إبراهيم محمود - إيروتيكا كُرَة القَدَم

ربما أمكن اعتبار قدم الرياضي بالنسبة إلى كرة القدم هي قلمه، ريشته، وجسده في خدمتها وأن الملعب هي قرطاسه العشبيّ الصناعي، سوى أن اللون والكلمة يصبحان حركات موجهة .
إيروتيكياً لا تنفصل كل حركة جسدية عن توثب عضوي وتركيز على " نقطة " معينة هي التي ينبغي على اللاعب أن يتهيأ لها، ويكون قد تدرَّب سابقاً على اعتماد كل الوسائل المشروعة للوصول إلى بغيته، أي كيفية تسجيله لهدف أو أكثر من خلال تواجده مع آخرين وبمفرده أيضاً. هي بغيته في الرؤية الحسية، لكنها تدرج اللاعب في نطاق بغية من يتولى أمره واستثماره، وصولاً إلى أعلى سلطة ذات طابع رياضي، ومكانتها " التعبوية " الخاصة في المجتمع !
إن انفعالية اللاعب وهو يدير شؤون الكرة أو يمرّرها أو يتلقاها أو " يشوطها " صوب جهة معينة معلومة هي " المرمى " لا تعدو أن تكون جملة من الأداءات الاستعراضية، ضمنها ما يمكن وصفه بالطاووسية للفت الأنظار وملؤه حماس، وتتوج في المحصَّلة في خرق صفوف الفريق الآخر، بوصفه مرصوداً، والنشوة المتحققة في كل تجاوز أو تلعُّب بالكرة، ومن ثم لحظة الذروة: الانتشاء وهو وضع نعظي، وتسجيل الهدف هو نظير استمنائي، كما ينظَر في الحالة الهيجانية وفاعلية الجذب التي تتملكه في إثرها حركة وصيحات، كأن اللغة لا دور لها هنا، وحده المرئي أو المسموع هو الذي يمثّل الجسد الأخف وزناً بلباسه وحتى " حذائه " الرياضي يترجم هذه العلاقة الخفية والمثيرة وذات الدلالة بطابعها الجنساني، عندما يستحيل المرمى مرصوداً أنثوياً، وأن المسدَّد بالمقابل يُري وضعية الداخل في مواقعة ساخنة: متعة " الإصابة ".
الجمهور معرِّس، الحكّام مفتون وقفيون، الملعب ساحة عرسان تم اختيارهم ولكل منهم اسمه، وموقعه، ولكنهم في مجموعهم موصولون بما هو مرتَقَب: تسجيل المزيد من " المواقعات/ الجماعات / الخرقات..."، ويبرز هتاف الجمهور في الجهتين تعزيزاً للعب، واستعراض القوة، وتحفيزاً على " الدخول " وانتظار لحظة " الدخول " وما يترتب عليها من تصفيق وهتافات ومن ثم صفير في عملية كورسية تفاعلية، كما لو أن الجمهور المتفرج نفسه يلعب، ويخفف من وطأته النفسية، وكل هدف له اعتباره، والغلبة تتخذ سمة النزال الجسداني، والجنساني ضمناً.
أنوّه إلى أنه لطالما كان هناك من يسخر من فريق مغلوب من قبل آخر بعبارة " لقد فعلوها فيكم " وأكثر وضوحاً وسفوراً، أي ما يجعل من الجنسانية محركة رئيسة فاعلة في هذا المنحى المفتوح، واعتبار الجاري لعباً مبرئاً من كل تحيز إيديولوجي، ووهم التسمية " لاحظوا إلام يستند اتحاد كرة القدم " الفيفا " ومن أين تكون انطلاقته، وكيف. في الغرب طبعاً " وما يندرج في ذلك من انتاج أجساد رياضية لأعلى أنواع الاستهلاك القابلة للبازارات السياسية، وكيف تقام المباريات، وتكون هناك عروض للدعايات والإعلانات، وتقديم برامج رياضية، وندوات، ومن ثم تخصيص صحف ومجلات، وإدخال الرياضة في بنية كل مؤسسة إعلامية وما فيها من تفريغ قوى، واندفاع المجتمعات التي لا تشبع خبزاً إلى المشاركة في هذا النوع من اللعب"، وكيفية توجيه الأنظار إلى رهانات ذات طابع ترويضي لملايين " الفقراء " وهم يحشَرون بأساليب شتى في هذا المشهد " الجماهيري " المتقن، وبهرجة اللعبة من " فوق " : قارنوا بين مؤلَّف " معذّبو الأرض " لفرانز فانون، في ستينيات القرن الماضي ونقده لهذا النوع من الرياضة ومن يستثمره، ومؤلف " الهيمنة الذكورية " لبيار بورديو، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ومحفّزات النظام الجنسي في المجتمعات الغربية، وأركيولوجيا الرغبة، وهي بديناميكية مبرمجة ، كما في " تاريخ الجنسانية " لفوكو ...الخ، لتبين كيفية إدارة الجسد، ومركزة القدم وكل ما يدخل في خدمتها، لتكون اليدان مجذافين للجسم الموصول بالقدمين، ومشهدية العري النسبي وغواية المرئي فيه، حيث الرشاقة المعروضة لها ثمنها بعمق..!
نحن هنا إزاء تحويل ديناميكية القوة إلى القدمين ولكنهما لا تنعزلان عن القوة المدروسة وهي في مأثرتها الاقتصادية: اقتصاد الحركات، وعراقتها السياسية: دبلوماسية الحركة والمناورة تحديداً، ودلالة " كرة السياسة " الدوارة، إنما الدائرة في السياقات المعنونة والمراقَبة ومستهدَفها، وبنيانها النفسي: كيفية ضبط النفس والمجاهدة والتماسك، ومعزّزها الجنسي ولو في إطار تحويري: هل أكون مبالغاً إن قلت إن بعض اللاعبين ممن يتملكهم الهياج وقد سجلوا أهدافاً مباشرة أو بالتشارك يشعرون بوضعية استمناء على وقع الجذب الحركي ؟
إلا أن علينا في المنحى الأبعد من الرؤية الكشفية للعب، وفي ضوء المستجدات، لا يجب أن نغفل عن أن اللاعبين ودون استثناء، نظراء الثيران وهم يتقابلون ويدخلون في صراع مستميت صريح. إن فعل " النزو " للثور مثاب، وبمقابل يتم، وثمة من يشرف عليه، ويوجه طاقته لفعل " تلقيح " ما، فلا يكون الاهتمام به عائداً إلى ذاتية ثُورية حصرية أبداً، وإنما إلى المنتظَر فعله من الثور بالذات، إذ إنه من حيث القيمة الفعلية في جلده ولحمه وشحمه، مثلاً، دون المبلغ المدفوع له من قبل الجهة المعنية بالقريق، ومن يكافئه وهو في مقام النائب عنه، إذ علينا أن نتحدث هنا عن القيمة الرمزية للجسد الرياضي، والمطلوب منه، أن يعوّض المراهن عليه، بالمصاريف المكلَّفة في الشراء والنفقات وغيرها، وهذا يصلمنا بما تقدَّم ذكره.
اللاعب الرياضي، وفي كرة القدم بالذات، ونظراً لوجود سوق عالمية " تترجمها كلمة: الموند: المونديال " محكومة بشروط اللعب، هو معروض جسدي، وثمة من يراقبه ويستعين بخبراء في هذا المجال، وكل صفقة تستند إلى دراسة الجدوى الاقتصادية وحتى السياسية في ذلك.
لا يعود جسده، حتى هو نفسه له، إنما لمن حازه. ف وسعه أن يمتّع نفسه، في أوقات معينة، لكنها مدروسة جهة التأكيد على أن حريته مؤممة خارج مضماره الشخصي، وهذا ما عليه التنبُّه إليه، وهو أنه " حيوان رهان " وبقدمين مطلوبتين وكرة هي محك اختباره .
لا شك أن النجومية التي تستولدها كرة القدم الرياضية يمكن أن تدفع بالرياضي إلى واجهة التاريخ، وتنال إعجاب الملايين أحياناً، وهم يقتدون به إلى مستوى جنوني، ليكون فارس أحلام الفتيات، ومحط إعجاب الشباب حركة واقتناء ما يصلهم به، وهذا من شأنه تسهيل عملية ارتقائه إلى المطلوب الجسدي بالمثل، كما لو أن الهدف الكروي، يستحيل قضيبياً، وتتضاعف المتعة بالتوازي، وما في ذلك من تفجير المكبوت، ومن تخفيف للمكبوت النفسي مباشرة أو اعتماد على ما هو فيتيشي، وثمة الصوت، ووسائل التواصل الاجتماعي المعتبرة تتكفل بتقريب جملة من المسافات، من اللاعب الرياضي إلى اللاعب الجنسي أو الفحل، كما هو متداول .
يمكن للمهتم بمكونات الجسد وتبعاً للمكان والزمان، أن يلاحظ ما هو قديم لم ينفد رصيده، وما هو مضاف إليه لجعله أقوى، وما هو مستحدث استجابة لمتغيرات عصرية، وتبعاً للشروط التي تفرض على الملعب ومن يتصل به ومن يتابع، ومن ينشغل بأمره في المكان الأبعد ، لكن ابستمولوجيا الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً، ومن منظور سيميائي محض، ترينا ما هو أبعد من المباشر: مجرد لعب بين فرق، وتمتين علاقات بين الدول، وما يتحرك في هذا الإطار، أي ما تكونه الرياضة في أصلها: بناء الجسد المطلوب، للقيام بمهام مسجلة، ولا بد أن الفعل الجنسي بوساعة مفهومه وتدرجات مؤثراته، يشغل الجسد الرياضي وفي كرة القدم بأكثر من معنى: أن يستشعر اللاعب نعظاً متحولاً في تكوينه الجسدي وهو بلباسه الخفيف، وقد سجَّل هدفاً أو أكثر في مرمى الآخر" المجنسن "، وما ينتظره من إمتاع فعلي هذه المرة، مع جسد أنثوي حقيقي تأكدت من فحولته/ نجوميته، فوجدت فيه قابلية إشباع ما لرغبة قارة فيها، وفي الحالتين يتأطر الجسد بما هو اجتماعي وعلى أعلى مستوى مونديالياً، وما يضفى عليه من وهم التجلي بقواه المعزَّزة، كما لو أن الجاري في مضمار" الموندياليزم " عالمياً غير مؤثّر من خراب ودمار أو وضعية قياماتية مروّعة، تكاد تنعي البشرية بخاصيتها الأخلاقية هنا وهناك، ومن خلال ترسانة هائلة من وسائل الدعاية وقنوات البث المختلفة لجعل العالم ملعبياً/ قَدَمياً !
أي إن في مقدور هذه اللعبة الأكثر تداولاً وليس شعبية بالمفهوم الحرفي للكلمة، أن تشكّل إشهاراً بعلامات إيروتيكية معتنىً بها، في الجسد الفلسفي، الأدبي، الفني، الاجتماعي، ومن ثم النفسي الغربي وخلافه، نظراً لامتلاكها لأكثر ضروب الإغراء والاستقطاب والمؤهَّلة لأن تدار في سياقات شتى على مستوى مراكز القوة، وتصريف القوى الجسدية الكامنة، بدءاً من الحركة الأولية ومن ثم تناميها وصولاً إلى ما بعد فعل الانتشاء والاحتفاء بذلك وتفخيمها براغماتيكياً !
وحدهم المتحكمون بخاصية الغلمنة والشبق الجارف داخلهم، ممن يديرون اللعبة، داخل الملعب وخارجه: لعبة رياضية مسجلة ومتلفزة، وأخرى موزَّعة بعلاماتها مجتمعياً لتحوير ذلك المكبوت المرتبط بأكثر من رغبة غير محقَّقة أو محظورة وتحويرها والاستئثار بحقيقتها.



إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى