ضحى أحمد الباسوسي

يزورني كلّ صباحٍ طائرٌ صغير، لا أعرف اسمه، ولا من أيّ غصنٍ جاء، لكنه يعرف طريقه إليّ كما يعرف القلب من يحبه، يقف بثباتٍ على سور شرفتي، كأنه يحمل رسالة لا تُقال بالكلمات، بل تُترجمها النظرات والأجنحة التي ترفرف بخفة على أطراف الغياب. أراقبه في صمت، وأشعر أنني أعرفه… ليس كطائرٍ عابر، بل كظلٍ...
لم يبدأ الأمر بانفجارٍ كبير، ولا بحادثة تليق بأن تُروى، بدأ بصمتٍ صغيرٍ تسرّب إلى الأيام، ثم اتّسع حتى غمره فلم يستطع التنفس، لم يكن يعلم متى أصبح شخصاً يراقب الحياة من خلف زجاجٍ باهت، يعبر الشوارع كأنه عابر سبيلٍ في مدينةٍ لم تولد له. شيئاً فشيئاً، صارت الوحدة رفيقته، وصار انهياره في العمل هو...
كانت واقفة هناك، كقصيدةٍ نسيها شاعرها في زحمة العمر، متكئة على شرفةٍ تشبه حافة الذاكرة، تلك التي تهوي منها الأحلام حين تتعب. في يديها فنجان قهوة بارد، لا يدفئ سوى الفراغ، كقلبٍ كان يوماً مشتعلاً ثم أطفأه الغياب. كانت تحدّق فيه كما يُحدّق الغريق في صفحة الماء، لا يرى نجاته بل وجهه الموشّح...
أنِّي حين ضاق بي العالم، كنت أنت الفسحة الوحيدة التي لا تخذل، كنت المرفأ حين تعبت أمواجي من العراك، والضوء حين استوطن العتم عيوني، لم أجدك صدفة، بل وجدتك دعوةً قديمة رفعتها روحي ذات انكسار، واستجابها القدر متأخراً ليعلّمني أن النور لا يأتي قبل اكتمال الليل. كنت ملجئي، لا بمعنى المكان، بل بمعنى...
نحن أولئك الغرباء عن أنفسهم، نحمل قلوباً نُسيت في العتمة، كأنها مصابيح انطفأت واحدة تلو الأخرى ولم يسأل عنها أحد، نسير في الدروب بلا ظل، بلا صدى، كأن الأرض ترفض أن تحفظ وقع خطانا. نُجيد الصمت كما تُجيد السماء كتمان عواصفها، نُجيد التماسك في قلب الانهيار، وكأننا صُمّمنا من الزجاج لا ليُرى ما...
في البدء، كنتُ أفتحُ عينيّ على ضوءٍ يشبه وعد الفجر، وكانت الحياة تهمس لي كما تفعل الأم حين توقظ طفلها لحلم جديد، قلبي كان عصفورًا يختبئ بين أزهار الأمل، يغرد في حضن الريح، وكانت روحي تتقافز بين الأمنيات كفراشة لا تعرف غير اللهو في حدائق الضوء. لكن الزمن... الزمن لصٌ محترف، سرقني من بين يديّ دون...
جليسة وحدتها على شاطيء بحر مهجور، معروف لدى الجميع بتدرج ألوانه المختلفة، جميلاٌ، لكنهم يخافون الأقتراب منه بسبب مزاجيته وتقلباته، يكفيهم فقط استراق النظر اليه من بعيد. اقتربتُ منها عدة خطوات ثم جلستُ بجوارها مُبقية على مساحتها الشخصية بيني وبينها، أثَارَ الفضول حواسي اتجاهها حين لاحظتُ صورة...
كانت طفلة لا تعي سوى ما حولهـا، تستقي من الحيـاة كل ما تحب، ترى الأشياء بعيني والديّها، تنمو وتبدأ الألوان التي تعودت على رؤيتها تتبدل من حولها، تبهتُ كلما نمت أكثر، كلما اختلفت الحياة أكثر. إزداد فى نظرها الفارق بين ما كانت فيه و بين ما تراه. و اليوم تطل من نافذتها وهى تحمل على عاتقها عدداً...

هذا الملف

نصوص
8
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى