لم يبدأ الأمر بانفجارٍ كبير، ولا بحادثة تليق بأن تُروى، بدأ بصمتٍ صغيرٍ تسرّب إلى الأيام، ثم اتّسع حتى غمره فلم يستطع التنفس، لم يكن يعلم متى أصبح شخصاً يراقب الحياة من خلف زجاجٍ باهت، يعبر الشوارع كأنه عابر سبيلٍ في مدينةٍ لم تولد له.
شيئاً فشيئاً، صارت الوحدة رفيقته، وصار انهياره في العمل هو الطريقة الوحيدة التي عرف بها أنه مازال موجوداً.
هو لم يكن يحكي قصةً للشفقة، ولا يكتب رثاء لحياةٍ لم تبدأ، كلّ ما هنالك أنه حاول أن يقول ما لم يُسمع، أن يُخرج من صدره هذا الصدى الذي طال حبسه، فها هو تكلم... لنسمعه، كما يسمع نفسه الآن، بصوتٍ لا يسمعه أحد سواه:
أنا ظلٌّ يتكئ على العدم، أُشبه الغيمَ حين يُرهِقُه البُكاءُ ولا يُمسِكُهُ سَماء، أمشي على الأرصفة كأنني لا أنتمي لخطى أحد، لا تُناديني جهة، ولا تُغويني محطة، أنا وحدي، كما الشجرة التي تساقط عنها الربيعُ ولم تجد في الخريفِ كتفًا تُسندُ عليهِ اغترابها.
أجلسُ بصمتي، لا يُشاركني في الغرفة إلا صدًى قديمٌ لصوتٍ نسيته الحياة، أكتبُ وحدي، كمن يحاول أن يخيط جراحه بحروفٍ بالية، يُرتّقُ بها ما مزّقتهُ الخيبات، لا وجهة آمنة... لا مرفأَ يفتحُ ذراعيه لي ليقول لي "هنا يمكنك أن تتنفس"، كلُّ الأمكنةِ ضيقةٌ عليَّ، كلُّ الوجوهِ مؤقتة، كلُّ الحضنِ حلمٌ مُعطّل.
أخفي ارتجاف قلبي خلف قناعٍ من صلابةٍ مستعارة، أُتقن دور الصامد لأن الانهيار لا يجد وقتاً كافياً لينفجر، أتظاهر بالقوة، أُمثّل الثبات، أُخفي تصدّعي بابتسامةٍ خجلى تُشبه شروقاً كاذباً في ليلةٍ لا تنوي الرحيل، أعيش على ضفاف الوهم، أتنفس من رئة الحلم فقط، كأن الواقع سمٌّ لا يُحتمل، كلّ نبضةٍ في صدري تسألني: لماذا؟ وأعجز عن الجواب...
أُحبُّ الحياة، نعم، لكن الحياة لا تُبادلني الشعور، فقدتُ الشغفَ كما تُفقد الريحُ بوصلةَ الرجوع، صرتُ أعيشُ بلا أمنية، بلا انتظار، حتى الحنين أصبح حطباً لا يُشعلُ دفئاً، فقط يحترق ببطءٍ داخلي.
أحاول أن أستيقظ، لكنني أسقط في نومٍ أعمق، نومٍ ليس فيه راحة، بل هروبٌ أطول، أحلامي هي أرضي الوحيدة، فيها أنجو، فيها أجدني، فيها أعيشُ ما سُلب مني.
في الحلم فقط أحب، أُسامح، أُعانق، أضحك، أعود طفلًا يركضُ نحو حضنٍ لا يخافه، أما في الواقع، فأنا دخانُ شمعةٍ منسيّة، يُطفئها الهواءُ ولا يلتفت، لا صديق يسألني: هل أنت بخير؟ لا نافذة تطل على الأمل، أكتبُ لأن الكتابة بقاياي، لأن الصمتَ يقتُلني، ولأن العالم لا يسمعُني إلا إذا بكيتُ بحبرٍ نازف.
هل رأيتَ من قبل قلباً يسيرُ فوق الجليدِ حافياً؟ هكذا أنا، كلُّ خطوةٍ نحو النجاة تُنزفُ وحدها، وكلُّ ابتسامةٍ تُخفي مأتماً في داخلي، تعبتُ من كوني طيفًا لا يُرى، صوتًا لا يُسمع، إنساناً لا يُشبه أحداً، ولا يُشبهه أحد، أنا مثلُكَ، بل ربما أنا أكثر، أنا الذي صار الحزن فيه لغة، والوحدةُ وطناً..
بقلم: ضحى أحمد الباسوسي
شيئاً فشيئاً، صارت الوحدة رفيقته، وصار انهياره في العمل هو الطريقة الوحيدة التي عرف بها أنه مازال موجوداً.
هو لم يكن يحكي قصةً للشفقة، ولا يكتب رثاء لحياةٍ لم تبدأ، كلّ ما هنالك أنه حاول أن يقول ما لم يُسمع، أن يُخرج من صدره هذا الصدى الذي طال حبسه، فها هو تكلم... لنسمعه، كما يسمع نفسه الآن، بصوتٍ لا يسمعه أحد سواه:
أنا ظلٌّ يتكئ على العدم، أُشبه الغيمَ حين يُرهِقُه البُكاءُ ولا يُمسِكُهُ سَماء، أمشي على الأرصفة كأنني لا أنتمي لخطى أحد، لا تُناديني جهة، ولا تُغويني محطة، أنا وحدي، كما الشجرة التي تساقط عنها الربيعُ ولم تجد في الخريفِ كتفًا تُسندُ عليهِ اغترابها.
أجلسُ بصمتي، لا يُشاركني في الغرفة إلا صدًى قديمٌ لصوتٍ نسيته الحياة، أكتبُ وحدي، كمن يحاول أن يخيط جراحه بحروفٍ بالية، يُرتّقُ بها ما مزّقتهُ الخيبات، لا وجهة آمنة... لا مرفأَ يفتحُ ذراعيه لي ليقول لي "هنا يمكنك أن تتنفس"، كلُّ الأمكنةِ ضيقةٌ عليَّ، كلُّ الوجوهِ مؤقتة، كلُّ الحضنِ حلمٌ مُعطّل.
أخفي ارتجاف قلبي خلف قناعٍ من صلابةٍ مستعارة، أُتقن دور الصامد لأن الانهيار لا يجد وقتاً كافياً لينفجر، أتظاهر بالقوة، أُمثّل الثبات، أُخفي تصدّعي بابتسامةٍ خجلى تُشبه شروقاً كاذباً في ليلةٍ لا تنوي الرحيل، أعيش على ضفاف الوهم، أتنفس من رئة الحلم فقط، كأن الواقع سمٌّ لا يُحتمل، كلّ نبضةٍ في صدري تسألني: لماذا؟ وأعجز عن الجواب...
أُحبُّ الحياة، نعم، لكن الحياة لا تُبادلني الشعور، فقدتُ الشغفَ كما تُفقد الريحُ بوصلةَ الرجوع، صرتُ أعيشُ بلا أمنية، بلا انتظار، حتى الحنين أصبح حطباً لا يُشعلُ دفئاً، فقط يحترق ببطءٍ داخلي.
أحاول أن أستيقظ، لكنني أسقط في نومٍ أعمق، نومٍ ليس فيه راحة، بل هروبٌ أطول، أحلامي هي أرضي الوحيدة، فيها أنجو، فيها أجدني، فيها أعيشُ ما سُلب مني.
في الحلم فقط أحب، أُسامح، أُعانق، أضحك، أعود طفلًا يركضُ نحو حضنٍ لا يخافه، أما في الواقع، فأنا دخانُ شمعةٍ منسيّة، يُطفئها الهواءُ ولا يلتفت، لا صديق يسألني: هل أنت بخير؟ لا نافذة تطل على الأمل، أكتبُ لأن الكتابة بقاياي، لأن الصمتَ يقتُلني، ولأن العالم لا يسمعُني إلا إذا بكيتُ بحبرٍ نازف.
هل رأيتَ من قبل قلباً يسيرُ فوق الجليدِ حافياً؟ هكذا أنا، كلُّ خطوةٍ نحو النجاة تُنزفُ وحدها، وكلُّ ابتسامةٍ تُخفي مأتماً في داخلي، تعبتُ من كوني طيفًا لا يُرى، صوتًا لا يُسمع، إنساناً لا يُشبه أحداً، ولا يُشبهه أحد، أنا مثلُكَ، بل ربما أنا أكثر، أنا الذي صار الحزن فيه لغة، والوحدةُ وطناً..
بقلم: ضحى أحمد الباسوسي