" ما بالهم حين مررت
كشروا عن أنيابهم
ثم مضوا لا يرجعون..
ما بالهم
لم يبق منهم في المدى
سوى صدى نباح... "
ـ محمد الخمار الكنوني
– ديوان رماد هسبرس –
-
ها هي المدينة أخيرا..
المدينة التي طالما سمعت عنها..
عفريت بالليل وغول بالنهار..
أرصفة وجدران مقروءة بالعيون واللواحظ ..
وصلت إليها هذا الصباح ..
هذا الصباح فقط وصلت ونزلت من الحافلة في محطة هذه المدينة.. لم أكن أرغب بزيارتها لكني أتيتها مكرها.. مخلفا ورائي قريتي الملغاة من تخطيطات الخرائط .. تسوقني قطعان أحلامي الندية.. وأحمل فوزي المبين بعد أن ودعت إخوتي وهم يزدردون صبرهم .. وأمي وقد علقت بعنقي تميمة من صوف الأنعام.. وأبي وهو ما فتئ يردد على مسامعي ضرورة الاحتراس من مقالب اللصوص والنشالين حتى وهو يلوح للحافلة بعمامته.. تحسست جيوبي .. أشيائي في مكانها .. الأشياء هنا تختفي كالفقاقيع.. الألوان باهتة .. والأضواء تخطف الأبصار.. الكثير ليس فيه بركة.. الخبز كالفخار.. والصحة صحة عدوك.. والصداقات صداقة ذئب.. الجار مجرور .. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .. الأحياء في عذاب.. والأموات أشد عذابا.. كل شيء بالمال.. التبول بقدر والخراء بضعفه.. عندنا كل شيء من دون مقابل.. الأكل والشراب والحب.. نأكل من هبة الطبيعة ونرتوي من ماء النبع.. مراحيضنا الفلوات والمزارع والمنعطفات.. أسخياء نحن.. ما يطعم عشرة يكفي لعشرين.. وكل من تصادفه يستقبلك باحتفالية نادرة.. حتى كلابنا تعترضك بحفاوة بالغة.. هي هنا لها أسماء ومربوطة بسلاسل…
الساعة الآن السابعة صباحا.. وموعد المقابلة التاسعة.. أمامي ساعتان أتمشى خلالهما قليلا… أكتشف هذه المدينة التي طالما سمعت عن غرابة سلوك مسلميها .. بدأت التحرك .. كانت الشوارع تتحرك .. والساحات والحيطان والنواصي أيضا وأيضا.. عالم غريب مسكون بالهشاشة والارتجال والضجيج والترقب.. والمارة متأبطين شرورهم .. يغدون السير لا يكلون من المشي والنميمة ..
لايلتفتون..
ولا يتوقفون..
ولا يتكلمون..
يلتقون.. ويتصادمون..
يراوغون أوهامهم..
ويتشابكون.. ويسبون الملة والدين والذي خلق…
متعبون .. مغبرون.. ماكرون .. تعطلت لديهم لغة الكلام.. كأنما ورثوا هموم الدنيا.. يحدقون بأبصار طاعنة في الشرود.. لا يحملون مصابيح كما فعل الجد ديوجين الكلبي ، لأنهم لا يبحثون عن الحقيقة .. ورواد المقاهي يحاصرونك ببلاهة النظرة ووضاعة القناعة.. غوغائيون.. ضوضائيون.. متعتعون بيانا وعلما.. راكبين رؤوسهم.. لا يشق لهم غبار.. يناقشون في الجنس والطب والدين والزرع والضرع.. وتعجبت كيف يمكن لشعب يقضي وقته في الكلام الفارغ أن ينتج ويتقدم.. ولا أعتقد أن الاختراعات والثورات تخرج من المقاهي.. ولم أصدق كيف تتعايش كل هذه المتناقضات في هذا الحيز الضيق من الأرض، لا شك أنهم يحيون على المصائب والمكائد والدسائس والبخل والرياء….
وصلت إلى وسط المدينة.. لم يكن لها قلب.. فقط مدائن فوق مدائن فوق مدائن.. على واجهاتها أضواء ملونة تضيء وتنطفئ .. والباعة يعرضون أكواما من السلع والمأكولات لم أشاهد مثلها في حياتي.. خاطبتها في سريرتي على طريقة الدراويش والمتصوفة والنساك والمهابيل وأهل الكرامات:
/ مواعيدنا الجنة /...
واكتفيت بالنظر
اصرِف فُؤادَك يا عباس ملتفتا عنها = وَإِلا فَمُت من حبها كمدا
ابتلعت ريقي ومضيت لا الوي على شيء ..
دنوت من البناية.. قرأت العنوان على الصفيحة الجدارية.. قرأت العنوان على ظهر الرسالة.. تحسست جيوبي.. ووقفت مشدوها أرنو لشموخ الطوابق.. قلت: يا أيها المزخرف من الظاهر كيف أخبارك من الباطن.. ورميت بجثتي.. طفقت أجوس عبر الممرات المعتمة.. والأدراج الملتوية التي تنتهي بعتمة.. كانت أبواب الحجرات موصدة.. ولم يكن ثمة ما يشي بالحياة.. فقط كتيبة من الصراصير توقع مارشا صراصيريا.. خلت أن اليوم يوم عطلة.. لكن إشراع أبواب العمارة والهمس والخشخشة وراء الجدران أكدا عكس ذلك..لاحظت أيضا تناسق المعمار قلت يخلق من الشبه أربعين..وضحكت في دخيلتي من هذا الشبه العجيب والغريب…
هممت بطرق الباب/أنا محسوبكم عباس / الذي لا يقيم دجاجة عن بيضها، هممت بطرق الباب..رفعت يدي بتثاقل.. أفردت سبابتي وعقفتها.. كان قلبي يدق بعنف.. والدم يضج في العروق.. أحسه ساخنا ينساح عبر خلايا الجسد محدثا دوائر تحتضن دوائر كبركة دماء.. حاولت ضبط أنفاسي.. أنا الآن على مشارف ميادين القتال.. ومقبل على حرب ضارية لا هوادة فيها.. لا بد من استنفار كامل قواي.. وأنا ليس لدي ما أخسره في الجيب ليأتيني ما في الغيب ، على رأي المثل كما يقول إخواننا المصريون… سفائني أحرقتها ساعة خلفت في هدوء البراري والفلوات إنسانيتي.. وأتيت دالقا لساني انشد نعمة الوظيفة وحظوة الجاه..
هممت بطرق الباب.. وكأنما كان يراقبني ابن الذين .. أطل وانتصب أمامي كالمارد… حاجب الإدارة على حدود الظلام الخفيف الباهت غير المفهوم والغامض..
ـ قلت له صباح الخير يا أستاذ..
هز كتفيه
ـ سألته عن اسم الإدارة
حرك رأسه كالثور..
ـ أفهمته أني جئت من بعيد أبحث عن عمل..
رد بطرفي عينيه وهو يرمق الجواب ويرمقني..
ـ استفسرته إن كان حضرة المسئول موجودا..
مط شفتيه تبرما واختفى..
ذاب وسط عتمة الأبهاء وتركني .. أحتضن نجاح سنوات العمر.. لا أدري كم غاب المهم أنه غاب دهرا بأكمله.. كانت خلاله الأرض تدور تحت شمس يونيو.. وغلال الكروم والفواكه تصطلي بصهد وحرارة شمس العنصرة..
وتذكرت يوم الخامس من يونيو الجريح وذات هزيمة…
في الخامس من حزيران انكفأت الجيوش العربية وتفرقت شراذمها واندحرت فلولها..
في يونيو لم تعلق رقاب الجواسيس والخونة .. بل زينت بالنياشين والنجوم وجدائل الحرير..
في حزيران لا نجيد سوى لغة الخيانة والدموع ..
من أين يأتي كل هذا الكم من الدموع .. وعلى شاطئ أي بحر تتلاطم هذه الأمواج من الحنين والأحزان والكوارث والخيبات .. وما اسم هذا البحر.. نحن لا بر لنا ولا بحر.. صدقت يا محمود يا درويش ..
فمن لا دار له لا قبر له ..
حزيران فاتحة الانكسارات ..
يونيو بداية الخسارات..
تذكرت كل هذه الأشياء.. وتعجبت كيف تدخل هذه الهلوسات دماغي وفي هذا المكان المتمترس بالخراب..
رددت على الحاجب رغبتي .. حدجني باحتقار.. تأفف بضيق ومد يده لجرابي.. دقق جيدا في محتوياته.. نظر لكسرة الخبز السمراء والبيض المسلوق بتقزز.. وطرحه أرضا.. وقادني عبر متاهة الممرات.. وصلنا أمام إحدى الغرف.. استأذن قبل أن يفسح لي الطريق.. ترجلت خارجا / داخلا من ظلام البهو إلى حلكة أخرى اشد قتامة .. ليل قائم بذاته.. ليل أعمق من ليل.. ليل مولج في النهار.. لكنه أشد ألقا من ليل حقيقتنا الضائعة في دياميس هذا الزمان الكئيب.. وإن لم أحدد ملامح المكان الذي احتواني بداية الأمر.. هذا هواء وهسيس رفرفة مروحية يصلني عن قرب.. وهذا فراش يميد تحت قدمي.. تلفت بحذر شديد.. أمامي مباشرة يقف شخص فاحم.. تراجعت إلى الخلف.. صار طوله يوازي نصف قامتي.. راقبت الشبح من فوق/ راقبني الشبح من تحت.. رفعت يدي أتقي لكمة محتملة… هذا ظلي معلق على الجدار يسامرني … وظهرت من خلفه الملفات والرفوف والجوارير ترمقني ببرودة الجماد.. تركت الظل مشبوحا ورائي واستدرت بسرعة.. وجدتني أمام مكتب من خشب رفيع.. ومجلة وخيط دخان وكمشة ضياء منحسرة على الورق المشرع… تسمرت في مكاني أنتظر ما سوف تسفر عنه المجلة التي يحمل غلافها صورة لامرأة عارية.. لا شك أن وراءها بطل لا يكل من النزال.. الآن عرفت سر المثل القائل بأن وراء كل عظيم امرأة..
قفز إلى مخيلتي ما قرأته يوما عن شبقية الخليفة هارون الرشيد، عندما ضبطته زبيدة وهو يتلصص عليها وهي تستحم كما وضعتها أمها في بحيرة الصفحة 337 خلال الليلة 410 من ليالي ألف ليلة وليلة في مجلدها الثاني للمطبعة الشعبية ببيروت المحروسة.. ولما أبصرته أخفت فرجها بيديها خجلا فقال الرشيد والرواية للأميرة شهرزاد والشعر للحسن بن هاني من جملة أبيات:
نظرتني سترته = فاض من بين اليدين
….
كانت ملابسي ملتصقة ببدني ورجلاي تحملاني على مضض.. لم أنم طيلة البارحة.. ولم أطعم غير الغبن والخيبة والخسارات .. ولم اشرب سوى حليب النجوم وسهاد الليل .. ليل الطريق الطويل..
تحركت المجلة.. وظهرت رأس صلعاء حمراء شحماء.. وامتدت يد بضة ثخينة .. أزالت نظارات طبية عن عينين منتفختين ومحتقنتين من أثر النعمة.. ودعست دخينة في منفضة بلورية .. مددت يدي محييا .. لم تمتد لي اليد الثخينة .. ولم تمتد لأوراقي .. أفردتها أمامه .. لم يكحل عينيه بشهادتي.. صرف نظره عنها باحتقار وسلطه علي .. كانت ملامحه تشي بالكلل والبلاهة والكراهية .. طأطأت رأسي .. نظرت إلى هندامي متفحصا .. سروالي ليس مقلوبا وإن كان رثا .. وقميصي أيضا أزراره في مكانها وإن تآكلت ياقته .. تحسست أذناي وقفاي ومؤخرتي .. وخفضت له جناح الذل من المسكنة والبهدلة..
لم اتبين كيف أشار للحاجب الذي لكزني بذراعه .. جمعت أوراقي .. تبعته .. قادني عبر الممرات إلى قاعة أخرى .. فتح الباب .. دفعني وانصرف .. وجدتني إزاء صفوف من المكاتب فوقها أوراق وكؤوس وأباريق شاي وصواني وقناني فارغة .. بكرات صوف وهواتف .. وتحتها أزبال وقشور فول سوداني ونوار شمس وبذور قرع وأعقاب سجائر وغلايين وحشيش .. أشياء عديدة أهمها سحنات شاحبة وعيون مليئة بالأسى والإحباط ..
مررت بخطاي أمام المخلوقات القابعة وراء خشب المناضد .. ذرعت أرضية القاعة .. وأوراقي بيميني .. كانت الغرفة مضاءة جيدا .. وخيط شعاع رفيع يمتد من كوة بأعلى الجدار إلى الزاوية السفلى المقابلة.. المغطاة بأكداس من الرسائل بعضها مفتوح وبعضها مغلق..
درت حول المكاتب نصف دورة .. وحول نفسي دورة كاملة .. أخذني دوار وغثيان.. افتعلت ابتسامة صفراء كي أداري بها خيبتي .. لم تتحرك المخلوقات .. ولم تفطن لوجودي .. كانت غارقة في خدمة هذا الوطن السعيد ... أنا الأبله ، الأجوف ، الأحمق ، الأخرق ، الأهبل ، الأهوج ، الأمي ، الأناني ، الإمعة ، الانتهازي ، البائس ، البخيل ، البشع ، التافه ، التعيس ، الدنيء ، الذليل ، الجاحد ، الجاهل ، الجبان ، الحاقد ، الحسود ، الحقير ، الخامل ، الخبيث ، الخسيس ، الخواف ، العاق ، العبيط ، العنيد ، الكافر ، الكذاب ، الكسول ، الكريه ، الرجيم ، الرعديد ، الصفيق ، الضال ، الضعيف ، الظالم ، السافل ، الساقط ، السخيف ، السفيه ، السمج ، الشحيح ، الشرير ، الشقي ، الفاجر ، الفاسق ، الفاشل ، القبيح ، القذر ، القميء، اللقيط ، الماجن ، المارد ، الماكر ، المـأفون ، المتجهم ، المتحامل ، المتحذلق ، المتخلف ، المتسخ ، المتسلط ، المتعجرف ، المتعنت ، المتغطرس ، المتمرد ، المتناقض ، المتهافت ، المتهور ، المدعي ، المجرم ، المحتال ، المخرب ، المعتوه، المعدم، المعقد ، المغرور ، المفتري ، المفسد ، المفلس ، المقامر ، المقيت ، الملحد ، المنافق ، المنتفع ، المنحط ، النتن ، النذل ، النجس ، النصاب ، النمام ، الوصولي ، المتسلط ، السليط اللسان ، العديم الحياء ، ناكر الخير والإحسان ، الآتي من مراتع البقر والحمير، لا أراعي الأعراف ، ولا أعمل حسابا لاحمرار عيون الحكومة وسطوة ووقار الوظيفة .. أنا ابن ال (… ) الفاعل التارك الذي لعب بعقله وضحك عليه كارل ماركس ولينين وتروتسكي وتشي غيفارا وروزا ليكسمبورغ.. وملأت سفاهة الكتب التافهة يافوخه بفكرة الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا والمساواة بين المواطنين وحقوق الإنسان والحرية والسلام والديمقراطية والأممية الاشتراكية والكومونات وتحرير الشعوب وثورات الفلاحين وإضرابات العمال والطلبة وحرب العصابات الطويلة الأمد وصداع الرأس..
توجهت نحو أحدهم كان قد صحا من النوم لتوه .. تنحنح وفرك عينيه .. وضعت أوراقي أمامه .. شرعت أفسر له أني أتيت من بعيد أبحث عن عمل كي أعيل أسرتي وأشد أودها .. نظر إلي محملقا.. ونظر إلى أصدقائه .. نظروا إلى بعضهم البعض بغرابة .. ونظروا إلى جميعهم بشماتة .. الرجال والنساء نظروا إلي بتمعن .. كما لم ينظر إلي من قبل الرجل الذي ولدني .. وضحكوا حتى أبانوا على النواجذ.. كانت أسنانهم مدببة وصفراء وعليها بقايا أطعمة .. كنت ما زلت ألغو .. قام أحدهم بتثاقل.. تمطط حدست من حركاته أنه يود التوجه إلى دورة المياه .. توجه نحو الزاوية.. أخد حزمة من الرسائل وخرج .. كنت لا أزال أتكلم عن أصلي وفصلي ونجاحي وفقري .. أول الأمر لم أصدق أذني.. حسبته أنينا أو شخيرا .. لكن حينما تكررت الزمجرة ارتعدت فرائصي .. كانوا قد بدأوا يكشرون عن أنيابهم .. وكانت وجوههم الصقيلة قبل حين .. قد كسيت بالحراشف والزغب وأذانهم استطالت قليلا.. وأضحت عيونهم حمراء كلهب الكوانين .. وشرعوا في العواء .. تراجعت إلى الخلف هلعا مرتاعا .. وقلت لخيلي ما قاله امرؤ القيس بن حجر الكندي: " كري مرة بعد إجفال ".. لم أتذكر تماما كيف خرجت من البناية . هل قفزت الأدراج .. أم انشق الاسمنت المسلح .. لكني أتذكر أني خرجت وحسب . وأني كنت أجري ولا ألتفت .. كان النباح قد أخذ يشتد ويرتفع وهو يتعقب أثري ... والمارة ينظرون إلي ويضحكون .. وصلت إلى مشارف المدينة . كان العسس قد شرعوا في إغلاق البوابات . ودوريات الشرطة وفرق خفر السواحل تجوب المنطقة . وقبة السماء قد ازدانت بنجوم المجرات . والقمر حزين حزين ... استلقيت على الأرض .. كنت متعبا وجائعا . سروالي تمزق . والعرق ينسكب من جسدي وثيابي مبتلة . وعروقي نافرة .. ورائحة الغبار ممتزجة بلزوجة الجسد المهزول .. كنت كجرو يخرج من معركة كلابية خاسرا مكسورا مدمى وممزقا .. تذكرت إخوتي وأهلي .. وصحت في خاطري قرابين أمي .. دعواتها وشموعها ووعودها.. ووصايا أبي الصارمة ووعيده .. وأمنيات خليلتي .. وصداقة الكلاب والقطط التي رافقتها ردحا من الزمن واقتسمت وإياها الخبز والملح .. وددت لو أقابلها وأعانقها وأسند عليها رأسي وأبوح لها بانكسارات العمر الجميل..
نزعت قميصي لوحت به للسيارات الآتية باتجاهي .. كان أربابها يمعنون في السرعة .. لا شك أنهم علموا بحكاية الفتي القادم من بادية الرحامنة ليعمل بالمدينة .. كنت ألوح بيدي وقميصي .. كان الظلام قد عم تماما .. وأضواء المدينة باهتة كالنمش تأتي من بعيد ولا تصل .. تغرق في لجة الأطلسي الأزرق المحيط الجميل السخي الودود .. وفيما كنت أتثاءب وأمشي وأصيخ السمع لصياح الديكة والطيور .. ويترامى إلى مسامعي آذان الفجر .. كان النباح لا يزال يترصدني في الأحراش والغابات والوديان والفجاج المجاورة…
أوقفت إحدى الحافلات .. ارتميت وسطها على عجل .. كانت ممتلئة عن آخرها .. افترشت أرضيتها المتسخة الباردة .. كان كل ركابها يتضاحكون .. وكنت بمفردي أبكي…
نقوس المهدي / المغرب
* اصرف فؤادك يا عباس ملتفتا - قصيدة العباس بن الأحنف
** شعر أبو نواس - من كتاب ألف ليلة وليلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة (صنائع من نوبة عراق العجب) - منشورات منتدى مطر 2014
كشروا عن أنيابهم
ثم مضوا لا يرجعون..
ما بالهم
لم يبق منهم في المدى
سوى صدى نباح... "
ـ محمد الخمار الكنوني
– ديوان رماد هسبرس –
-
ها هي المدينة أخيرا..
المدينة التي طالما سمعت عنها..
عفريت بالليل وغول بالنهار..
أرصفة وجدران مقروءة بالعيون واللواحظ ..
وصلت إليها هذا الصباح ..
هذا الصباح فقط وصلت ونزلت من الحافلة في محطة هذه المدينة.. لم أكن أرغب بزيارتها لكني أتيتها مكرها.. مخلفا ورائي قريتي الملغاة من تخطيطات الخرائط .. تسوقني قطعان أحلامي الندية.. وأحمل فوزي المبين بعد أن ودعت إخوتي وهم يزدردون صبرهم .. وأمي وقد علقت بعنقي تميمة من صوف الأنعام.. وأبي وهو ما فتئ يردد على مسامعي ضرورة الاحتراس من مقالب اللصوص والنشالين حتى وهو يلوح للحافلة بعمامته.. تحسست جيوبي .. أشيائي في مكانها .. الأشياء هنا تختفي كالفقاقيع.. الألوان باهتة .. والأضواء تخطف الأبصار.. الكثير ليس فيه بركة.. الخبز كالفخار.. والصحة صحة عدوك.. والصداقات صداقة ذئب.. الجار مجرور .. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .. الأحياء في عذاب.. والأموات أشد عذابا.. كل شيء بالمال.. التبول بقدر والخراء بضعفه.. عندنا كل شيء من دون مقابل.. الأكل والشراب والحب.. نأكل من هبة الطبيعة ونرتوي من ماء النبع.. مراحيضنا الفلوات والمزارع والمنعطفات.. أسخياء نحن.. ما يطعم عشرة يكفي لعشرين.. وكل من تصادفه يستقبلك باحتفالية نادرة.. حتى كلابنا تعترضك بحفاوة بالغة.. هي هنا لها أسماء ومربوطة بسلاسل…
الساعة الآن السابعة صباحا.. وموعد المقابلة التاسعة.. أمامي ساعتان أتمشى خلالهما قليلا… أكتشف هذه المدينة التي طالما سمعت عن غرابة سلوك مسلميها .. بدأت التحرك .. كانت الشوارع تتحرك .. والساحات والحيطان والنواصي أيضا وأيضا.. عالم غريب مسكون بالهشاشة والارتجال والضجيج والترقب.. والمارة متأبطين شرورهم .. يغدون السير لا يكلون من المشي والنميمة ..
لايلتفتون..
ولا يتوقفون..
ولا يتكلمون..
يلتقون.. ويتصادمون..
يراوغون أوهامهم..
ويتشابكون.. ويسبون الملة والدين والذي خلق…
متعبون .. مغبرون.. ماكرون .. تعطلت لديهم لغة الكلام.. كأنما ورثوا هموم الدنيا.. يحدقون بأبصار طاعنة في الشرود.. لا يحملون مصابيح كما فعل الجد ديوجين الكلبي ، لأنهم لا يبحثون عن الحقيقة .. ورواد المقاهي يحاصرونك ببلاهة النظرة ووضاعة القناعة.. غوغائيون.. ضوضائيون.. متعتعون بيانا وعلما.. راكبين رؤوسهم.. لا يشق لهم غبار.. يناقشون في الجنس والطب والدين والزرع والضرع.. وتعجبت كيف يمكن لشعب يقضي وقته في الكلام الفارغ أن ينتج ويتقدم.. ولا أعتقد أن الاختراعات والثورات تخرج من المقاهي.. ولم أصدق كيف تتعايش كل هذه المتناقضات في هذا الحيز الضيق من الأرض، لا شك أنهم يحيون على المصائب والمكائد والدسائس والبخل والرياء….
وصلت إلى وسط المدينة.. لم يكن لها قلب.. فقط مدائن فوق مدائن فوق مدائن.. على واجهاتها أضواء ملونة تضيء وتنطفئ .. والباعة يعرضون أكواما من السلع والمأكولات لم أشاهد مثلها في حياتي.. خاطبتها في سريرتي على طريقة الدراويش والمتصوفة والنساك والمهابيل وأهل الكرامات:
/ مواعيدنا الجنة /...
واكتفيت بالنظر
اصرِف فُؤادَك يا عباس ملتفتا عنها = وَإِلا فَمُت من حبها كمدا
ابتلعت ريقي ومضيت لا الوي على شيء ..
دنوت من البناية.. قرأت العنوان على الصفيحة الجدارية.. قرأت العنوان على ظهر الرسالة.. تحسست جيوبي.. ووقفت مشدوها أرنو لشموخ الطوابق.. قلت: يا أيها المزخرف من الظاهر كيف أخبارك من الباطن.. ورميت بجثتي.. طفقت أجوس عبر الممرات المعتمة.. والأدراج الملتوية التي تنتهي بعتمة.. كانت أبواب الحجرات موصدة.. ولم يكن ثمة ما يشي بالحياة.. فقط كتيبة من الصراصير توقع مارشا صراصيريا.. خلت أن اليوم يوم عطلة.. لكن إشراع أبواب العمارة والهمس والخشخشة وراء الجدران أكدا عكس ذلك..لاحظت أيضا تناسق المعمار قلت يخلق من الشبه أربعين..وضحكت في دخيلتي من هذا الشبه العجيب والغريب…
هممت بطرق الباب/أنا محسوبكم عباس / الذي لا يقيم دجاجة عن بيضها، هممت بطرق الباب..رفعت يدي بتثاقل.. أفردت سبابتي وعقفتها.. كان قلبي يدق بعنف.. والدم يضج في العروق.. أحسه ساخنا ينساح عبر خلايا الجسد محدثا دوائر تحتضن دوائر كبركة دماء.. حاولت ضبط أنفاسي.. أنا الآن على مشارف ميادين القتال.. ومقبل على حرب ضارية لا هوادة فيها.. لا بد من استنفار كامل قواي.. وأنا ليس لدي ما أخسره في الجيب ليأتيني ما في الغيب ، على رأي المثل كما يقول إخواننا المصريون… سفائني أحرقتها ساعة خلفت في هدوء البراري والفلوات إنسانيتي.. وأتيت دالقا لساني انشد نعمة الوظيفة وحظوة الجاه..
هممت بطرق الباب.. وكأنما كان يراقبني ابن الذين .. أطل وانتصب أمامي كالمارد… حاجب الإدارة على حدود الظلام الخفيف الباهت غير المفهوم والغامض..
ـ قلت له صباح الخير يا أستاذ..
هز كتفيه
ـ سألته عن اسم الإدارة
حرك رأسه كالثور..
ـ أفهمته أني جئت من بعيد أبحث عن عمل..
رد بطرفي عينيه وهو يرمق الجواب ويرمقني..
ـ استفسرته إن كان حضرة المسئول موجودا..
مط شفتيه تبرما واختفى..
ذاب وسط عتمة الأبهاء وتركني .. أحتضن نجاح سنوات العمر.. لا أدري كم غاب المهم أنه غاب دهرا بأكمله.. كانت خلاله الأرض تدور تحت شمس يونيو.. وغلال الكروم والفواكه تصطلي بصهد وحرارة شمس العنصرة..
وتذكرت يوم الخامس من يونيو الجريح وذات هزيمة…
في الخامس من حزيران انكفأت الجيوش العربية وتفرقت شراذمها واندحرت فلولها..
في يونيو لم تعلق رقاب الجواسيس والخونة .. بل زينت بالنياشين والنجوم وجدائل الحرير..
في حزيران لا نجيد سوى لغة الخيانة والدموع ..
من أين يأتي كل هذا الكم من الدموع .. وعلى شاطئ أي بحر تتلاطم هذه الأمواج من الحنين والأحزان والكوارث والخيبات .. وما اسم هذا البحر.. نحن لا بر لنا ولا بحر.. صدقت يا محمود يا درويش ..
فمن لا دار له لا قبر له ..
حزيران فاتحة الانكسارات ..
يونيو بداية الخسارات..
تذكرت كل هذه الأشياء.. وتعجبت كيف تدخل هذه الهلوسات دماغي وفي هذا المكان المتمترس بالخراب..
رددت على الحاجب رغبتي .. حدجني باحتقار.. تأفف بضيق ومد يده لجرابي.. دقق جيدا في محتوياته.. نظر لكسرة الخبز السمراء والبيض المسلوق بتقزز.. وطرحه أرضا.. وقادني عبر متاهة الممرات.. وصلنا أمام إحدى الغرف.. استأذن قبل أن يفسح لي الطريق.. ترجلت خارجا / داخلا من ظلام البهو إلى حلكة أخرى اشد قتامة .. ليل قائم بذاته.. ليل أعمق من ليل.. ليل مولج في النهار.. لكنه أشد ألقا من ليل حقيقتنا الضائعة في دياميس هذا الزمان الكئيب.. وإن لم أحدد ملامح المكان الذي احتواني بداية الأمر.. هذا هواء وهسيس رفرفة مروحية يصلني عن قرب.. وهذا فراش يميد تحت قدمي.. تلفت بحذر شديد.. أمامي مباشرة يقف شخص فاحم.. تراجعت إلى الخلف.. صار طوله يوازي نصف قامتي.. راقبت الشبح من فوق/ راقبني الشبح من تحت.. رفعت يدي أتقي لكمة محتملة… هذا ظلي معلق على الجدار يسامرني … وظهرت من خلفه الملفات والرفوف والجوارير ترمقني ببرودة الجماد.. تركت الظل مشبوحا ورائي واستدرت بسرعة.. وجدتني أمام مكتب من خشب رفيع.. ومجلة وخيط دخان وكمشة ضياء منحسرة على الورق المشرع… تسمرت في مكاني أنتظر ما سوف تسفر عنه المجلة التي يحمل غلافها صورة لامرأة عارية.. لا شك أن وراءها بطل لا يكل من النزال.. الآن عرفت سر المثل القائل بأن وراء كل عظيم امرأة..
قفز إلى مخيلتي ما قرأته يوما عن شبقية الخليفة هارون الرشيد، عندما ضبطته زبيدة وهو يتلصص عليها وهي تستحم كما وضعتها أمها في بحيرة الصفحة 337 خلال الليلة 410 من ليالي ألف ليلة وليلة في مجلدها الثاني للمطبعة الشعبية ببيروت المحروسة.. ولما أبصرته أخفت فرجها بيديها خجلا فقال الرشيد والرواية للأميرة شهرزاد والشعر للحسن بن هاني من جملة أبيات:
نظرتني سترته = فاض من بين اليدين
….
كانت ملابسي ملتصقة ببدني ورجلاي تحملاني على مضض.. لم أنم طيلة البارحة.. ولم أطعم غير الغبن والخيبة والخسارات .. ولم اشرب سوى حليب النجوم وسهاد الليل .. ليل الطريق الطويل..
تحركت المجلة.. وظهرت رأس صلعاء حمراء شحماء.. وامتدت يد بضة ثخينة .. أزالت نظارات طبية عن عينين منتفختين ومحتقنتين من أثر النعمة.. ودعست دخينة في منفضة بلورية .. مددت يدي محييا .. لم تمتد لي اليد الثخينة .. ولم تمتد لأوراقي .. أفردتها أمامه .. لم يكحل عينيه بشهادتي.. صرف نظره عنها باحتقار وسلطه علي .. كانت ملامحه تشي بالكلل والبلاهة والكراهية .. طأطأت رأسي .. نظرت إلى هندامي متفحصا .. سروالي ليس مقلوبا وإن كان رثا .. وقميصي أيضا أزراره في مكانها وإن تآكلت ياقته .. تحسست أذناي وقفاي ومؤخرتي .. وخفضت له جناح الذل من المسكنة والبهدلة..
لم اتبين كيف أشار للحاجب الذي لكزني بذراعه .. جمعت أوراقي .. تبعته .. قادني عبر الممرات إلى قاعة أخرى .. فتح الباب .. دفعني وانصرف .. وجدتني إزاء صفوف من المكاتب فوقها أوراق وكؤوس وأباريق شاي وصواني وقناني فارغة .. بكرات صوف وهواتف .. وتحتها أزبال وقشور فول سوداني ونوار شمس وبذور قرع وأعقاب سجائر وغلايين وحشيش .. أشياء عديدة أهمها سحنات شاحبة وعيون مليئة بالأسى والإحباط ..
مررت بخطاي أمام المخلوقات القابعة وراء خشب المناضد .. ذرعت أرضية القاعة .. وأوراقي بيميني .. كانت الغرفة مضاءة جيدا .. وخيط شعاع رفيع يمتد من كوة بأعلى الجدار إلى الزاوية السفلى المقابلة.. المغطاة بأكداس من الرسائل بعضها مفتوح وبعضها مغلق..
درت حول المكاتب نصف دورة .. وحول نفسي دورة كاملة .. أخذني دوار وغثيان.. افتعلت ابتسامة صفراء كي أداري بها خيبتي .. لم تتحرك المخلوقات .. ولم تفطن لوجودي .. كانت غارقة في خدمة هذا الوطن السعيد ... أنا الأبله ، الأجوف ، الأحمق ، الأخرق ، الأهبل ، الأهوج ، الأمي ، الأناني ، الإمعة ، الانتهازي ، البائس ، البخيل ، البشع ، التافه ، التعيس ، الدنيء ، الذليل ، الجاحد ، الجاهل ، الجبان ، الحاقد ، الحسود ، الحقير ، الخامل ، الخبيث ، الخسيس ، الخواف ، العاق ، العبيط ، العنيد ، الكافر ، الكذاب ، الكسول ، الكريه ، الرجيم ، الرعديد ، الصفيق ، الضال ، الضعيف ، الظالم ، السافل ، الساقط ، السخيف ، السفيه ، السمج ، الشحيح ، الشرير ، الشقي ، الفاجر ، الفاسق ، الفاشل ، القبيح ، القذر ، القميء، اللقيط ، الماجن ، المارد ، الماكر ، المـأفون ، المتجهم ، المتحامل ، المتحذلق ، المتخلف ، المتسخ ، المتسلط ، المتعجرف ، المتعنت ، المتغطرس ، المتمرد ، المتناقض ، المتهافت ، المتهور ، المدعي ، المجرم ، المحتال ، المخرب ، المعتوه، المعدم، المعقد ، المغرور ، المفتري ، المفسد ، المفلس ، المقامر ، المقيت ، الملحد ، المنافق ، المنتفع ، المنحط ، النتن ، النذل ، النجس ، النصاب ، النمام ، الوصولي ، المتسلط ، السليط اللسان ، العديم الحياء ، ناكر الخير والإحسان ، الآتي من مراتع البقر والحمير، لا أراعي الأعراف ، ولا أعمل حسابا لاحمرار عيون الحكومة وسطوة ووقار الوظيفة .. أنا ابن ال (… ) الفاعل التارك الذي لعب بعقله وضحك عليه كارل ماركس ولينين وتروتسكي وتشي غيفارا وروزا ليكسمبورغ.. وملأت سفاهة الكتب التافهة يافوخه بفكرة الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا والمساواة بين المواطنين وحقوق الإنسان والحرية والسلام والديمقراطية والأممية الاشتراكية والكومونات وتحرير الشعوب وثورات الفلاحين وإضرابات العمال والطلبة وحرب العصابات الطويلة الأمد وصداع الرأس..
توجهت نحو أحدهم كان قد صحا من النوم لتوه .. تنحنح وفرك عينيه .. وضعت أوراقي أمامه .. شرعت أفسر له أني أتيت من بعيد أبحث عن عمل كي أعيل أسرتي وأشد أودها .. نظر إلي محملقا.. ونظر إلى أصدقائه .. نظروا إلى بعضهم البعض بغرابة .. ونظروا إلى جميعهم بشماتة .. الرجال والنساء نظروا إلي بتمعن .. كما لم ينظر إلي من قبل الرجل الذي ولدني .. وضحكوا حتى أبانوا على النواجذ.. كانت أسنانهم مدببة وصفراء وعليها بقايا أطعمة .. كنت ما زلت ألغو .. قام أحدهم بتثاقل.. تمطط حدست من حركاته أنه يود التوجه إلى دورة المياه .. توجه نحو الزاوية.. أخد حزمة من الرسائل وخرج .. كنت لا أزال أتكلم عن أصلي وفصلي ونجاحي وفقري .. أول الأمر لم أصدق أذني.. حسبته أنينا أو شخيرا .. لكن حينما تكررت الزمجرة ارتعدت فرائصي .. كانوا قد بدأوا يكشرون عن أنيابهم .. وكانت وجوههم الصقيلة قبل حين .. قد كسيت بالحراشف والزغب وأذانهم استطالت قليلا.. وأضحت عيونهم حمراء كلهب الكوانين .. وشرعوا في العواء .. تراجعت إلى الخلف هلعا مرتاعا .. وقلت لخيلي ما قاله امرؤ القيس بن حجر الكندي: " كري مرة بعد إجفال ".. لم أتذكر تماما كيف خرجت من البناية . هل قفزت الأدراج .. أم انشق الاسمنت المسلح .. لكني أتذكر أني خرجت وحسب . وأني كنت أجري ولا ألتفت .. كان النباح قد أخذ يشتد ويرتفع وهو يتعقب أثري ... والمارة ينظرون إلي ويضحكون .. وصلت إلى مشارف المدينة . كان العسس قد شرعوا في إغلاق البوابات . ودوريات الشرطة وفرق خفر السواحل تجوب المنطقة . وقبة السماء قد ازدانت بنجوم المجرات . والقمر حزين حزين ... استلقيت على الأرض .. كنت متعبا وجائعا . سروالي تمزق . والعرق ينسكب من جسدي وثيابي مبتلة . وعروقي نافرة .. ورائحة الغبار ممتزجة بلزوجة الجسد المهزول .. كنت كجرو يخرج من معركة كلابية خاسرا مكسورا مدمى وممزقا .. تذكرت إخوتي وأهلي .. وصحت في خاطري قرابين أمي .. دعواتها وشموعها ووعودها.. ووصايا أبي الصارمة ووعيده .. وأمنيات خليلتي .. وصداقة الكلاب والقطط التي رافقتها ردحا من الزمن واقتسمت وإياها الخبز والملح .. وددت لو أقابلها وأعانقها وأسند عليها رأسي وأبوح لها بانكسارات العمر الجميل..
نزعت قميصي لوحت به للسيارات الآتية باتجاهي .. كان أربابها يمعنون في السرعة .. لا شك أنهم علموا بحكاية الفتي القادم من بادية الرحامنة ليعمل بالمدينة .. كنت ألوح بيدي وقميصي .. كان الظلام قد عم تماما .. وأضواء المدينة باهتة كالنمش تأتي من بعيد ولا تصل .. تغرق في لجة الأطلسي الأزرق المحيط الجميل السخي الودود .. وفيما كنت أتثاءب وأمشي وأصيخ السمع لصياح الديكة والطيور .. ويترامى إلى مسامعي آذان الفجر .. كان النباح لا يزال يترصدني في الأحراش والغابات والوديان والفجاج المجاورة…
أوقفت إحدى الحافلات .. ارتميت وسطها على عجل .. كانت ممتلئة عن آخرها .. افترشت أرضيتها المتسخة الباردة .. كان كل ركابها يتضاحكون .. وكنت بمفردي أبكي…
نقوس المهدي / المغرب
* اصرف فؤادك يا عباس ملتفتا - قصيدة العباس بن الأحنف
** شعر أبو نواس - من كتاب ألف ليلة وليلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة (صنائع من نوبة عراق العجب) - منشورات منتدى مطر 2014