كان الأعمى التطيلي يمزج في موشحاته بين مدح النساء بالغزل ومدح الأمراء برقة تفوق الغزل نعومة وظرفا، وكان يتغنى بجمال الممدوحات والممدوحين ويشغف بهم حبا، وكثير من قصائده تتوزع على هذين الطرفين بالتساوى، لكنها تختتم غالبا بالحديث عن فتاة عاشقة قامت تغني كاشفة عن وجدها وصبابتها، فالحب الأندلسي في...
كان ولع هذا الوشاح الأندلسي العجيب، الأعمى التطيلي، بمفهوم الجمال وقدرته على التغني به سابقا لزمانه، فهو يكرر ذلك كما رأينا بأشكال مختلفة، فيجعله مرة عبادة، ومرة فريضة، ومرة همه الوجودي الوحيد، فيقول فى إحدى موشحاته:
“أنا والجمال/ وهم وما اختاروا”
مكتفيا بذلك مطلعا للموشحة، ولا بد أنه كان...
أحسب أن الشعر الأندلسي، والموشحات خصوصا، هي التي أبرزت قيمة الجمال باعتباره معنى كليا يتجسد في مظاهر عديدة، في البشر؛ خاصة النساء، وفي الطبيعة، بحيث يمكننا أن نقول إنه قد تفوق في ذلك على الشعر المشرقي، فهذا هو الأعمى التطيلي يقول في موشحته:
“حلو المجاني/ ما ضرّ لو أجناني
كما عناني/ شغلني به...
من ألطف ما تتميز به الموشحات، وهو من خواص شعريتها، هذا اللون من الظرف وحسن الدعابة الطريفة. وقد اجتهد بعض منظري الشعر في التدليل على أن طبقاته الحميمة تتضمن شيئا من روح الفكاهة التي تثير الابتسام؛ فمفارقات اللغة واللعب بالكلمات وابتكار المجازات يمتع القارئ وينعش وجدانه حتى تنفرج أساريره. ولنتابع...
يتجلى ولع الوشاحين الأندلسيين بالمزج اللغوي في خرجات قصائدهم بين العربية والقشتالية، أي الإسبانية القديمة، فالأعمى التطيلي يكمل الموشحة التي ذكرنا فقراتها الأولى قائلا:
“يا من قتل الريم بتقتيره
ومن فتن الحوار بتصويره
ومن زاغت الأبصار من نوره
هواك هو التشويق ما عشت
لا بحتُ به دهري، لا بحتُ”...
من خواص الموشحات الأساسية بناؤها على أغنيات شعبية ملحونة وملحنة، وتناسلها الداخل في سلالات شعرية متوارثة خلفا على سلف، إما في المطالع الشهيرة كله أو في بعض صيغها الأثيرة فحسب. والموشح الذي نتوقف عنده اليوم للأعمى التطيلي أيضاً، وإن كانت خرجته أعجمية من تلك الخرجات التي فك شفرتها المستعرب...
أما بقية هذا الموشح الذي بهر الشعراء وأعجزهم عن منافسته، فمزقوا موشحاتهم كما قطعت النسوة أيديهن افتنانا بجمال يوسف، فيقول فيه الأعمى التطيلي، ويبدو أن لمحنة العمى أثر كبير في توهج قدراته وارتفاع مستوى حساسيته للنغم والإيقاع والصور الحسّية:
“بي هوى مُضمرُ/ ليت جُهدي وَفْقُهُ
كلما يظهر/ ففؤادي...
عندما نبلغ عصر المرابطين بالأندلس نهاية القرن الخامس الهجري ندرك ذروة ازدهار فن التوشيح، وبروز كبار أعلامه الذين يجمعون بينه وبين القصيد المنتظم وفي مقدمتهم الأعمى التطيلي (485 ـ 525 هـ) الذي توفي قبل تجاوز الأربعين، ومع ذلك خلف ديونا هاما يتضمن عددا كبيرا من الموشحات المتميزة، ويكفي برهانا على...
ثم يمضي الوشاح الأندلسي ابن عبادة الملقي في نقلة دلالية مدهشة فيقول في المقطع الرابع:
“إن أنس يا صاحبي/ لا أنس يوم قلت له
أخضع كالطالب/ أعياه حلّ المسألة
فردّ كالغاضب/ بمنطق.. ما أجمله
يرنو إلى جانبي/ بناظر.. ما أقتله
كما رنت أم مريم/ حوراء تزجي/ للمغيب/ في مرتِ
غُزيِّلاً داهشا/ أحوى ربيب/...
ثم يمضي الوشاح الأندلسي ابن عبادة الملقي في نقلة دلالية مدهشة فيقول في المقطع الرابع:
“إن أنس يا صاحبي/ لا أنس يوم قلت له
أخضع كالطالب/ أعياه حلّ المسألة
فردّ كالغاضب/ بمنطق.. ما أجمله
يرنو إلى جانبي/ بناظر.. ما أقتله
كما رنت أم مريم/ حوراء تزجي/ للمغيب/ في مرتِ
غُزيِّلاً داهشا/ أحوى ربيب/...
كان أول موشح اجتهد العالم الإسباني الكبير إميليو جارثيا جوميث (1905 ـ 1995) في فك شفراته، وقراءة خرجته الرومية هو لابن عبادة الملقي الذي ينتمي إلى القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي، ومطلعه طريف وملغز مثل خرجته إذ يقول:
“من مورد التسنيم/ من سلك فلج/ ذي غروب/ في قَلْتْ
إن ذاقه عاطش/...
هل كان الشعراء الأندلسيون المولعون بالجمال، الشغوفون بالعواطف الإنسانية الرقيقة غارقين في الترف الذي عجل بتفتت الدولة الأندلسية، في عصر ملوك الطوائف، كما يقول بعض المؤرخين؟ أم أن ازدهار الفن ورقي الحياة المتحضرة يعدان من مظاهر عصر القوة السابق خلال فترة الخلافة والفتوح العفية، تأخرا في الظهور...
ظلت هناك مشكلة مستعصية في الموشحات الأندلسية الأصيلة، وهي أنها مبنية على مقطع غنائي، مكتوب غالبا باللغة الرومانثية، أي القشتالية القديمة التي تعد أصل الإسبانية المعاصرة، ويطلق عليها عادة الرومية، وهي الخرجة أي القفل الأخير من الموشحة. وكان من المعتاد في المصادر العربية أن تكتب طبعا بالحروف...
أما شاعر الموشحات الثاني طبقا لترتيب الديوان الجامع الذي وضعه الدكتور سيد غازي فهو الكميت البطليوسي، وهو من شعراء عماد الدولة بن هود بسرقسطة 524 هـ، وتتميز بالطرافة والأناقة والابتكار الموسيقي اللافت. وقد جهد الباحثون ـ خاصة جامع الديوان ـ في توفيق أوضاعه الإيقاعية مع أوزان العروض العربي...
أما الموشحة الأخيرة التي نتوقف عندها لابن رافع رأسه، ورافع راية التوشيح في عصر ملوك الطوائف، فهي مدحية أيضا، يثني فيها على الأمير يحيى بن ذي النون الملقب بالمأمون (توفي سنة 467 هجرية) حاكم طليطلة، لكنه يمزج المديح بعناصر أخرى تتجاوب فيها أصداء الموسيقى بأنغام الطبيعة وألوانها، وما تبعثه في...