في آخر الليل، حين تسكن الأصوات وتختبئ الأنفاس خلف الجدران، يظل ضوء هاتفها مشتعلاً كشمعةٍ صغيرةٍ في غرفةٍ أرهقها الانتظار، لا أحد يعلم أن سعرها ذاك ليس حباً في الليل، بل محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقّى منها من روح، هو شكل من أشكال المقاومة لديها، أو ربما نوع من أنواع الإنتقام الصامت ضد النهار الذي يبتلعها دون أن يستأذن، ضد الساعات التي تُسرق منها وهي تبتسم في وجوهٍ من حولها.
تؤجل النوم، كأن في تأجيله حياة لها، هي تعتقد أن النوم استسلامٌ نهائي، وإغلاق العيون يعني الاعتراف بالهزيمة، ف تظل جالسة أمام شاشةٍ باردةٍ، تُحدق في اللا شيء، تستمع إلى دقات قلبها وهي تتثاءب من التعب، بينما عقلها يهمس: “ليس الآن... ليس بعد.”
اعتبرت الليل وطنها الأخير، آخر بقعةٍ تملكها في هذه الدنيا التي لم تمنحها شيئاً إلا الشعور بأنها دائماً متأخرة عن نفسها وعن الأخرين، ف تحاول البحث في تلك اللحظات الليلة عن بقايا حريةٍ لها، عن دقيقةٍ تأخذ فيها قرارها وحدها: متى تأكل و متى تنام، لا الساعة تقرر عنها ذلك، ولا العمل، ولا الحياة... إنه تمرد صغير، لكنه يحمل في جوفه وجعاً كبيراً، وجع أولئك الذين أرهقتهم النهارات الطويلة وهم يلبسون وجوهاً ليست وجوههم، ويقفون في طوابير الحياة دون أن يعرفوا لماذا... هي تسهر، لأن في السهر مساحة نجاة، لأن العتمة تتيح لها أن تكون نفسها دون أن يراها أحد، أو يطلب منها أحد أداء دور أخر غير أن تكون هي، ف التعب لم يعد يخيفها بقدر ما يخيفها الغياب عن ذاتها..
تنظر إلى الساعة، تمرّ الدقائق ببطءٍ كأنها تجرّ أذيالها عبر رمال قلبها، تعرف أنها ستعاني غداً، لأنها تقوم بنفس ذات الدور ككل يوم وكل نهار، تعرف أن العيون ستُثقل، وأن الجسد سينحني أكثر، لكنه لا يهم، فهي الآن تمارس حريتها الأخيرة: أن تختار إرهاقها بيديها.
يا لها من مفارقةٍ قاسية، أن يصبح السهر دواءً لجراحٍ صنعها النهار، وأن يغدو الليل ملاذاً للمنهكين من الضوء، كأننا جميعاً نحاول أن نسرق لحظةً من الزمن نخبئها في جيب القلب، نهمس لها: "هذه لي" وفي نهاية الليل، حين يقرر النوم أخيراً أن يزحف كغيمةٍ ثقيلة، تُغلق عينيها لا لتستريح، بل لتهرب قليلاً من فكرة أن غداً سيبدأ الدور من جديد، وسيبقى الليل دائماً المكان الوحيد الذي يشبهها، يشبه تلك الأرواح التي تتأخر عن النوم... لا لأنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد أن تُغلق آخر نافذةٍ تطلّ منها على نفسها من جديد.
بقلم: ضحى أحمد الباسوسي
تؤجل النوم، كأن في تأجيله حياة لها، هي تعتقد أن النوم استسلامٌ نهائي، وإغلاق العيون يعني الاعتراف بالهزيمة، ف تظل جالسة أمام شاشةٍ باردةٍ، تُحدق في اللا شيء، تستمع إلى دقات قلبها وهي تتثاءب من التعب، بينما عقلها يهمس: “ليس الآن... ليس بعد.”
اعتبرت الليل وطنها الأخير، آخر بقعةٍ تملكها في هذه الدنيا التي لم تمنحها شيئاً إلا الشعور بأنها دائماً متأخرة عن نفسها وعن الأخرين، ف تحاول البحث في تلك اللحظات الليلة عن بقايا حريةٍ لها، عن دقيقةٍ تأخذ فيها قرارها وحدها: متى تأكل و متى تنام، لا الساعة تقرر عنها ذلك، ولا العمل، ولا الحياة... إنه تمرد صغير، لكنه يحمل في جوفه وجعاً كبيراً، وجع أولئك الذين أرهقتهم النهارات الطويلة وهم يلبسون وجوهاً ليست وجوههم، ويقفون في طوابير الحياة دون أن يعرفوا لماذا... هي تسهر، لأن في السهر مساحة نجاة، لأن العتمة تتيح لها أن تكون نفسها دون أن يراها أحد، أو يطلب منها أحد أداء دور أخر غير أن تكون هي، ف التعب لم يعد يخيفها بقدر ما يخيفها الغياب عن ذاتها..
تنظر إلى الساعة، تمرّ الدقائق ببطءٍ كأنها تجرّ أذيالها عبر رمال قلبها، تعرف أنها ستعاني غداً، لأنها تقوم بنفس ذات الدور ككل يوم وكل نهار، تعرف أن العيون ستُثقل، وأن الجسد سينحني أكثر، لكنه لا يهم، فهي الآن تمارس حريتها الأخيرة: أن تختار إرهاقها بيديها.
يا لها من مفارقةٍ قاسية، أن يصبح السهر دواءً لجراحٍ صنعها النهار، وأن يغدو الليل ملاذاً للمنهكين من الضوء، كأننا جميعاً نحاول أن نسرق لحظةً من الزمن نخبئها في جيب القلب، نهمس لها: "هذه لي" وفي نهاية الليل، حين يقرر النوم أخيراً أن يزحف كغيمةٍ ثقيلة، تُغلق عينيها لا لتستريح، بل لتهرب قليلاً من فكرة أن غداً سيبدأ الدور من جديد، وسيبقى الليل دائماً المكان الوحيد الذي يشبهها، يشبه تلك الأرواح التي تتأخر عن النوم... لا لأنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد أن تُغلق آخر نافذةٍ تطلّ منها على نفسها من جديد.
بقلم: ضحى أحمد الباسوسي