يتابع ابن سهل الإشبيلي أبيات موشحته الفريدة، تأمله عن كثب وهو يرد على من سأله عن سبب جفاء المحبوب وهجرانه له قائلاً:
أيها السائل عن جرمي لديه
لي جزاء الذنب وهو المذنب
فأطلق الذنب على تجني الظبي وهجرانه، وهذا من قبيل المفارقة، ويقول شارح الموشحة، إن الذي وقعت به الفتوى عند أهل الفن في مثل هذا...
نصل إلى بيت القصيد في موشحة ابن سهل التي تريثنا عندها طويلا باعتبارها نموذجا فذا لشعرية الموشحات؛ لما تتميز به من التركيز الدلالي والكثافة التعبيرية والجمال التصويري، فنتأمل بيتين منها فقط يوجزان أسلوبها القوي، مع استخدام تقنية كانت شائعة لدى كثير من الشعراء، لكنها لم تظفر بالتسمية النقدية...
كلما انتقلنا من مقطع لآخر، في هذه الموشحة الذروة، أدركنا بعض أسرار الشعرية المجسدة فيها، وولع الشعراء والشراح بها، فالإنسان شرعته التناقض، وحلمه الدائم أن يظفر بالاتساق. وتتولد المفارقات عندما يحاول الجمع بين الطرفين في إطار جمالي محكم، تصوغه لغة مقتدرة وجسورة، يمضي ابن سهل مقاربا محبوبه بصيغ...
نتابع قراءة موشحة ابن سهل التي تتميز برقتها وعذوبتها، وقوة تركيبها وإتقان تصويرها. ومن اللافت أن القدماء انتبهوا إلى هذه الخواص المميزة في شعر ابن سهل، فالأفراني يقول: ” سئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل فقال: لأنه اجتمع فيه ذلان؛ ذل العشق وذل اليهودية” على أنه لم يلبث أن اعتنق...
كانت الموشحات تزهو بإعلان ارتكازها على قطع غنائية شعرية تجعلها عمود بنائها وتضعها في النهاية باعتبارها “الخرجة” المعلمة. بينما كانت قصائد الفصحى تجتهد في إخفاء محاورتها للنصوص السابقة عليها فيما عدا المعارضات الصريحة خوفا من الاتهام بالسرقة. وسرعان ما أخذت الموشحات تتوالد فيما بينها وتشكل ما...
موشح آخر لابن القزاز، صادم في مطلعه، لكنه رقيق شديد الولع بالمحبوب الذي يتغزل به، ومصدر الصدمة أنه يصفه في البداية بأنه “علق” وهي تعني في العربية “النفيس الذي يتعلق به القلب” لكنها أصبحت تعني في اللهجات العامية “المخنث” وعلينا أن نردها إلى أصلها ونحن نقرأ:
“بأبي علق/ بالنفس عليق
هويت هلالا/ في...
تهيمن الوظيفة الشعرية على اللغة عندما تصبح اللغة غاية في ذاتها، وليست مجرد وسيلة للتعبير والتواصل. وإذا كان مناط الجمال في الشعر يتعلق ببساطة بالإيقاع الموسيقي من ناحية والتخييل التصويري والحرارة الوجدانية من ناحية ثانية، مما يخلق رؤية طازجة للوجودان فإن طغيان العنصر الإيقاعي على منظومة الموشحات...
ثم يمضى ابن القزاز في موشحه فيقول في المقطع الشهير:
“بدر تـم/ شمس ضحـى/ غصن نقـا/ مسك شم
ما أتــم / ما أوضحـ،ـا/ ما أورقــا/ ما أنم
لا جــرم / من لمحــ،ـا/ قد عشقــا/ قد حرم
فالوصــال/ ما قد خـــلا/ من أمل فائت
والخيـــال/ ما قد عـــلا/ من نفس خافت”
ولا بد أن ننتبه إلى أن تنفيذ هذا الموشح...
أستأذن القارئ الكريم في استعارة هذا العنوان من كتاب ابن سعيد الأندلسي الذي أدرك بفطنته العالية وحساسيته الموسيقية والشعرية أن بعض الموشحات ليست سوى توقيعات نغمية خصصت للرقص، فلا يستطيع منشد أن يتمالك نفسه من الاهتزاز الحسّي والهزة النفسية عندما يتغنى بها. ولعل من أبرزها موشحة ابن القزاز (500هـ ـ...
قبل أن نورد المقطع الأخير من موشحة ابن غرلة التي يجاهر فيها بصيده الغزالة من مراتع الأسود؛ وهي إشارة واضحة لعشقه للأميرة رميلة أخت الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، يجدر بنا أن نتذكر قطعة فريدة وشهيرة من معلقة امرئ القيس يقول فيها:
“وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجلِ
تجاوزت...
هناك بعض الموشحات المثيرة، ذات الطابع الفني والموضوعي اللافت، مما يجعلها تستحق الذكر والتأمل، خاصة إذا كانت ترتكز على أبرز تقنية شعرية انتبه لها النقد المعاصر، وهي التناصّ أو تداخل النصوص، فالوشاح الأندلسي والمغاربي كان متجذرا في تراثه العربي ومستوعبا لعناصر ثقافته المائزة، فهو يقرأ الشعر...
يمضي الشاعر الأندلسي عيسى ابن لبون في موشحته التي يشرح فيها طقوس دين الحب فيقول:
أفنيت صبرا/ ولم أزل ذا اصطبار
عبدا حرا/ مستعبد الأحرار
باللحظ قسرا/ لم يقل باعتذار
فمن رآني/ على انحطاط لشاني
ففي انذعاني/ إليه أقوى برهان
ولكي ندرك ما في هذا الشعر من تحريك تقدمي لمنظومة القيم التي كانت سائدة في...
نعود قليلا إلى بعض نماذج الموشحات الجميلة في عصر ملوك الطوائف بالأندلس، وقد استغرق القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي، لنجد من أبرز شعرائه أبوعيسى ابن لبون الذي كان قاضيا ووزيرا في مدينة بلنسية حتى سقطت في يد المغامر الإسباني السيد القمبيطور، فذهب ابن ليون عام 478 هـ إلى مدينة مربيط...
تستمر الموشحة التي أملاها الأعمى التطيلي وجعلها مذيلة بجملة قصيرة تصلح لترجيع الجوقة المغنية عقب كل مقطع فتقول:
“أهلا وإن عرّض بي للمنون
بمائس الأعطاف ساجي الجفون
يا قسوة يحسبها الصب لين
علمتني كيف أسيء الظنون
مذبان عن تلك الليالي القصار
كأنما بين جنوني عرار نومي غرار”
يرحب الشاعر بمحبوبه وإن...
للأعمى التطيلي موشح آخر يجرب فيه لونا من الترجيع، بكلمات تصلح للجوقة كي ترددها، بما أطلق عليه العروضيون مصطلح “التذييل” وفيه يتجلى الحس الموسيقي الذي يعتمد عليه المؤلفون والملحنون في اختيار المفارقات اللافتة والإيقاعات المنظومة، فالتقابل الدلالي بين الأطراف يضفي على النغم الصوتي الخارجي انسجاما...