إبراهيم محمود - هِبُوني سَلَّةَ مهمَلاتِكُم لو تكرَّمْتُم!.. فكر ونقد

ربما يكون طلبي غريباً ومريباً في آن، إذ ماالذي أنشده منه؟ وكيف لرجل مثلي " وبعيداً عن التعالي طبعاً "، أن يستخدم " هبوني " وربطها بتلك، وفيها الكثير من سَقَطُ المَتَاع تقديراً ؟
اعلموا جيداً أنني لن أمضي بسلتكم هذه إلى مكب النفايات / حاوية الزبالة لأفرغ فيها محتوياتها وأعيدها إليكم فارغة من باب الخدمة، كما يمكن أن يُظَن، خدمة لا أعتقدكم عهدتموني فيها في يوم ما، وليس لدى أي هوى من نوع فيتيشي محدَّد بأوعية كهذه، إنما ما لا تحيطون به علماً، أو هكذا أتصور، أي ما تسهون عنه وقد يكلّفكم الكثير، وربما ما تندمون عليهم ما بقيتم أحياء .
سلة المهملات هذه، التي ينظَر فيها أو إليها بقرف عموماً، أو تودَعها موادٌ تعتبَر فاقدة القيمة حتى دون النظر فيها في البيت، في مكتب العمل، في أي دائرة رسمية وغيرها، مغبونة جداً، ولعلها جرّاء هذا الغبن " سوء التقدير " تنال منكم ما لا تنتبهون إليه إلا بعد فوات الأوان .
أتحدث عما يمكن أن توضَع فيها من قصاصات أوراق، أو صور، أو حتى صفحات مقتطعة من كتب، أو مستنسخات معينة، لها قيمة فائقة، يجري التخلص منها، وتركها للأيدي العابثة، أو للمصادفات التي قد يكون لها هواتها وربما محترفوها في التلصص والتربص والتخصص، إذ يسارعون بطرقهم الخاصة إلى التحرّي فيها بدقة لافتة، كما لو أنهم آثاريون مدرَّبون، وبمزيد من الفضول والمتعة والتوق إلى بغيتهم: إيجاد ما تم تسريبه أو رميه وهو محتفظ بقيمة لا تقدَّر بثمن، أو قد تكلّف الشخص أو الجهة العائدة إليها الكثير.
يمكن توسيع خانة القول في هذا الجانب. وعلى سبيل المثال، إن تذكرنا كاتباً ما، ربما تجده مقبِلاً على موضوع معين، فيخطط، أو يخربش، ولا تخلو علاقته مع الورق من حالة عصبية إذ يسارع إلى رمي ورقة أو أكثر في سلة المهملات المجاورة لطاولته أومكتبه، وقد تتكرر قائمة المحاولات في هذا الشأن، وهذا ينطبق على الموظف، في عدم التيقظ مما يُرمى فيها، ويمضي بمحتوياتها بعيداً، دون أي تفكير فيما انهمَّ به، فيجد الفضولي أو المتربص به ما يبحث عنه، وربما ما يغذّي ملكة الإلهام، والتعرض لموضوع استناداً إلى فكرة واحدة أو أكثر لم تُستسَغ من جهة الكاتب، أو ورقة أو صورة مستنسخة لم تكن واضحة ولكنها تحمل قيمة وثائقية معينة، تُتستَبدَل بغيرها بعد رميها في السلة المذكورة، لتثير خيالات معنيين بهذا الجانب وتفيدهم .
بالتوازي مع ما تقدَّم، قد تستقبل السلة الموسومة موادَّ تستخدَم في الكتابة، أو أدوات مكتبية، أو منزلية، وحتى شخصية وثمينة بالمقابل، نقود وغيرها وفي لحظة شرود أو عدم تركيز، أو نوبة انفعال...، تكون على الطاولة أو الكنبة أو الكرسي، تُضَم إلى غيرها تلك المندرجة في عداد " سقط المتاع "، لا ينتبَه إليها حتى بعد فقدانها بزعم أنه من المستحيل ارتكاب خطأ كهذا، وهذا من بين أكثر الحالات النفسية إضراراً بالشخص : الكاتب أو الموظف، أو صاحب البيت أو المرأة التي تدير شئونه، كما لو أنهم معصومون عن الوقوع في أخطاء " قاتلة " أحياناً كهذه .
حتى الآن لم أتحدث عن تلك المجالات التي تتضمنها عبارة " سلة المهملات " كون البحث شائكاً وإشكالياً، لحظة التعرض لما يمكن إهماله أو تنحيته ومن ثم اعتباره منتهية صلاحيته، لأن متابعة كهذه تتطلب مكاشفته على أكثر من صعيد، ودون نسيان تنوع المواقف وحدّيتها، لكن الذي أعنيه، وبدءاً من العنوان، لا يشكو من أي إشكالية، إنما هو تنبيه إلى ما هو خطير، وبالمقابل، إلى تلك النوازع النفسية التي تتقاسم المرء وربما تمارس فيه طحناً وتحريباً ومن ثم افتئات قوىً، ومن خلال موقعه ووضعه، وظروف عمله، وصلاته بمن حوله، وما يمكن تسميته بضروب الانتقامات التي تنال منه ومن خلاله على وقع هذا التسرُّع أو الثقة اللافتة بالنفس، أو ضعف التقدير لما بين يديه، أو عدم التدقيق في الجاري تخطيطه أو خربشته وسرعة التخلص منه، بزعم سيطرته على كل ما بين يديه وأمام ناظريه، ودوام النظر فيما رُمي أو جرى طرحه بعيداً، لأن هناك افتتاناً بفكرة معينة، وهي بلون معين، وحالة معينة، وتحت تأثير أفكار مسبقة، أي دون مراعاة عامل تدخلات اللاوعي الذي يسرّب عبارة أو مقولة، أو جملة وهي ناقصة، ولكنها تمثّل ومضة مدهشة، ومفتاحاً لموضوع أو أكثر اُستغلِق على أحدهم، أو بمثابة الدواء لداء وبيل، وهو بُعد آخرمن أبعاد الاستهانة باللاشعوري والخزّان الهائل للمدَّخر فيه .
لعلّي أستطيع القول، ودون تقديم إثباتات، إنما كاحتمال قائم، أن هناك نسبة معينة من الكتاب وحتى المفكرين ذوي الصيت من يراهنون على أنشطة جارية وبيّنة الأثر كهذه، وهم يتابعون ذلك بطرق شتى: شخصية أو بوساطة آخرين، ليس من باب الهواية إنما الدراية والاطلاع على " فلتات " كهذه، وقد تصدم موضوعات وهي محمَّلة بطائفة أفكار، أو بفكرة ما وقد تمثَّلت في مقال أحدهم أو أكثر، أو حتى كتاب أو أكثر، أولئك الذين يعرَفون بهذا النوع من ضعف التركيز أو التسرُّع أو اليقظة تجاه كل ما تحمله أيديهم والمضي به إلى سلة المهملات، وهم يستغربون مما يجري، وليس لديهم أي دليل لإثبات سطو ما من قبل الآخر، أو السرقة، خصوصاً، حين تجد هذه المواد المطروحة في سلة المهملات، وما فيها من تصورات أو أفكار لم ينظَر في قيمتها طريقها إلى مقال يكتَب، أو حتى كتاب يجري تأليف سريعاً، بغية الأسبقية، وكون الفاعل هنا يقدّر " بضاعته " المسرقة " بالحلال " ويقدّر الزمن وما يكون مختلفاً، وينتظره القرّاء، فلا يعود في وسع الكاتب " الأصل " المضي بما توصَّل إلى كتابته، وقد بوغت بالمطروح، والذي قد يثير ذلك جنونه أو يهستره، ومن ثم دون أن يهدأ أو يعرف كيف جرى كل ذلك.
أذكّركم في السياق بكتاب " الهوامل والشوامل " لكل من التوحيدي ومسكويه، والهوامل ما ليس يُضبَط بي، كأنه البرّي، وما لبدعته الكبيرة هنا، والشوامل ما يخضع البرّي للضبط، أو لسلطة التدبير والتقعيد، ولكم نتلمس في هذا المقياس ما يخرج على القياس ويضيّق واسعاً .
هل لسلة المهملات وإيحاءاتها المختلفة من صلة بهذا المثال الأخير ؟
إنما الأهم هو: هل ما زلتم مصرّين على اعتبار سلة مهملاتكم كما هو تقديركم السابق لها، لتستمروا في إظهار علامات الدهشة والاستغراب من مطلبي المشار إليه بداية ؟!


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى