قال لي فتى في السابعة عَشْرة: ما لك تُدِيم النّظر إليّ، كأنّك تعرفُني، يا شيخ؟!
قلتُ له: أعرفُكَ وتُنكرني، يا فتى!
قال: وأين عَرفتني ومتى، وأنا لا أتذكّرُك؟!
قلتُ: التقيتُك قبلَ سبع وعشرين سنة، مِن يومِ النّاس هذا.. كُنّا -أنا وأنت- رفيقي دَرب، أو قل: كُنّا واحداً، إنْ شِئت!
تعجّبَ الفتى قائلاً...
في طريق عودتي من طبيب الأسنان مساءً، مِلتُ إلى مقهىً معروف بجانب الكرخ من بغداد.
اخترتُ أن أجلس خارجاً، رُغم القَرّ والصِّرّ.. اتَّكأت على الأريكة بفراشها الوطيءِ الوثيرِ.. وضعت رِجلاً على رجل وأخذتُ نَفَساً عميقاً من هواءٍ مُنعش لم يُكدّره سوى نُسَيمات دُخان من أركيلة جارٍ على طاولة قريبة...
في مجلسٍ عامر بالأشياء، ما رأيتُ «اللاشيء» ولمحتُ فراغَه بين شيئين!
وجّهتُ وجهي شَطرَهما، فغارَ بصري بينَ بينِهما مُنساباً إلى اللاشيء حيثُ اللاحيث..
قلتُ: أيّها اللاشيء، يا مَن لا يستأهل خِطاباً ولا يُحير جَواباً.. ما أنتَ؟!
فإذا الجواب هاتف يَسري في المسام كماءٍ يتسرّب عبر الخلال، دون أن يطرق...
غربٌ وشرقُ،
جنوب وشَمالْ..
اتجاهاتٌ تذرَعُ بنا الأرض لأبعادها،
قصيّةً ودنيّة..
أبعادِها التي لا بُدّ أن تلتقي ذاتَ ارتِحال،
فلا يعود الشرق شرقاً،
ولا الغرب غرباً،
ولا الجنوب ولا الشَّمال!
تُطوّح بنا لأقاصي الغرب الأمريكيّ..
بقسوته ووحشيته وغُربته،
أنهارِه وخُضرته،
وأوشالِ إنسانيّة بدائيّة...