظ مذعورا على صوت مساعد السائق يصرخ « أصحاب إنزكان ـ أصحاب إنزكان .. «
اضطر المفتش بوشعيب إلى مقابلة الأستاذة لمعرفة ردها، فتكبد عناء الذهاب إلى المجموعة المدرسية التي تعمل بها في زيارة رسمية، فكان جوابها أن طلبت تمديد فترة التفكير والاستشارة، مبررة ذلك، بكونها تنتظر فرصة طرح الموضوع على أهلها، ووعدته بأن الرد سيصب في اتجاه القبول .
اطمأن المفتش بوشعيب، واستأجر شقة رفيعة بمواصفات عالية، واختار لتأثيثها ما يناسب متطلبات العصر، وبالموازاة مع هذا الإعداد اللوجيستي، وضع شقته حيث يقطن أولاده لدى وكالة عقارية لأجل بيعها، فكانت مدة شهرين من الزمن، كافية للتوقيع على عقد وعد بالبيع، لكن عندما علمت زوجته بان الشقة أضحت في ملكية الغير، وافقت على الطلاق وسلمت أمرها لله، واكتفت بالدعاء عليه بأشنع المصائب .
علق المفتش بوشعيب آمالا كبيرة على الزواج من أستاذة شابة، وصارحها بقرار تطليق امرأته أم أولاده، كما باح لها بالرصيد المالي الذي أصبح بحوزته بعد بيع شقته، ووعدها بالاستجابة لكل متطلباتها المادية، لكن الأستاذة حسناء طلبت مهلة خمسة أسابيع، وهي المساحة الزمنية المتبقية من عمر الموسم الدراسي .
ومباشرة بعد توقيع محضر الخروج، اختفت الأستاذة، تاركة رسالة للمفتش كتبت فيها:
«أستاذي المحترم
كنت مضطرة للعب دور المماطلة، والآن أصارحك أني بصدد التهيئ لحفل زفافي من أحد أقاربي، وأشعرك أني استفدت من الحركة الانتقالية، استجابة لطلب الالتحاق بالزوج، أشكرك على تفهمك، وأتمنى أن تعود لزوجتك وأولادك».
المشكل هنا، أن بوشعيبنا، ليس فقط أنه لن يعود إلى زوجته وأبنائه.. المشكلة هي أنه، مثل رجل أضاع ظله، فإنه أضاع طريق العودة إلى نفسه.

سعيد قاسمي


* عن الاتحاد الاشتراكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى